عندما عارضت فى هذا المكان الأسبوع الماضى أى محاولات تشريعية جديدة للنيل من هيبة الأزهر، وإسقاطه كمرجعية وحيدة للفتوى، قصدت بهذا الحفاظ على مكانة الأزهر الدينية بمصر والعالم، ولكن فى نفس الوقت الحفاظ على تلك المكانة يجب أن يكون محاطًا بمقومات تحمى المسلمين من "شطط" الفتوى التى يمكن أن تصدر عن بعض علماء الأزهر فرادى، خاصة فى عهد الزخم الفضائى الذى يطالعنا فيه الشيوخ بفتاوى فضائية عبر أسئلة فجائية لجمهور المشاهدين دون دراسة هذه الفتوى بين جمهور علماء الفقه والشريعة، ويتجاهل هؤلاء المشايخ مع احترامنا لمحاولاتهم فى الاجتهاد، يتجاهلون أن المفتى بمثابة "المفوض" من الله والممثل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لإصدار الفتوى الجامعة المنبثقة من قواعد لا حيد عنها للحلال والحرام وفقًا لنص القرآن والحديث، ولكن فى عصرنا الحديث ومع مستجدات الأمور والأحوال، فرضت علينا تفاصيل الحياة قضايا لم يرد بها نص واضح، وتقتضى الاجتهاد، ومن هنا تبرز إشكالية الفتوى الخلافية النابعة من اجتهاد هذا الشيخ أو ذاك. وحل الإشكالية يتمثل فى ضرورة "ضبط الفتوى" وتقييد الاجتهاد من خلال قيام مجمع فقهى بالأزهر يتولى إصدار الفتوى بعد إجماع آراء أعضاء المجمع أو أغلبهم، وذلك بدلاً من لجنة الفتوى الحالية ويمكن ضم أعضاء لجنة الفتوى فى هذا المجمع مع توسيع دائرته وزيادة عدد أعضائه ليضم المزيد من علماء الدين، وأن يختص المجمع بإصدار الفتاوى الرسمية لحماية الفتاوى من الشطط، فإذا كان لدينا مجمع لغوى لحماية اللغة العربية من التحريف والتزييف وتشويه قواعد النحو، فمن باب أولى أن يكون بالأزهر مجمع فقهى للفتوى، وقد سبقتنا المملكة العربية السعودية فى هذه الفكرة، وأنشأت مجمعًا فقهيًا لضبط الفتوى، يتم خلاله طرح القضايا والأسئلة والمشكلات الفقهية للبحث فيها، والبحث فى تفاسير القرآن والحديث للخروج بإجابة عنها، وإن لم يوجد، تم الاستناد إلى قضايا مشابهة لإصدار الفتوى حولها أو الاجتهاد بإجماع آراء أعضاء المجمع، ويشارك فى إعداد الفتوى نخبة من رجال الشريعة والفقة وعلماء الدين ومن المجمع العلمى للبحوث الدينية، على ألا يتم فى الفتوى الخروج عن الثوابت الشرعية، وأن تتوافق الفتوى مع ما يقبله العقل والقلب السليم للمسلم الصحيح، ومع إنشاء هذا المجمع بمصر، يجب أن يكف علماء الأزهر عن إصدار الفتاوى فرادى وألا يصدر المفتى فتواه على عجالة دون دراسة أو العودة إلى المجمع. أما مطلب انتخاب المفتى، وعدم تعيينه من قبل النظام أو رئيس الجمهورية، حتى لا تأتى فتواه "تفصيل" وفق أهواء الحاكم، وبما يتناسب مع حماية مصالحة وأهدافه، فهو مطلب لا غضاضة فيه، وكان انتخاب شيخ الأزهر موجود قبل قانون 103 لتنظيم الأزهر عام 1961، عبر هيئة من كبار العلماء، وإعادة انتخاب شيخ الأزهر سيحميه من التبعية للحاكم قدر الإمكان، وسيمنحه استقلالية الفتوى بعيدًا عن التأثيرات والمجريات السياسية بالدولة، ومن هنا فتشكيل مجمع للفتوى بالأزهر يجب أن يكون النواة أو الخطوة الأولى التى تنطلق منها فيما بعد عملية انتخاب المفتى بين زمرة علماء الدين والمشايخ المشكلين للمجمع، ومطلب انتخاب المفتى لا يعارضه الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر، بل لعله طالب به هو نفسه منذ فترة، وسيكون فى الانتخاب تنفيذًا لوصية رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم فى أمر الشورى. إن ما تمر به الأمة الإسلامية ومصر من تحولات سياسية واجتماعية واقتصادية، يتطلب من الأزهر مزيدًا من الحكمة للتعامل مع معطيات الواقع بصورة واضحة لا خلاف عليها، فتضارب الفتاوى وجنوح الاجتهاد إلى اتباع الهوى، أدى إلى ظهور سنن سيئة أضرت بالمجتمع وأفسدته وأثرت على حياتنا العامة وسارت بها إلى المزالق، لذا لزم الحسم والضبط فى الفتوى، وإلا سارت الأمة الإسلامية إلى مالا يحمد عقباه أكثر، مما صرنا عليه الآن. [email protected]