محمود لطفي عامر فتاوى الدماء متى تختفي من واقعنا الفقهي؟ منذ أيام أفتى محمود لطفي عامر- وهو من أعضاء جمعية أنصار السنة في مصر- في مقال نشره على موقع الجمعية وكرره في حوارات ولقاءات فضائية وصحفية بأن الدكتور محمد البرادعي- الوكيل السابق للوكالة الدولية للطاقة النووية، ورئيس الجمعية الوطنية للتغيير- والدكتور يوسف القرضاوي- رئيس الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين- بأنهما من الخوارج، ودعا عامر في المقال الذي نشره موقع الجمعية،قبل اختفاء الموقع نفسه لفترة، إلى قتل الدكتور البرادعي إذا لم يتب عن دعوته للعصيان المدني، ورأى أن هذا الكلام ينطبق على القرضاوي إذا دعا إلى العصيان المدني. ورأى عامر في فتواه أن الدعوة التي أطلقها البرادعي للعصيان المدني كنوع من المعارضة للنظام القائم في مصر للتغيير ولتحقيق الديمقراطية هي نوع من الخروج على الحاكم.
وطالب عامر بأن تعرض فتواه على مشيخة الأزهر ودار الإفتاء ومجمع البحوث الإسلامية لبيان الموقف الشرعي الحقيقي منها وبيان الموقف الشرعي من البرادعي والقرضاوي، ورأى عامر أن فتواه ستثير نفوسا عليه وسيتهم بالعمالة للأمن وبأنه رجل دموي، لكنه أعلن أنه "لا يعبأ بهذا" لأن المعارضين له "لا يُعملون عقولهم" ولأنه-أي عامر- يستند إلى الكتاب والسنة في فتواه، وأن فتواه تلك ستمنع الشر العام في مصر؛ لأن العصيان المدني أو العسكري أو الصراع على السلطة هو الشر الأكبر الذي ستسفك فيه دماء كثيرة.
وأكد عامر في فتواه أن منازعة الرئيس مبارك في الحكم لا تجوز شرعا ولا عقلا ولا واقعا، وأن من يأتي ليعارض مبارك أو يفرق كلمة المصريين من حوله يجب أن "يقتل كائنا من كان" وقال عامر:" على النظام حصد رقبة كل من يدعو لفتنة..والعصيان المدني هو من أساليب الخوارج لأنه منازعة للسلطان وخروج عليه " .
وقد أثارت هذه الفتوى حالة من السخط في كافة الأوساط الثقافية والدينية في مصر نظرا لدمويتها، ومحاولة عامر إلصاق تلك الدموية بالإسلام، ومن ناحية أخرى لأنها طعنت في شخصيتين تتمتعان باحترام غالبية القوى السياسية والدينية في مصر والعالم، ولهما حضورهما العالمي المؤثر، وبعيدا عن رصد حالة السخط التي رافقت تلك الفتوى الدموية لعامر، نريد أن نجرد القضية التي خلقت مثل هذه الفتاوى الشاذة التي تجلب على الأمة ودورها ظلاما وقيودا في الحركة، وفي تصوري أن أولى القضايا الكبرى التي تحتاج إلى تجريد هي علاقة الإفتاء بالسياسة في ظل الدولة الحديثة ، والمحاولات التوظيفية التي يتعرض لها الدين من قبل السياسة والتي خلقت تشوها في الوعي الديني ، وأفسدت الواقع وشوهت الوقائع وقطعت العلائق وخلقت ضغطا إعلاميا شديد الوقع على الإسلام وتحركه في العالم المعاصر.
لكن في البداية لابد أن نقترب مما طرحه عامر، من خلال استعراض بعض مواقفه فالرجل أفتى بجواز توريث الحكم في مصر من الرئيس مبارك إلى نجله جمال نظرا لأنه لا يوجد في الشرع الحنيف ما يمنع التوريث، وعندما خاض عامر انتخابات مجلس الشعب لم يحصل إلا على (200) صوت فقط بينما منافسه الإخواني الدكتور جمال حشمت حصل على ثلاثين ألف صوت، وكان تعليق عامر على خسارته في الانتخابات هو أنه شبه حاله بحال الأنبياء حيث لا يتبعهم إلا القليل من الناس! وامتدت فتاوى عامر إلى الواقع الفلسطيني فاعتبر أن حركة المقاومة الإسلامية "حماس" تشق عصا الفلسطينيين، وأن حماس ما ظهرت إلا وظهر معها الشر، وأن على حماس أن تنضم إلى أحدى دول الجوار وتتبع تعليماتها.
الأمر الثاني هو أن فتوى عامر "الدموية" علق عليها أعضاء كبار في جمعية أنصار السنة مثل الشيخ عبد الرزاق عفيفي والذي أكد أن العصيان المدني هو دعوة للخروج على الحاكم، وأنها دعوة تحمل مفاسد وأضراراً على الناس، لكن عفيفي اختلف مع عامر في أن عقوبة ذلك متروكة إلى الحاكم يقدرها كيف يشاء! أما الشيخ عبد الله شاكر الرئيس العام لجمعية أنصار السنة فاعتبر أن الدعوة إلى العصيان المدني هي دعوة للخروج على الحاكم وهو ما لا يجوز إلا في حالة منع الصلاة، وأن عقوبة العصيان متروكة للحاكم يقررها كيف يشاء! وجمعية أنصار السنة تأسست عام 1926م على يد الشيخ محمد حامد الفقي للدعوة إلى الدين الخالص والتوحيد.
الإفتاء والسياسة تطرح فتوى عامر الدموية عدة إشكالات في طبيعة الفتوى منها علاقة الإفتاء بالواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي في الدولة، وطبيعة المعارضة السياسية في الدولة وموقف الشرع منها.
في البداية لابد من التأكيد على أن هناك عددا غير قليل من العلماء والمفتين لديهم خلل في إدراك مفهوم الدولة، فهم يقيسون الدولة القائمة حاليا على الدولة التي كانت قائمة قبل عقود أو الدولة في صدر الإسلام ثم يقفزون من فوق هذا الخطأ المنهجي الكبير لتقرير أحكام لا تنطبق على واقعنا المعاصر جاهلين أن الدولة بمفهومها القديم انتهت منذ قرون لتحل محلها الدولة القومية ذات الإيديولوجيا والعلاقات وطبيعة النظام السياسي المختلف تماما عن مفهوم الدولة القديمة، ويسحب هؤلاء المفتين أحكاما قديمة لكي يعلنوها على الناس في ظل مفهوم مغاير للدولة التي أنتج العلماء والمفتين السابقين أحكامهم بشأنها، وأصدروا فتاويهم لتنظيم علاقاتها وحركتها .
هذا الخلل المنهجي في إدراك مفهوم الدولة أنتج خللا كبيرا في الفتوى، حيث جعل الفتوى تخاطب واقعا غير قائم، وتنظم أمورا ليس لها محل من الوجود، فكانت الفتوى تشويها للحكم الشرعي، وافتئاتا على الإسلام ومعانيه ومقاصده وليست تفعيلا للنص الشرعي في الواقع.
وإذا عدنا إلى أحد العلماء الكبار وهو العلامة المغربي محمد بن الحسن الحجوي المتوفى سنة 1956م فالرجل امتلك رؤية عميقة حول علاقة الدين بواقع الاجتماع البشري وقال عبارة منهجية مهمة وهي أنه "لم يجعل الله شريعة من الشرائع منافية لناموس الاجتماع البشري" وبالتالي فالفتوى ليست إكراها للواقع وكذلك ليست إكراها للنص، ولكن عمقها يشير إلى محاولة نقل النص من عليائه ومثاليته ليكون واقعا، ومحاولة تحريك الواقع ليقترب من المثال، أي أنها اجتهاد في فهم النص والواقع وإنتاج تآلف بينهما يخلق حركة فاعلة يرضاها الشرع ولا تصطدم بنواميس الاجتماع البشري كما أشار العلامة الحجوي. هذا الفهم لحقيقة الدين كان موجودا وحاضرا في أذهان العلماء، الذي رأوا أن الدين ما جاء إلا لحفظ مصالح العباد في المعاش والمعاد أو كما رأى ابن خلدون أن حفظ الكافة (أي الشعب) ركن من أركان الوجود البشري والإسلامي.
وما تكشف عنه فتوى عامر "الدموية" هو الخلل المعرفي والمنهجي بالنص والواقعي، وهو ما ينتج تشوها في الخطاب وتفعيل الرؤية الدينية في واقع الناس، فمثل فتاوى عامر لا شك أنها توهن قناعات الناس بالدين وحقيقته وصلاحيته ليكون حاضراً في الواقع، ويخلق قدرا ضخما من الالتباسات والأزمات الضميرية سواء للمقتنعين بمثل خطاب عامر أو حتى الرافضين له.
المعارضة..ممنوعة! وإذا عدنا إلى خلل منهجي ومعرفي كبير في فتوى عامر، وهو موقع المعارضة في الفكر والرؤية الإسلامية، ففتوى الرجل ساوت بين المعارضة التي أصبحت من ضرورات الحياة في النظم السياسية المعاصرة لترشيد حركة تلك النظم وكبح جماحها باتجاه الاستبداد والتي وجدت حقيقتها على مر التاريخ تحت مسميات مختلفة وبين عمليات الخروج المسلح على النظام القائم والقيام بانقلابات عسكرية ضد النظام القائم.
فالمعارضة موجودة في الإسلام ومؤسس لشرعيتها منذ اللحظات الأولى للإسلام فاجتماع السقيفة الذي أعقب وفاة النبي صلى الله عليه وسلم كشف عن توجهات بوجود قدر من المعارضة السياسية للسلطة الوليدة التي تتشكل والتي تزعمها أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- وحتى بعد انعقاد البيعة لأبي بكر وجد عدد من كبار الصحابة لم يبايعوا أبا بكر وعلى رأسهم علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وأدرك الصحابة في تلك اللحظة التأسيسية للدولة أن للمعارضة الحق في الوجود، وأدركوا أن هناك اختلافا بين معارضة الدين ومعارضة النظام السياسي القائم، وهذه المعارضة أخذت أشكالا مختلفة منها النصح للحكام وتوجيه النقد لهم.
وإذا سلمنا بما يطرحه عامر في فتواه بقتل البرادعي والقرضاوي فإن عامر يعتبر أن ما قامت به الدولة الأموية من قتل للإمام الحسين-رضي الله عنه - هو من قبيل الفعل الذي يرضاه الشرع ويحث عليه!
فالخلل المنهجي والمعرفي في هذه النقطة يتمثل في الجهل الكامل بالتاريخ الإسلامي، وحركة المجتمع المسلم في التاريخ، هذا الجهل يؤدي إلى مشكلة في التعاطي مع النص واستدعائه في الواقع، فحركة الأمة المسلمة في التاريخ تشير إلى أن قضية الحكم-عند أهل السنة- واختيار الحاكم كانت من أعمال السياسة الشرعية التي تفرض أن تجعل الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وتلك المساحة متروكة لاجتهادات البشر وفق ضابط تحقيق مقاصد الدين وغاياته، وبالتالي كانت النظرة إلى المعارضة نظرة غير تأثيمية وغير دموية من كبار علماء الأمة، أما ما طرحه عمار في فتواه الدموية فيشير إلى مشكلة فلسفية وفكرية عميقة؛ فرفض المعارضة السياسية هو نوع من الاعتراف بعصمة الحاكم وهو ما يخالف الفكر السياسي السني جملة وتفصيلا، ويضفي هالة من التقديس على أعمال السلطة التي يجب أن تخضع في تقيمها لمبدأ الإنجاز الذي يعطيها المشروعية أو يمنعها عنها.
كذلك فإن معارضة النظام السياسي القائم، في ظل القواعد القانونية والدستورية-حتى وإن كانت شكلية- والتي تعترف بأن نظام الحكم غير تأبيدي وأن الحاكم تم اختياره لإدارة الدولة وأن هناك رقابة قانونية ودستورية مفروضة عليه قد تحجب عنه السلطة وممارستها، يختلف عما يطرحه عامر في الموقف من المعارضة والتي تشير فتواه أن هدف المعارضة هو تقويض الدولة وإنهاء الاجتماع السياسي، وهذا خلل منهجي كبير ناهيك عن الخلل المعرفي وسوء النية المبيت في تلك الفتوى الدموية.
أزمة الفتوى و لو وسعنا رؤيتنا في العالم الإسلامي لوجدنا أن هناك قدرا من الفتاوى المربكة للعملية السياسية والتي تربك علاقات المسلمين بمن حولهم، والتي تتيح لناقدي الإسلام أن يروا في النصوص الإسلامية نصوصا مثيرة للقلق، فمحاولة إقحام الدين بصورة فجة في أعمال السياسية الشرعية التي هي محل للاجتهاد يقود إلى الإساءة الحقيقة للدين؛ ففي السودان مثلا صدرت فتوى في بداية 2009م من هيئة كبار العلماء السودانية تنص على عدم جواز ذهاب الرئيس عمر البشير إلى الدوحة لحضور مؤتمر القمة العربية، وصدرت فتوى أخرى بعدم جواز التعامل مع لويس أوكامبو المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية الذي أصدر أمرا باعتقال الرئيس البشير، فتلك الفتوى تتجاوز دور الفتوى وتموقعها داخل الرؤية الإسلامية لتجعلها فتوى يوظفها النظام السياسي في أي وقت لصالحه أو ضد من يخالفه.
وفي رمضان 1430ه صدرت فتوى عن أحد المعاهد الدينية البارزة في الهند بعدم جواز حضور حفلات الإفطار التي يقيمها السياسيون والأحزاب السياسية لأنها منافية للإسلام، ورأى مصدر الفتوى الشيخ "زهور ندوي" "أن رمضان شهر الصدق والسياسية مليئة بالأكاذيب والمرواغة"، رغم أن جميع الأحزاب الهندية تحرص على إقامة مثل هذه الإفطارات لتحقيق قدر من التواصل بين مكونات الأمة الهندية، فمثل هذه الفتوى تجعل المسلمين يدخلون خنادق يتمترسون خلفها ويقطعون علائقهم مع غيرهم من مفاعيل المجتمع الذي يعيشون فيه.
وفي العراق في 13 ديسمبر 2010م أصدر إمام عراقي فتوى بعدم جواز خروج السياسيين لصلاة الاستسقاء حتى لا يؤدي خروجهم إلى أن يحبس الله المطر عن العراقيين، وقال مصدر الفتوى الشيخ عبد الوهاب الخطيب إمام الجامع الكبير في بغداد "لن نمطر أبدا بالسياسيين في العراق" ورغم أن تلك الفتوى في عمقها هي نوع من الاعتراض والنقد السياسي على ما يقوم به السياسيون والطائفيون في العراق إلا أن الفتوى ليست هي الأداة المناسبة لتمارس هذا الاعتراض والمعارضة والاحتجاج السياسي على ما يجري في العراق.
وما نطالب به هو تحرير الفتوى من هؤلاء الذين يعبثون بالشأن العام والديني معا ويخلقون حالة كبيرة من الارتباك الكبير والأزمات الضميرية لدى جمهور المسلمين، ويسقطون هيبة الفتوى بين المسلمين.