عائد _ للتو _ من المملكة المغربية الشقيقة , حيث شاركت في أجرأ تجربة ثقافية مدنية مثيرة في العالم العربي , أعني المشاركة في تأسيس واحد من أهم تجمعات العرب الثقافية الجديدة الناهضة و أكثرها فعالية و حيوية و أوفرها حضورا ً و لصوقا ً بالحس الحضاري الإنساني العالمي الجديد , حيث شارك ممثلون عن عدة دول عربية في تأسيس واحد من أخطر الكيانات الثقافية الجديدة : ( الاتحاد الدولي للمبدعين العرب ) . و هو تجمع ثقافي مدني جديد , يحاول أن يتلافى سوءات وزارات الثقافة العربية و ممارساتها الكارثية و أداءها البيروقراطي العقيم و انطراحها الدائم في حضن الأنظمة و تنكبها المستمر عن قضايا الحريات المدنية و تجاهلها للمواهب العربية النابهة التي لا تعرف طقوس حرق البخور على الأعتاب , بل تجاوز ذلك إلى المزايدة الدائمة على قمع السلطة و الترويج الفج لكل آليات القمع و المصادرة , فضلا ً عما طبع عليه أداء وزارات الثقافة الرسمية من طابع اللوبيات و الشللية و التربيطات , بما حصر المشهد الثقافي في ( جيتو ) صغير يهيمن عليه : ( كهنة المعبد ) وحدهم ! ( و اسألوا وزارة الثقافة المصرية الميمونة لتسمعوا دررا ً رائدة في هذا الصدد ! ) كانت المبادرة و الشرارة الأولى من المغرب , بمبادأة من ( الاتحاد المغربي للمبدعين ) , برئاسة الشاعرة ( ابتسام حسني ) , حيث وجهت لي الدعوة ضمن عشرات من المثقفين العرب من العراق و الأردن و السعودية و فلسطين و تونس و الجزائر و غيرها من الدول ,وكانت فلسطين هي ( ضيف الشرف ) , كما تم تمثيل التجمعات العربية الثقافية ذات التكوينات الخاصة _ مثل ( الأحواز ) _ فضلا ً عن تكوينات العرب في المهجر . كان المشهد الثقافي الجديد الذي تشكل في ( الدار البيضاء ) , مؤكدا ً مجموعة من التحولات الجذرية الخطيرة في التوجه العربي الجديد , الخارج من رحم انتكاسات ثقيلة الوطأة و محن باهظة الكلفة , قاصمة للظهور , و أبرز هذه التحولات _ بلا جدال _ أن الشعوب العربية قد ضاقت ذرعا ً _ إلى حد الاختناق ! _ بأداء المؤسسة الرسمية الثقافية خصوصاً و المؤسسات الرسمية عموما ً , و قد أصبحت نموذجا ً ( كاريكاتيريا ً ) ضحلا ً من نماذج صناعة الوهم و غسيل الأدمغة بكل سموم الفكر الشمولي / الانبطاحي و التغريب و التصهين , و تفريخ مجموعة منقادة مصطفاة على عين الأنظمة من ( بهاليل ) السلطان و ( ندمانه ) , مهمتهم الوحيدة إطلاق ماكينات التبرير و ترسيخ المشهد الشمولي و ملاحقة النبلاء المستقلين فكريا ً أو التشهير بهم متى لزم الأمر ! بدا _ في تجمع المغرب الجديد _ أن البوصلة تتجه بقوة و مضاء نحو الشعوب وحدها و تكرس توجها ً مدنيا ً جديدا ً , بعيدا ً عن عباءة السلطة أو التنظيمات أو الجماعات أو التكوينات الحزبية , و هو ما يعطي للكيان الجديد ( الاتحاد الدولي للمبدعين ) قوة رمزية هائلة و ثقلا ً واضحا ً و قدرة خلاقة على تجميع المثقفين و المبدعين الجادين بقوة جذب لا يمكن إيقافها أو إعاقتها . فكم من قامات شعرية واعدة و مبهرة ركلتها المؤسسة الثقافية الرسمية لأنها لا تجيد فن التملق و المداهنة , و كم من روائيين و مسرحيين و موسيقيين أدارت لهم السلطة الرسمية الظهور لأنهم لم يقرعوا الدفوف للكبار و العلية ! و كم من براعم نابهة حرمت من الجوائز المستحقة لأنها لا تجيد حمل الحقائب للدهاقنة و الأباطرة ! و لن أزيد في القصيدة المعروفة للجميع بيتا ً ! استقبلنا الوفد المغربي بحماسة مشبوبة و حب جارف منذ وصلنا المطار ب ( الدار البيضاء ) , و تعارفت الوفود العربية و تفاعلت كيمياؤها الحميمية سريعا ً حيث تبارى الجميع في المعاونة على حمل الحقائب و نقلها _ دون أية حساسيات _ و بدا العناق حقيقيا ً غير مفتعل . و هو ما يؤكد أن الحساسيات و الخلافات القطرية المفتعلة هي صنيعة الأنظمة و الحكومات العاجزة التي لم تكف عن تصدير خلافاتها المزمنة إلى الشارع العربي . و انتقل الركب البهيج _ بظمأ واضح للتجمع العربي مجددا ً _ من المطار إلى مدينة ( آسفي ) المغربية العريقة حيث تجمعت الوفود في الفندق الذي شهد الحدث التاريخي الذي استمر أربعة أيام , أعني ( المؤتمر التأسيسي للاتحاد الدولي للمبدعين ) . و شرفت بإلقاء كلمة مصر في الجلسة الافتتاحية , حيث أكدت اهمية هذا الكيان الجديد ,الذي يمثل في ضمائرنا رئة ضخمة لجلب الهواء النظيف بعيدا ً عن عطن المساومات و الصفقات الرسمية , و ذكرت بريادة الدور المغربي المستعاد , حيث وصف ( الإصطخري ) في كتابه : ( المسالك و الممالك ) ( المغرب ) بأنها : ( ..كثيرة المساجد عظيمة المشاهد ..) , و هو دور ليس بعيدا ً عن ريادة جامعة ( القرويين ) التي كانت نموذجا ً فذا ً لفرصة العلم المتكافئة التي ينالها الجميع دون تفرقة عرقية أو لونية او طائفية او إثنية . و شرفت في فعاليات المؤتمر برؤية الكبار , و في صدارتهم الشاعر و الناقد المغربي الكبير د / ( محمد بنيس ) الذي عانقنا بتواضع جم , و له في المكتبة العربية ما يربو على ثلاثين كتابا ً في النقد الأدبي و الشعر و التاريخ و الرؤى الوطنية , و قد شرفت _ كذلك _ بتقليده ميدالية المؤتمر على المسرح الكبير بمدينة ( آسفي ) , حيث شهدنا عروضا ً مبهرة للفروسية و الخيل . كما سررت إلى غير حدود بالتعرف إلى الممثل و الناقد المسرحي المغربي الكبير ( عبد السلام لحيابي ) , الذي أهداني أحدث كتبه : ( عبد الكريم برشيد و خطاب البوح ) , و دار بيننا حوار مطول حول المسرح و الحرية و الوضع العربي المأزوم . و سمعت بشجن إلى قصائد التونسية ( صالحة الجلاصي ) و الفلسطيني ( ماهر الطردة ) و المغربي ( حكيم البوراشدي ) و فيلق ضخم من الشعراء الكبار الذين غيبتهم في المشاهد العربية لغة المصالح و التربيطات . و ناقش الجميع _ بروح ديمقراطي راسخ _ اللائحة التأسيسية للاتحاد , ببنودها و أبوابها السبعة و فصولها دون أن تنفجر الخلافات العربية الشهيرة _ كما في القمم العربية ! _ حيث كانت الحاضنة الشعبية الجديدة كفيلة بإذابة أي خلاف كبير أو شق في الصف . و توليت _ بتكليف من المؤتمر _ صياغة البيان الختامي و التوصيات , حيث نشطت الحركة المكوكية بين الوفود للوصول إلى التصور الأخير , حتى ساعات الصباح الأولى , و كانت جلسة الختام مشهدا ً راقيا ً مشرفا ً للجميع , حيث تأكد أن استراتيجية الثقافة العربية في المستقبل القريب المنظور تتوجه نحو قضيتين كبيرتين : ( الحريات المدنية ) و ( العدالة الاجتماعية ) . و لم يفتني , في المناقشات اليومية الجارية التي دارت بيني و بين الأشقاء المغاربة , أن ألمح لديهم ما يشبه ( الهلع ) على الوضع المصري الجديد , في أبعاده الاقتصادية و السياسية و الاجتماعية الخطيرة , حيث تسود الانقسامات المجتمعية الهائلة , غير المسبوقة . و حزنت لهلعهم الظاهر و عدم قدرتنا مصريا ً حتى الآن على تحقيق الانفراجات الوطنية الكبيرة . وضعت المغرب _ إذن _ أقدامنا على الطريق الصحيح , طريق الشعوب و المبادرات المدنية الابتكارية , و لا عزاء لعقم الأداء المؤسساتي الرسمي و لا تربيطات المؤسسات الثقافية الرسمية الكالحة التي أجبرتنا على الارتطام بنهاية النفق ! الصوت القادم عربيا ً في المستقبل هو نفير الشعوب وحدها . إنها رسالة المجتمعين في ( الدار البيضاء ) التي لخصت تحولات المجتمع العربي و مؤشراته المستقبلية الجادة .