تظهر صور حديثة بواسطة الاقمار الصناعية بحيرة صغيرة خلف جسم سد النهضة الضخم في إثيوبيا والذي يمتد لمسافة ميل تقريبا على النيل الأزرق والذي تشكل مياهه التي تنبع من بحيرة تانا حوالي 80% من مياه النيل التي تصل مصر والسودان، أما ال 20% الأخرى فهي تأتي من النيل الأبيض الذي ينبع من بحيرة فيكتوريا في أوغندا. الخبراء يقولون إن البحيرة التي كشفتها الاقمار الصناعية هي خزان سد النهضة الذي تم استكمال حوالي 75% من منشآته ويقولون إن أثيوبيا ربما بدأت بالفعل في ملء بحيرة السد. السد بلا شك يمثل تهديدا لحصتي مصر والسودان التاريخية في مياه النيل ولكن السودان يبدو أقل قلقا من مصر وربما يكون السبب وراء هذا هو أن النيل الأزرق يصل إلى الخرطوم مباشرة دون المرور على دولة جنوب السودان. كما أن السودان بحاجة ماسة للكهرباء التي سوف تصدرها إثيوبيا إلى الدول المجاورة فور الانتهاء من السد. أما مصر آخر دول المصب فإن النيل يمثل مسألة حياة أو موت بالنسبة لها حيث تعتمد على النيل بنسبة تصل الى 90% لسد احتياجاتها من المياه المطلوبة للزراعة والصناعة والشرب وتوليد الكهرباء. مصر كانت تأمل أن تحترم الدول الإفريقية الاتفاقيات القديمة التي تحدد حصتها في مياه النيل ولكن هذه الدول تقول الآن إن هذه الاتفاقيات تم توقيعها مع الإنجليز أيام الاحتلال وليس مع حكومات مستقلة منتخبة في هذه الدول ومن ثم فإن من حقها إعادة التفاوض من جديد على حصص مياه النيل. أما بالنسبة لبحيرة سد النهضة التي التقطتها الاقمار الصناعية، فإنه من المدهش أن كل من إثيوبيا ومصر ينكران أن الأولى بدأت في ملء بحيرة السد وهي عملية قد تستغرق عدة سنوات، إثيوبيا تنكر هذا حتى لا تغضب مصر التي لها تحفظات فنية كثيرة على جسم السد وطريقة ملئ البحيرة. اما مصر فإنها تنكر خوفا من زيادة حالة القلق لدى المصريين. والخبراء المصريون الذين يذهبون من وقت لآخر لإثيوبيا غير مصرح لهم بالكلام من جانب القيادة السياسية واجهزة المخابرات في مصر. وحيث أن حكومتنا تؤمن بأن خير طريقة لحل المشاكل الصعبة هو تجاهلها فإن الكل يواصل تأجيل مواجهة المشكلة وينسون أن المشكلة تكبر مع الايام وأن السد سيكتمل لا محالة وأن البحيرة لابد ان تمتلئ حتى تتمكن إثيوبيا من تنمية شعبها الفقير وتوليد الكهرباء وتصديرها للدول الأفريقية المجاورة التي تنتظر بفارغ الصبر.
مشكلة المياه في دول حوض النيل كبيرة وخطيرة لان عدد سكان هذه الدول يتزايد بمعدلات كبيرة في الوقت الذي يعاني فيه النيل سواء الازرق أو الأبيض من ظاهرة الاحتباس الحراري والتقلبات المناخية التي تؤثر بالسلب على انتظام الأمطار التي تغذي منابع النيل حيث أصبحت الأمطار إما كثيرة وعنيفة خاصة في إثيوبيا وإما قليلة ومتأخرة عن موعدها بشكل مقلق. وفي أحسن الاحوال فإن مياه الامطار والنيل سوف تستمر على وضعها الحالي دون زيادة تتناسب مع اعداد البشر المتزايدة حوله. وتقدر بعض الدراسات أن عدد سكان حوض النيل بما فيها الدول الأخرى التي تقع حول بحيرة فيكتوريا جنوبا وتستفيد من مياه النيل الابيض مثل جنوب السودان وأوغندا وتنزانيا ورواندا وبوروندي يقدر ان يصل إلى 1000 مليون نسمة بحلول عام 2050. والنهر العجوز لا يعاني ديموغرافيا فقط ولكنه يعاني ايضا مناخيا كما أسلفنا حيث تؤدى زيارة ثاني أكسيد الكربون في الجو نتيجة الزيادة الهائلة في استخدامات الوقود الأحفوري خاصة الفحم والبترول إلى ارتفاع حرارة الأرض ومن ثم تبخر كميات كبيرة من مياه النهر. هذا بالإضافة إلى عمليات تلويث مياه النيل بشكل خطير من كل الدول الواقعة على ضفافه وعلى رأسها مصر حيث أصبح النيل مقلب للزبالة ومصب للمجاري ومقبرة لمخلفات المصانع والحيوانات النافقة ....الخ كل هذه المخلفات جعلت مياه النيل شبه مسمومة وقاتلة لأسماكه وأحيائه الأخرى التي تتعرّض للانقراض بسرعة كبيرة. والحلول البديهية للمشاكل المذكورة تتمركز حول ضرورة التعاون المخلص والتنسيق البناء بين دول حوض النيل بدلا من حملات التشكيك والتخويف والاتهامات الجارية حاليا والتهديد باستخدام القوة لأنه من حق إثيوبيا ان تبني السد. ولو أن نظام مبارك اتسم بالحكمة والمسؤولية عندما بدأت إثيوبيا في التخطيط لبناء السد في العقد الماضي إبان فترة حكمه لعرض مساعدة إثيوبيا في بنائه من خلال الخبرات المصرية العالية في تخطيط وإدارة وصيانة السدود ومولدات الكهرباء ولكانت مصر اليوم شريكا كاملا في بناء وتنفيذ سد النهضة بما يلبي احتياجات إثيوبيا ومصر معا ولكن مبارك ونظامه كان مشغولا بالنهب والسلب وتوريث الحكم لابنه فتجاهل الموضوع ولم يظهر إلا العداوة والاحتقار لإثيوبيا. ثم جاء نظام الحكم الحالي فتعامل مع المشكلة برعونة كبيرة ووقع بحسن نية على اتفاقات غير معلنة يقال انها تقنن أوضاع معينة لحصة مصر من المياه دون أن يتم إعلام الشعب بها. ولكن لازلت هناك فرصة لتغيير استراتيجية مصر في التفاوض الذي يركز حاليا على تعطيل بناء السد والتشكيك في سلامته وجدواه. بدلا من هذا ينبغي ان تتقبل مصر حقيقة ان السد سيقام وأن تعرض خبراتها وتعاونها مع أثيوبيا لإدارته بشك ناجح بما يعود بالفائدة على البلدين. وقد يندهش القارئ عنما يعلم ان حل المشكلة الاساسية للنيل والتي تتمثل في عدم قدرته في المستقبل القريب على الوفاء باحتياجات البشر المتزايدين حوله يتطلب بناء المزيد من السدود وخزانات المياه حوله من خلال التخطيط والتنسيق بي دول حوض النيل خاصة النيل الازرق. السعات التخزينية الاضافية سوف تساعد أثيوبيا ومصر والسودان على الاستفادة الكاملة من مياه الامطار العنيفة التي تهبط حول بحيرة تانا في مواسم كثيرة وتضيع هباءا في جبال ومستنقعات أثيوبيا. هذه الخزانات سوف تساعد على تلبية احتياجات هذه الدول في مواسم الجفاف الشديد التي تمتد احيانا لسنوات. ومن ثم فإن الانطباع السائد في مصر بأن سد النهضة مؤامرة للإضرار بمصر انطباع غير صحيح لان السد يمكن أن يعود بالنفع علينا لو تمت إدارته بشكل صحيح ولازلت الفرصة سانحة لو اننا لجأنا إلى العقلانية والدبلوماسية كما أسلفنا وتوقفنا عن الاساليب العدائية وتقبلنا حق أثيوبيا في بناء السد لتنمية شعبها الفقير جدا ولكن بشرط الا يضر هذا بشعب مصر. وقد ثبت لنا كاقتصاديين وبالأرقام ان بناء سدود جديدة أكثر جدوى وأقل تكلفة من بناء محطات لتحلية مياه البحر وهذا هو أمل دول حوض النيل للتخفيف من خطر نقص المياه في المستقبل. إن بناء محطات لتحلية مياه البحر يحتاج إلى توفير طاقة عالية جدا ومصاريف صيانة ضخمة وهو بديل تضطر فقط الدول التي لا توجد بها أنهار للجوء إليه. وبالإضافة إلى أهمية التعاون والتنسيق بينها، فإن دول حوض النيل بحاجة شديدة الى اصدار تشريعات وإجراءات للحد من تلوث النيل من خلال آليات لمراقبة المصانع التي اعتادت التخلص من نفاياتها بإلقائها في النيل، كما أنه يتعين على ذات الدول العمل بجدية على زيادة وعي شعوبها بالحفاظ على ما تبقى من النيل المتعب وبيان أهميته في حياتنا ولأبنائنا من بعدنا. وليتنا نتذكر دائما أغنية " يا تبر سايل بين شطين" التي أنشد بها عبد الحليم حافظ لنيلنا الجميل، فمياه النيل بالفعل أغلى من الذهب ولكننا لا ندرك هذا. مستشار اقتصادي مصري [email protected]