لم تشهد مصر - رغم تاريخها الطويل فى الاستبداد منذ انقلاب يوليو 1952- إعلامًا فاسدًا مثل الذى شهدته منذ ثورة 25 يناير، تلك الثورة المجيدة التى تشهد الآن انقلابًا عسكريًا ناعمًا موشّى بغلالة رقيقة من الأبعاد الدستورية فى زج مباشر بمؤسسة القضاء فى العملية السياسية. قبل ثورة يناير كان الإعلام الفاسد هو الذى يروج ويسوق لقضية التمديد اللانهائى لمبارك مرددًا بأسلوب عملى شعاره: "ما دام فى النفس قلب ينبض" باعتبار التغيير قفزة فى المجهول، ومَنْ غير مبارك يضمن الاستمرار، وهو كذلك الذى روج لقضية توريث الحكم باعتبار ذلك ضامنًا للاستقرار (نفس الحجج المكشوفة التى تروج الآن فى توسيد الأمر لغير أهله وهو أحمد شفيق فى عملية انقلاب ناعم مكشوفة لكل ذى عينين). بعد ثورة يناير شهدنا الثعابين والحيّات تكمن قليلاً ثم تغير جلدها وشهدنا الأذرع الإعلامية التى روجت وسوقت للتمديد والتوريث ترتدى ثياب البطولة الزائفة ويزعمون أنهم مع الثورة وأنهم كانوا ممن يعارضون نظام مبارك وأنعم تعرضوا للأذى بسبب هذه المعارضة فى عملية استغفال كامل للذات والآخرين واضحة وما يخدعون إلا أنفسهم. كانت ظاهرة المتحولين مما فت فى عضد الثورة، فهؤلاء كانوا الطابور الخامس الذى اخترق الخطاب الإعلامى للثورة وشوَّش عليه وألبسه كثيرًا من المسوح المزيفة وانطلى الأمر على كثير من الذين لا يعملون. ثم شهدت الشهور الأولى للثورة عملية هجوم كبيرة من قبل نظام مبارك ورجاله (خاصة السماسرة الذى نهبوا أموال الشعب) على وسائل الإعلام: شراء وتأسيسًا وسيطرة واستقطابًا للإعلاميين من كل حدب وصوب. وركزت الثورة المضادة على تقوية ذراعها الإعلامية واستثمرت فيه بكثافة وكانت واعية بدور الإعلام وخطورته وقدرته على تشكيل الرأى العام وتغيير القناعات وتبديل مواقف قطاعات واسعة من الشعب. وعلى مدار ما يقرب من عام ونصف اشتغلت الثورة المضادة وإعلامها فى العمل على شيطنة الثورة وشيطنة التيار الإسلامى وشيطنة كل معارض للمجلس العسكري، وشنت حملات تكريه فى الثورة والتركيز على أخطاء وسقطات الثوار والإسلاميين وكل المعارضين. لا أؤمن بنظرية المؤامرة وكتبت مفندًا لها كثيرًا إنما ما يحدث فى مصر هو مكر الليل والنهار واللعب بمقدرات الدولة واستغلال ثغرات المعارضين وتوظيفها فى صراع غير أخلاقى للتمكين للثورة المضادة وإعادة نظام مبارك ولو بتغييرات ديكورية لا تغير من جوهر النظام وفلسفته شيئًا. وعلى مدار ما يقرب من عام ونصف كانت قنوات الفلول وشبكات إعلامهم وصحفهم وبرامجهم وضيوفهم مراكز قصف إعلامى ومنصات إطلاق صواريخ الإشاعات وترويج التهم وراجمات التشكيك عابرة لوعى المواطن العادى الذى كثيرًا ما يثق فى كل ما يبث عبر وسائل الإعلام وخاصة مقدمى البرامج والضيوف المشهورين الذين عملت تلك القنوات على إبرازهم وكانوا جميعًا ترجمة عملية لكتاب هربرتتشللر "المتلاعبون بالعقول". كان هؤلاء المخادعون هم الزمَّار الذى يزمّر لمن يدفع له، فلا مبدأ ولا غاية شريفة ولا دفاع عن مقدرات وطن. وامتلأ إعلام الفلول بالزمَّارين من شكل ولون وأجزل نظام مبارك لهم العطاء وتحول كثير من الصحفيين إلى مقدمى برامج فى تلك القنوات وأثرى ثراءً فاحشًا من كان لا يحسن مسك القلم وأصبح إعلاميًا شهيرًا يتقاضى رواتب خرافية نظير تقديم برامج لا تزيد عن دردشة واستخفاف دم والتخديم إعلاميًا على مَن يدفع لصحاب الدكان أو القناة. وللأسف لم تشهد فترة ما بعد ثورة يناير أى عملية تطهير لأى مؤسسة أو جهاز من أجهزة مبارك وخاصة أجهزة الإعلام، وصار مَن كان يزمّر لمبارك يزمّر للمجلس العسكرى ومن كان ينافق مبارك أصبح ينافق المجلس العسكرى (وهكذا فالحيَّات لا تعرف إلا اللدغ) فالزمّار لا يهمه لمن يزمّر بل من يدفع. وعلى مدار ما يقرب من عام ونصف كان من يدفع هو المجلس العسكرى ورجال مبارك وحزبه الوطنى ورجال لجنة السياسات أو فريق طرة ووكلائهم فى الخارج وهؤلاء هم رأس الحربة فى الثورة المضادة وجسدها وأطرافها هم الحاملة والمحمولة إليه هم أصحاب المصلحة فى إفشال الثورة والتمكين للثورة المضادة والعودة لنظام مبارك وعصابته وهم الامتداد الحقيقى لهذا النظام وهم ورثته وأبناؤه الشرعيون وهم حاملو فلسفته فى إدارة شئون البلاد تلك الكلمة التى وسد بها من لا يملك (مبارك) الحكم لمن لا يستحق (المجلس العسكري). وضاع الشعب المصرى مرتين: مرة عندما قهره مبارك ثلاثين سنة، ومرة عندما وسد الأمر للعسكر أى امتداده الطبيعي، ولا ندرى كم سنة نحتاج حتى تقوم ثورة أخرى ربما كانت هذه المرة دموية بعد أن كفر الناس وخاصة الشباب بالحل السلمي.