كانت أمس احتفالية سياسية بمناسبة مرور ست سنوات على الميلاد القانوني لحزب الوسط ، وتأسيس الحزب كان أسبق من ذلك بحوالي خمسة عشر عاما ، لكن لجنة شؤون الأحزاب في نظام مبارك كانت ترفض فلجأ المؤسسون إلى القضاء ، فظلت محكمة شئون الأحزاب ترفض الموافقة حتى قامت ثورة يناير وتغيرت أمور كثيرة ، فانفرجت الأحوال وتم الميلاد القانوني للحزب ، وكان المهندس أبو العلا ماضي رئيس الحزب قد وجه الدعوة لي وللأستاذ محمود سلطان قبل عدة أيام على أساس أنها في نادي الزهور بالتجمع الخامس ، وقبل الموعد بثلاث ساعات أتتنا رسائل تعتذر وتقول أن الاحتفالية انتقلت إلى المقر الرئيس للحزب في المقطم ، نظرا لاعتذار النادي ، وعلمنا بعد ذلك أن الحزب كان قد حجز القاعة في نادي الزهور قبل خمسة عشر يوما ، ودفع كافة التكاليف ، لكن أمرا ما طرأ قبل ساعات من موعد الاحتفال ، فطلبت إدارة النادي من الحزب الحصول على تصريح أمني خاص ، وكانت الرسالة واضحة وكافية ، فقرر الحزب على عجل نقل الاحتفالية للمقطم . مصر مهددة بالإرهاب كما نعلم ، وتحيط بها المخاطر من كل جانب ، وتتحمل الدولة وأجهزتها عبئا ثقيلا في مواجهة كل تلك الأزمات ، لكن "البعض" يصر على أن يمارس هواية التصدر في "عظائم الأمور" مثل رفض إقامة احتفالية صغيرة ومحدودة لحزب سياسي في نادي ، طبعا ليس من باب النكد أو القريفة أو استعراض العضلات والنفوذ أو التسلية أو إضاعة الوقت والجهد والوظيفة في توافه الأمور ، وإنما باعتبار أن هذا اللقاء المحدود يهدد الأمن القومي المصري ، وبالتالي اقتضى الأمر منعه ونقله للمقطم ، باعتبار أن "المقطم" من المناطق "الآمنة" وتحت السيطرة الأمنية بخلاف التجمع الخامس ! . حضر الاحتفالية عدد من الوجوه السياسية والفكرية والإعلامية من تيارات سياسية مختلفة ، إسلامية وليبرالية ويسارية وقومية ، ولم تمتد لأكثر من ساعتين ، وكانت الروح الغالبة في الكلمات التي قدمت لها طابع احتفالي لظروف المناسبة وتهنئة الحزب ، لكني لاحظت أن الكلمات كلها تقريبا كانت معنية بالتوافق الوطني وأهميته ، وأن تباين القوى السياسية والأيدلوجية ليس شرا أبدا ، وإنما طبيعة بشرية وعامل تخصيب للتجربة السياسية إذا أحسن توظيفها وإدارة الخلاف ، وأن المعارضة القوية أداة دعم للدولة وليس العكس ، وأنه لا توجد دولة قوية إلا بمعارضة قوية ، وأن إضعاف المعارضة هو إضعاف للدولة ، باعتبار أن المعارضة عامل تنوير سياسي ورقابة شعبية وحافز للسلطة وضغط مستمر على المسئولين للارتقاء بالقرار والممارسة والشفافية واحترام مقتضيات الصالح العام ، وأن ضعف المعارضة يعني انتشار النفاق السياسي والفساد وتراخي الأداء والشعور بغياب المسئولية والمحاسبة ، وحصيلة ذلك كله إضعاف الدولة وإنهاكها وإهدار مقدراتها . تجربة حزب الوسط مهمة في رمزيتها ، لأنها أول نقلة سياسية للتيار الإسلامي من فكرة الجماعة والتنظيم والعمل خارج إطار الدولة وبعيدا عن القانون ، إلى العمل الحزبي في إطار قانوني وكجزء من الدولة ومن النظام السياسي المؤسس على الدستور ، ونجاح حزب الوسط لا يقاس بعدد أعضائه أو حضوره في الشارع ، بقدر ما يقاس بالاختراق الفكري والسياسي العميق الذي أحدثه في الحالة الإسلامية ، فحتى من لم ينضموا للحزب من الإسلاميين ، وخاصة من أعضاء جماعة الإخوان أو من كانوا ينحدرون منها وتركوها ، كانت تجربة الحزب لهم بمثابة إضاءة مهمة للغاية في إعادة صياغة وعيهم السياسي والتنظيمي أيضا ، كما كانت التمهيد المعنوي والفكري الذي فتح الباب أمام العديد من الأحزاب السياسية الإسلامية التي تشكلت في أعقاب ثورة يناير ، وكثير منها ما زال ناشطا حتى اليوم ، رغم الحصار والضغوط وتقلص هامش الحركة ، وهي نقلة كانت واعدة في دمج ملايين الشباب الإسلامي في العمل السياسي القانوني والدستوري ، بما يعني قطع الطريق على "إغواء" العنف والخروج على القانون والعمل في الظلام ، وتطهير المستنقع الذي كانت تتغذى عليه المنظمات الإرهابية في جذب الشباب الإسلامي الغاضب والمحبط واليائس من المشاركة وجدواها . لذلك نقول ، ونؤكد ، على أن تعزيز تجربة حزب الوسط والأحزاب ذات المرجعيات الإسلامية ، وحماية تجربتها ، وتوسيع الفضاء العام أمامها ، هو جزء حيوي وحاسم في حماية الأمن القومي لمصر ، وحماية مستقبل الوطن ، وتحصينه من الدوامات التي تعصف بالدول من حوله ، وكل سلوك أمني أو سياسي للتضييق على تلك الأحزاب أو ملاحقة أعضائها أو التفكير في حلها هو ضرر فادح للوطن ، وتهديد حقيقي لأمنه ، وإضعاف لجبهته الداخلية ، ودعم غير مباشر ، ولكنه عظيم ، لجماعات العنف والإرهاب ، ... لو كانوا يعقلون .