كما استنتجت، وكما كتبت قبل أيام، سواء على حسابي على الفيسبوك، أو هنا في هذه الزاوية، فإن الحديث المفاجئ والمتزايد في الإعلام عن إقامة وزير التموين الدكتور خالد حفني في أحد الفنادق الفخمة في القاهرة "سميراميس"، وتسريب كل التفاصيل الدقيقة عن إقامته حتى رقم الغرفة أو "السويت"، والتكلفة المالية لذلك طوال 31 شهرا، وهى معلومات دقيقة، ويُفترض أنها سرية لا تعرفها إلا إدارة الفندق، وإذا اطلعت عليها أجهزة أمنية، فيجب أن يكون ذلك من خلال إجراءات قضائية، فالحريات الخاصة مُصانة بحكم الدستور والقانون، هذه المعلومات المسربة والتي وجدت طريقها لعموم الناس كانت تعني شيئا واحدا فقط، وهو أن العد التنازلي لهذا الوزير في منصبه قد بدأ. وبالفعل لم يمر وقت طويل، مجرد أسبوع واحد فقط حتى تم إجباره على تقديم استقالته الخميس الماضي، وبشكل أدق تمت الإطاحة به، فلم يكن يملك القدرة على الرفض، علما بأنه كان فاكهة الحكومة، ونجم الفضائيات، ومثار الإشادة من الرئاسة، وكان ضمن الوفد المرافق للسيسي في الأممالمتحدة. الهدف إذاً من مسألة الفندق كان حرقه شعبيا، قبل طرده من الوزارة، باعتبار أنه يقيم في فندق خمس نجوم، وينفق ببذخ في وقت يعم فيه الفقر البلاد. تخيلوها عندما يسمع مواطن بائس أن وزيرا في الحكومة يقيم منذ ما يقرب من 3 أعوام في فندق فخم، وأنه دفع عن تلك الفترة 7 ملايين جنيها، بخلاف تكاليف الطعام والمشروبات والأشياء الأخرى، المؤكد أن هذا المواطن سيلعن هذا الوزير، وسيطالب فورا بضرورة إقالته، وسيقول إن الحكومة تحاسب وزرائها، ولا تتستر على الفساد، رغم أن الوزير خرج وأكد أنه لم يدفع 7 ملايين، فهذا مبلغ ضخم جدا، ما دفعه مازال في خانة الألوف، وأنها أمواله الخاصة، وتحدى من يثبت شبهة فساد في هذا الموضوع. وقد دعوت لصدور بيان رسمي شفاف وصريح يوضح الحقيقة، إما يتم إنصاف الوزير وتبرئة ذمته المالية ونزاهته الوظيفية، أو يكون متورطا بالفعل في فساد شخصي واستغلال نفوذ، لكن الوزير استقال دون أن يتم إجلاء هذا الأمر، وسيظل يلاحقه، وتقديري أن الإقامة في الفندق ليست عنوان ولا جوهر قضية الوزير، إنما دورها أن تكون عنوانا مثيرا وجذابا للناس لجلب اللعنات عليه. صلب القضية الحقيقي هو الفساد في توريد القمح هذا العام، وتلك قضية مهمة جدا في حد ذاتها، وتكفي للخلاص من حكومة كاملة، وليس الوزير بمفرده، الخلاص لأسباب سياسية، أكثر منها جنائية، فالشق الجنائي يُحاسب عنه المتورطون المباشرون ممن يتولون إدارة منظومة استلام القمح، وأما مسؤولية الحكومة السياسية، ومعها وزير التموين، فهى الإخفاق في مكافحة الفساد، وإذا كانت هناك جدية في محاسبات سياسية صارمة فلن ينجو مسؤولا في البلاد كبيرا أم صغيرا من المحاسبة، فالفساد مازال في حالة انتعاش. لماذا لم تتم محاسبة الوزير عن الإقامة في الفندق طوال 31 شهرا قبل ذلك، إذا كان هناك شيء ما يطال نزاهته وسمعته وذمته المالية؟. لماذا تشويه صورته وتدميره معنويا وأسريا واجتماعيا، وطالما أنه يدفع تكلفة إقامته من فلوسه، فهو حر فيها ؟. لماذا لم يتم الدخول في الموضوع مباشرة والتركيز فقط في الفساد بتلك الوزارة، علما بأنه فساد مقيم من قبل هذا الوزير، وسيظل قائما بعده، وإلى أن يشاء الله تعالى؟. لماذا الإصرار على الهزيمة المعنوية والأسرية والاجتماعية للمسؤول عندما يُراد حرق ورقته كما يحدث اليوم مع وزير التموين المستقيل، وكما حدث مع وزير الزراعة السابق في مشهد إنزاله من السيارة في قلب ميدان التحرير، والقبض عليه في عملية استعراضية، وتصويره ونشر الصور على نطاق واسع، نعم الوزير تورط في الفساد، وهذا مهين جدا وسقوط له، وطرده من الوزارة كان ضروريا، لكن تجريسه بهذا الشكل لا يتناسب مع كرامته وحقوقه كإنسان، وكان كافيا أن يأخذ القانون مجراه معه، وهو ما تحقق فعلا حيث يقبع اليوم في السجن. كيف تختار الأجهزة الأمنية هؤلاء الأشخاص طالما يتم فيما بعد اكتشاف أنهم غير صالحين لمناصبهم، أو فاسدين؟. هل من صمم موضوع الفندق كان يريد إشغال وإلهاء الرأي العام أسبوعا عن قرض صندوق النقد الدولي، وما سيترتب على تنفيذ شروطه من موجة غلاء فاحشة جديدة وطويلة؟. هل كان الاتجاه هو عدم تسليط الضوء بكثافة على قضايا فساد استلام القمح والتخزين في الصوامع وإهدار المال العام وتعرض منظومة الخبز ونقاط السلع للفساد أيضا، وهى المنظومة التي تعتبرها السلطة إنجازا كبيرا، وبدلا من ذلك جعل الأضواء كلها تتجه لأمر شخصي حتى لا يتواصل الحديث عن الفساد، ولا يسأل المواطنون عن شعارات حرب الفساد التي ترفعها السلطة، ومع ذلك لا يتوقف الفساد عن الحركة والنشاط؟. هل كان يُراد مواصلة تكرار السيناريو الإعلامي الذي بات معروفا ومستهلكا بأن هناك من لا يسكت على أي تجاوز أو فساد، وهذا الذي لا يسكت كيف يختار أشخاص غير أكفاء، أو ليسوا فوق مستوى الشبهات، مع توالي سقوط الوزراء وإخفاق الحكومات، وتدهور الأوضاع؟. هل الإطاحة بمسؤولين مدنيين : وزير زراعة، ووزيرا عدل، ووزير تموين، ومحافظ الأسكندرية، ورئيس جهاز المحاسبات، وخروج الجميع من مناصبهم كان مهينا ومرتبطا في كل حالة بقضايا رشوة أو فساد، أو فقدان الحس السياسي، أو إهانة المشاعر الدينية، أو الإخفاق في الأداء، أو التصريح بمعلومات غير صحيحة عن الفساد، ولا نناقش هنا مبررات الخروج، إنما هل المغزى مثلا إثبات أن كل وجه مدني مهما كان علمه أو ثقافته أو كفاءته أو قدراته أو دوره السياسي، إنما يكون قرينه فقدان النزاهة الشخصية، والعامة، وأنه مثار شبهات على الدوام، وأنه مشكوك في صلاحيته للحكم والإدارة؟. لست أدافع عن وزير التموين المستقيل، فهو لم يدافع عن نفسه كما يجب في نص استقالته المنسوبة إليه، إنما أدافع عما يجب أن يكون التعامل عليه في إدارة دولة، وفي مخاطبة الرأي العام، في زمن ثورة الاتصالات، وتكنولوجيا المعلومات، والانفجار المعرفي، حيث يصبح من المستحيل تأميم العقل، وفرض الوصاية عليه طوال الوقت. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.