لم يمض عامان على بداية الربيع العربي الذي بدأت شرارته في تونس حتى صعد الإسلاميون في جميع دول الشمال الأفريقي الست إلى تشكيل حكومات أو الاستحواذ على جزء كبير من مقاعد البرلمان أو كونهم الرقم الأول في المعارضة السياسية، ففي مصر استحوذ الإسلاميون على أكثر من 60% من مقاعد البرلمان، وفي تونس والمغرب شكلوا الحكومة، وفي الجزائر يسعى إسلاميوها إلى بناء تكتل لخوض الانتخابات المقبلة، وفي ليبيا شاركوا بقوة في تخليصها من الديكتاتور القذافي ويستعدون للمساهمة في الحكم بعدما شكلوا أحزابا بمرجعية إسلامية، وفي موريتانيا يحتل إسلاميوها التكتل الأكبر في المعارضة. غير أن هذه النجاحات على الصعيد السياسي تحتاج إلى نظرة عميقة تبصر اللحظة التي وجد الإسلاميون فيها أنفسهم قريبين من السلطة بما لها من استحقاق وعليها من التزام، وأن يدركوا أن نجاحهم في الانجاز في الملفات الكبرى خاصة الديمقراطية والتنمية سيكون له انعكاسه المباشر على رؤية الجماهير للفكرة الإسلامية والمشروع الحضاري الذي يعلن الإسلاميون أنهم يمتلكونه لإنقاذ الأمة من وهدة التخلف ومستنقع التبعية للخارج... أما الفشل في الجانب السياسي فإنه موجة انحساره لن تتوقف عند حدود مغادرة الإسلاميين لمقاعد البرلمان أو تركهم لمقاليد السلطة، وإنما ستتعداه لأزمة كبيرة قد تلحق المشروع الإسلامي بكافة مكوناته خاصة في الجانب الهوياتي والاجتماعي وغيابهم عن مراكز التوجيه في المجتمعات. فمنذ أقل من عشرة سنوات كانت المراكز البحثية والمهتمين بالظاهرة الإسلامية يملئون الفضاء الصحفي والبحثي بالحديث عن مسألة إدماج الإسلاميين في الحياة السياسية واستيعابهم ضمن أطرها، أي السماح لهم بمتنفس قانوني يمارسون من خلاله السياسة، وكانت حجج بعض المنادين بعملية الإدماج أن دخول الإسلاميين لعالم السياسة سيجعلهم يعملون تحت سقفها وبآلياتها وبمنطقها وسيفرض عليهم شروطها، وهذا معناه أن يغيب الحلم عن الإسلاميين، فينتقل الإسلاميون من فضاء بناء مشروع حضاري تنموي ذي مرجعية إسلامية يطرح صيغة عالمية منافسة للنموذج الليبرالي والنماذج الأخرى، إلى أن يكونوا قوة سياسية تنافس على ترسيخ النظام القائم لكن مع عمليات تجديد وترقيع لشخوصه وأحزابه. كذلك كانت تلك النظرة ترى أن الإدماج يحول مشروع الإسلاميين النهضوي والحضاري المتعدد المكونات نحو تغول السياسة عليه والتغطية على بقية مكوناته، فيصبح معيار النجاح الذي يحققه الإسلاميون يقاس بعدد ما يحصلون علىه من مقاعد في البرلمان أو حقائب في الوزارة وليس بقدر ما تقترب الشعوب من حقيقة المشروع الحضاري الإسلامي انجازا وتخلقا وإيمانا. وإذا كانت الجماهيرية التي يحققها الإسلاميون راجعة في جزء كبير منها إلى إصرارهم على الدفاع عن الهوية والمبادئية والأخلاقية؛ فإن إحدى الحجج التي ساقها نفر من دعاة الإدماج أن فتح المجال أمام الإسلاميين للممارسة السياسة سيبتلع الإسلاميين مشروعا وحركة، وسينقل الحركة الإسلامية من فضاء التحليق بالمشروع النهضوي والتبشير به إلى قيود الواقع والسياسة وضغوطهما، وسينقل الإسلاميين إلى الاصطدام بتوقعات الناس العالية، وبممارسات السلطة التي لن تخلو من وجه استبدادي، ومن مناورات السياسة وضغوطها، وفي كل الحالات سيخسر الإسلاميون من رصيدهم وجماهيريتهم بقدر ما يكسبون من مقاعد وحقائب. هذه الرؤية كانت تضغط لإفساح الطريق أمام الإسلاميين حتى يسيروا فيه إلى نهايته، وحتى تمضي فيهم سنن الأوليين فينحصر المشروع في الجانب السياسي..غير أن خوف الأنظمة الاستبدادية من تلك المغامرة حال دون اللجوء إلى هذا البديل . والآن بعد انفساح المجال أمام الإسلاميين ليس للاندماج في الحياة السياسية ولكن للتأثير فيها وقيادتها، تصبح الاستحقاقات المُطالب بها الإسلاميون أعلى وحجم توقعات الجماهير وضغطها أشد إلحاحا، إضافة إلى حاجة الإسلاميين إلى بناء فكري يتناسب مع حجم المكاسب التي حققوها في ظل الربيع العربي. وهذه الاستحقاقات المتوجبة تتطلب أن يبحث الإسلاميون، خاصة، بعد احتلالهم لمواقع متنفذة داخل عدد من الدول في الشمال الافريقي عن رافعة فكرية وجماهيرية، فلم يعد الخطاب الوعظي العاطفي قادرا على سد فجوات التوقعات المتزايدة لدى الجماهير بعد الثورات، ولم يعد خطاب الهوية والتخويف بالاستهداف، وخطاب الضحية قادرا على استمرار حشد الجماهير خلف الإسلاميين في الفترة المقبلة، فالخطاب الجماهيري له مدة صلاحية استهلاكية في المجتمعات ينتهي بعدها ويصبح طرحه ضار به وبالمجتمع وبالحمولة الفكرية التي يبشر بها، كما أن اعتياد الجماهير على خطاب واحد يخلق حالة تسمى لدى المختصين في الإعلام ب"التبلد" اي عدم قدرة الخطاب على الشحن والحشد. فخطاب الإسلاميين لابد أن يساهم في حل التوترات الموجودة في المجتمع، وتحقيق إنجاز في ملف الأزمات الكبرى التي تعاني منها الشعوب خاصة في المجال المعاشي، والقدرة إيجاد حلول وصياغات ترتقي بالإنسان ولا تجعله في خصومة مع العالم. أضف إلى ذلك ضرورة أن يؤكد خطاب الإسلاميين على القضايا الكبرى التي أوجد فيها الفكر العربي قدرا من التراكم والاجتهاد النظري القابل للبناء عليه ومناقشته والبحث عن ملائمته خاصة في قضايا التنمية والديمقراطية، باعتبارهما القضيتين اللتين أولاهما الفكر العربي السياسي اهتمامه؛ فالديمقراطية يجب ألا تغيب والتنمية يجب ان تكون حاضرة وناجزة وتتمتع بدرجة من الاستقلال ومحاولة الإجابة على أزمات المجتمع وتساؤلاته. ومن الضروي أن يدرك الإسلاميون في خطابهم أن أخطر ما تصاب به المشاريع النهضوية هو انفصال السياسة عن الاقتصاد، فيسير كلاهما بطريقة غير متناسقة بل ومتعارضة في بعض الأحيان، فمناخ الحريات والانتخابات والديمقراطية إذا لم تتوافر له حواضن اقتصادية قائمة على تنمية حقيقية، توقف الهادر من الامكانات وتبحث في خلق فرص جديدة أمام البشر، فإن هذه الحالة الانفصالية بين الاقتصاد والسياسة هي العنوان البارز للدولة الفاشلة الفوضوية، التي يتسع فيها نطاق المطالب ويندر فيها القدرة على الإشباع ولا شك ان هذه الحالة ناهيك عن حالة الفوضى والاضطراب التي تخلقها في الدولة فإنها تنعكس حتما على مسألة الهوية الجامعة في المجتمع، فتفتح الباب واسعا أمام نمو الهويات الفرعية وهويات ما دون الدولة والأمة، كما يفتح الحدود أمام التوظيف الخارجي للقوى السياسية والأقليات والإثنيات، فتضعف قوة التوجيه في المجتمعات .