رحم الله بيرم التونسي الذي قال "يا أهل المغني دماغنا وجعنا.. دقيقة سكوت لله".. كانت هذه صرخة من شاعر العامية الاعظم تطالب بضبط الأداء في عالم الغناء بعد أن هبط الي مستوي منفر ومنذر بالخطر. وأكاد أُكرر هذه الصرخة في وجه معظم الفضائيات التي ترتكب يوميا أخطاء مهنية وأخلاقية ترقي الي الخطايا في حق الثورة.. ولا أبالغ أو أدعي الحكمة بأثر رجعي عندما أقول إنني تنبهتُ مبكرا الي خطر أضواء الفضائيات علي الحركات الاحتجاجية، فقد جمدتُ نشاطي في حركة كفاية بعد أن انصرف أغلب قادتها البارزين الي الفضائيات وتركوا الحركة تلفظ أنفاسها علي الارض.. ولولا جهود المرحوم الدكتور عبدالوهاب المسيري ثم الدكتور عبد الجليل مصطفي لماتت حركة كفاية مبكرا قبل أن تؤتي ثمارها وتتمخض عن حراك سياسي مهد لثورة 25 يناير.. خطفت أضواء الفضائيات مناضلي حركة كفاية واستأثرت بجهودهم التي كانت تحتاجها الحركة المحاصرة لتثبيت اقدامها وفرض وجودها في الشارع.. وتكرر ذلك بصورة أكبر وأخطر مع ثورة 25 يناير.. ولعل من اهم مميزات هذه الثورة التي فاجأت العالم وبهرت الجميع بأدائها العبقري المتحضر حتي وُصفت عن حق بأنها الثورة الاعظم في تاريخ البشرية.. أنها كانت بلا زعيم أو قيادة معروفة ، ومن هنا ظهر لها أكثر من أب ومئات الزعماء الذين لم يسمع عنهم أحد من قبل.. كل من مر علي ميدان التحرير إدعي أنه مفجر الثورة وأعلن عن تشكيل ائتلاف برئاسته.. عملاء لأمن الدولة وأدعياء وفلول أبناء فلول اندسوا بين الثوار ووقع الجميع في شراكهم وصدقوهم، وخاصة المجلس العسكري وحكومات ما بعد الثورة، إذ لم يكن أحد يعلم شيئا عما يدور داخل الميدان ومَن هم الثوار الحقيقيون ومَن هم الأدعياء !!.. وبلغ امتهان الثورة حد زعم أحد الدعاة المعروفين أنه زعيمها، رغم أنه كان علي صلة وثيقة بأمن الدولة المنحل وتوجه الي مدينة السويس يوم 26 يناير بتكليف من الأمن لكي ينصح الثوار بوقف "هذه الفتنة"!!.. بل وصلت إهانة الثورة الي إدعاء مقدم برامج معروف كان في الخارج أنه من صناعها !!.. والأنكي من كل ذلك أن يدعي شاب من أقارب عبد الرحيم الغول ،أنه من زعمائها.. وكان الغول قد ألح علي صفوت الشريف الذي ضغط بدوره علي المسئولين بأخبار اليوم لكي يُعين قريبه هذا محررا في الاخبار وذلك بعد أن ألف ذلك الشاب كتابا بعنوان "فرسان حول الغول" يمجد فيه "الزعيم الغول" وكل رؤساء الغول في الحزب الوطني وخاصة جمال مبارك وأحمد عز!!.. بعد الثورة فوجيء الجميع بهذا "الغول الصغير" يشكل إئتلافا ثوريا ويصدر بيانات تؤكد وتهدد وتتوعد باسم الثورة!!.. وشكل كثيرون من امثاله من فلول الحزب الوطني وعملاء أمن الدولة ائتلافات مماثلة.. وهنا جاء الدور المدمر للصحافة والفضائيات في الترويج لمثل هذه العناصر التي تنتمي للثورة المضادة حيث فتحت أمامهم الابواب دون تحقق أو تمحيص ليدعوا أنهم كانوا في التحرير وأنهم قادة ائتلافات وهمية حلموا بها وهم نيام ثم أعلنوا عنها صباح اليوم التالي.. وحتي شباب الثورة الذين شاركوا فيها فعلا ودفعوا ثمنا غاليا ومقدرا لإنجاحها، أغوتهم أضواء الفضائيات فتركوا الثورة في الشوارع والميادين واحتلوا الشاشات مكررين خطايا قادة حركة كفاية.. تعامل بعض هؤلاء الشباب بأنانية مُفرطة وانتهازية فجة.. وتاجر كثير منهم بالثورة فتربحوا وحصلوا علي وظائف.. بل تحول بعضهم فجأة الي كتاب ومنظرين وصار لهم أكثر من مقال ثابت في أكثر من صحيفة!!.. أما الذين اختاروا مواصلة النضال عبر الفضائيات فقد وجدوا مجالا فسيحا وأبوابا مفتوحة، وفيها الكثير من الغنائم المادية ايضا، ولكنهم أساءوا كثيرا الي الثورة وتسببوا بحسن نية، ولكن بحماقة وقصر نظر في كثير من الاحيان، في انقلاب معظم أبناء الشعب علي الثورة.. لم يدرك هؤلاء " الثوار" أنهم يخاطبون مجتمعا وجمهورا محافظا ينشد الاستقرار ويريد انتهاء الحالة الثورية علي الفور ويري أن الثورة حققت أهدافها.. وهؤلاء استفزتهم الي حد الصدمة لهجة خطاب الثوار التي اعتبروها متعجرفة ومتعالية ومتجاوزة لكل الخطوط الحمراء.. وهنا وقع الثوار في خطأ عدم تقدير أهمية وتأثير "الظهير الشعبي" في دعم ونجاح الثورة.. فالجميع يعلم أن الثورة لم تنجح إلا عندما احتشد نحو عشرين مليون مواطن في الميادين والشوارع رافعين البطاقة الحمراء لواحد من أعتي النظم الاستبدادية والبوليسية الفاسدة في العالم.. وهذا العدد من المتظاهرين السلميين لم يسبق له مثيل ومن هنا جاء وصف الثورة بأنها الاعظم في تاريخ البشرية.. واكتملت المؤامرة علي الثورة عبر فضائيات حكومية واخري خاصة، وبعضها قنوات جديدة أنشأها رجال أعمال من فلول النظام البائد بهدف غسيل أموالهم وسمعتهم فضلا عن تشويه وشيطنة الثورة والثوار كلما تيسر ذلك.. اعتمدت تلك الفضائيات في مهمتها غير المقدسة لقتل الثورة مرة واحدة أو تصفيتها ببطء، علي جيش من مقدمي البرامج المتحولين والمُعدين يدين بولائه ووجوده في هذه الاماكن التي تدفع رواتب شهرية فلكية، لجهاز أمن الدولة المنحل الذي كان يحدد مقدمي البرامج والضيوف وربما الموضوعات التي تتم مناقشتها!!.. وتحول نشاط الفضائيات الي "بيزنس" مريب فيه الكثير من الفساد والغرض.. ولكن أخطر ما في الامر أن تتحول الي قاتلة للثورة تعاونها في ذلك صحف يسيطر عليها رجال النظام البائد.. وإذا كان الصحفيون والإعلاميون قد فشلوا في إقناع المواطنين البسطاء بأن الثورة قامت من أجلهم وبأن عليهم الدفاع عنها فهذا يعني أنهم فاشلون أو متواطئون مع الثورة المضادة أو.. كليهما معا.