لا يمكن أن تمحى لسنوات وربما لعقود هذه الصورة التي أشعلت الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ويظهر فيها الفلسطيني جمال الدرة، وهو يرفع بيده لجنود الاحتلال الإسرائيلي، بينما يحتضنه نجله الصغير محمد، محتميًا به، لكن لا أحد يستجيب لصراخه، واستغاثته، فجأة يسقط الطفل على قدم والده، وتنتهي مخاوفه للأبد. كان استشهاد محمد الدرة هو الوقود الذي أشعل نار انتفاضة استمرت لسنوات، كانت صرخاته هي النار التي أشعلت لهيب النفوس، استشهد الصغير، لكن الشهداء لا يموتون، هم في النفوس الحرة خالدون، مثلما لم يفقد فلسطيني يومًا الأمل في أن تتحرر أراضيه. "المصريون" حاورت والد الشهيد محمد الدرة، خلال زيارته الحالية إلى مصر.. وإلى نص الحوار. هل يمكن أن تستعيد لحظات استشهاد نجلك؟ في يوم 30 سبتمبر عام 2000، طلب محمد أن نشتري سيارة أكبر للأسرة بدلًا من السيارة الصغيرة، فوافقته على رأيه وذهبنا معًا إلى غزة لشراء السيارة، لكن لم نوفق، وعند العودة وبين مفترق الشهداء كانت سيارات تابعة للاحتلال تغلق الطريق. حاولنا الالتفاف من طريق آخر، وفجأة وجدنا وابلًا من الرصاص ينهمر علينا بقوة، لم أجد مكانًا أحتمي به؛ فوضعت ابني خلفي لأحميه من الرصاص لكن الرصاص اخترق مناطق متفرقة من جسده. سألني محمد 3 مرات: "ليش بيطخوا علينا الكلاب؟" وردد الجملة ل3 مرات.. وبعدها أصيب في ركبته ليعلق بدون صريخ أو ألم أصابوني الكلاب، رددها 3 مرات، وأنا أدفع الرصاصات بجسدي من كل جانب، وهو يقول له "لا تخشى شيئا يا أبي". لم أكن أخشى على نفسي، ولكن كنت أخشى على ابني، وبعد لحظات سقط محمد برأسه على جانبي الأيمن، وفى ظهره حفرة كبيرة من رصاصات الأعداء، وقتها أدركت استشهاده، لم أهتم بالرصاصات المتطايرة حولي، ولا أعرف كيف نجاني الله، لأقص كل يوم قصة الشهيد الحي. عندما كنت أحرك رأسي كما يظهر في الفيديوهات والصور لم أكن وقتها مغيبًا، ولكن كان الألم يعتصرني بسبب استشهاد ابني، بعدها وصلت الإسعاف، فأخبرتهم بأنني لا أستطيع الحركة لأن الرصاصات كانت اخترقت معظم جسده، ولا يوجد فيه مكان لم يخترقه، ومن ثم تم نقله إلى المستشفى. بعد 18 عامًا من الانتفاضة الفلسطينية واستشهاد نجلك محمد الدرة.. ما الوضع الآن في فلسطين المحتلة؟ الوضع كما كان، ما زال أبطال غزة بعددهم وعتادهم القليل لا يرهبون الآلة الحربية للكيان الإسرائيلي، ويوميًا يقدم الأطفال والنساء أرواحهم فداءً للبلد، ولم ولن تنتهي الانتفاضة إلا بعد عودة كل نقطة رمل من أرضنا الحبيبة. الكيان الصهيوني ارتكب مجازر خلال الأيام الماضية، كيف تنظر إلى المقاومة في ضوء ذلك؟ يوميًا يخرج العشرات من الفلسطينيين في مسيرات سلمية تحت عنوان حق العودة، ويوم الجمعة تتجمع حشود كبيرة من الطوائف الفلسطينية في غزة، ويتم عمل مسيرات سلمية لا يوجد بها سلاح، واستغلت إسرائيل هذه الفرصة؛ فأطلقت النيران والمدافع على المسيرات، واستهدفت الأطفال والنساء وكبار السن، والدلالة على ذلك أنها كانت تضرب بعيدًا عن السياج، ودمرت مراكز المراقبة الفلسطينية التي تراقب تحركات الاحتلال الإسرائيلي. المقاومة الفلسطينية مستمرة ولكن إلى متى؟ حتى نسترجع كل ذرة رمل من أرضنا، الكيان الصهيوني يحاول أن يظهر للعالم أنه قوى، ولكن هذا غير صحيح، فهو أهون من ذلك بكثير، ويظهر ذلك في ما قامت به المقاومة في عام 2014، حيث كشفت ضعف الجانب الصهيوني، حيث كان لا يجرؤ جندي على النزول من دبابته المختبئ بداخلها، حتى أنهم كانوا يرتدون "البامبرز"؛ للتخلص من الفضلات دون الخروج من الدبابة. هناك سؤال قديم وملح يرى أن الفلسطينيين هم سبب ما حدث عندما باعوا أراضيهم ومنازلهم للاحتلال؟ هذه من ضمن الشائعات التي رددها الاحتلال حتى لا يكسب الشعب الفلسطيني تعاطف العالم العربي، وأنه هو من تخلى عن منزله وأرضه، ولكن كله محض افتراء. ما هي أسباب تعثر القضية الفلسطينية؟ الانقسام الفلسطيني الفلسطيني سبب رئيسي لتعثرها وعدم حلها حتى الآن، وتلعب إسرائيل بقوة في هذه المنطقة لتوسيع الخلاف بين أطراف الأسرة الواحدة، ومصر تقوم بدورها بشكل كبير لحل الانقسام، والمخابرات المصرية تقوم بجولات مكوكية يومية للحل بين رام اللهوغزة، ومصر ونحن نعرف أنها ستستطيع في النهاية الحل؛ لأنها أم كل العرب. ما رؤيتك في صفقة القرن؟ صفقة القرن موضوع قديم وتعمل الولاياتالمتحدة على تنفيذها منذ زمن بعيد، لكن رؤساء أمريكا السابقين لم يستطيعوا تنفيذها، ودونالد ترامب أخذ منحى مختلفًا عنهم ويحاول تنفيذها بالقوة، وأنا أعلم جيدًا أن هذه الصفقة لن تسقطها سوى مصر؛ لأنها لن تقبل بأي حال من الأحوال هذه الصفقة القذرة حتى في حال قبول بعض الدول العربية بها، الثقة في مصر غير محدودة وسنذكركم يومًا ما بأن مصر هي التي ستسقط صفقة القرن. إن هذه الاتفاقية بدأت برغبة قوية من الدول الكبرى في اتفاقية "سايكس بيكو" جديدة، حيث يتم تقسيم 3 دول إلى دويلات صغيرة العراق ومصر وسوريا، وكانت محاولة تقسيم العراق لأكراد وشيعة وسنة؛ لتتحول إلى دويلات صغيرة، ولكن لم تستطع على الرغم من أزمات العراق الطاحنة. هناك مزاعم نفتها مصر مرارًا عن توطين الفلسطينيين في سيناء في إطار "صفقة القرن"، كيف تنظر إليها؟ لن يقبل فلسطيني واحد ذرة رمل واحدة سوى من فلسطين، المسألة ليست مكانًا نقيم فيه، ولكن أرضنا هي التي لا تنازل عنها أيًا كان الثمن. ما رأيك في زيارة نتنياهو الأخيرة لسلطنة عمان؟ استقبال السلطان قابوس، سلطان عمان، لرئيس الوزراء الصهيوني، بنيامين نتنياهو، سقطة كبرى، وأعتقد أنها قد تكون من ضمن "صفقة القرن"، والتي تستهدف الموافقة العربية عليها، لكن الشعب العماني ضرب مثلًا رائعًا للعروبة، حيث رفض زيارة نتنياهو، والتطبيع مع الكيان المحتل، وهو موقف مشرف لهم. ما هو المخطط الإسرائيلي تجاه الدول العربية؟ إسرائيل دائمًا ما تسعى لإثارة الحروب في المناطق المجاورة لها، بحيث تحصل على مكاسب من تدميرها، وهو ما تفعله في سوريا ولبنان وكل بقعة مشتعلة في الوطن العربي، فالولاياتالمتحدة تزيد الاحتقان بين إيران والدول العربية؛ لإشعال المنطقة.