أكتب اليوم عن «ماما». لا أريد أن أقول «أمى» أو «والدتى» كى أتخفى وراء لغة محايدة. فهذا المقال شخصى بالدرجة الأولى، ولكن ألست ممن يؤمنون بعبارة «ما هو شخصىٌ إنما هو فى الواقع سياسىٌ»؟ بلى، فتكويننا الشخصى وظروف تأثرنا بمن حولنا يُنتجنا إنتاجا. وأكثر من أثرت فىّ هى «ماما»، الدكتورة سوسن الغزالى، أستاذ الصحة العامة والطب السلوكى بجامعة عين شمس، والتى أدين لها بكل ما تعلّمته فى حياتى. فأغلب ظنى أننى إن حاولت تعقُّب أى فكرة لدىّ، «أتخيّلُها» أصلية، سأجد أنه من السهل جدا إرجاعها لها، فهى من علّمتنى «التفكُّر» من الأساس. فقد تربيت فى بيت رأيت فيه «ماما مُفكِّرة»، تُحلل وتُفند، ترصُد ظواهر اجتماعية ونفسية وصحية وثقافية وترجعها لأسبابها وتقارنها بحقب زمنية سابقة وببلاد مختلفة. تجادل والدى، الطبيب أيضا، فتقنعه دون «حساسية» لديه، وبذلك لم تتولد عندى «عُقدة» الذكر والأنثى، وأدركت أنه، عقائديا، المرأة إنسان مُكلَّف بالتفكير الجاد العميق المتأمِّل. سمعتها تردد: «أحكم الناس أعذرهم للناس»، وتؤكد «احترام الاختلاف»، فتحددت معالم علاقتى «بالآخر» الذى استنبطتُ أنه وجب علىّ «عُذره» كى أبلُغ الحكمة و«احترامه» كى أُطبِّق تلك الحكمة. رأيتها تُصادق أُناسا من جميع الأديان والبلدان، وتفتح معهم مجالا للسجال العلمى والعقلى فى المؤتمرات الطبية التى نظمتها فى مصر، أو شاركت فيها دوليا، فراقبتها معتزة بجوهر مصريتها وإسلامها ولكن دون سطحية أو قشور. فالباطن فى كليهما أهم لديها من الظاهر. أعز صديقات «ماما» مسيحية، ومن هنا تعلمت التسامح الدينى. ولذلك وفى هذا السياق أقدم التعازى لجميع المصريين فى وفاة البابا شنودة. وأدعونا جميعا لأن ننظر لبعضنا البعض كمصريين من كل الديانات لنرى أُخُوّة واتحاداً بدلا من خلافات. الأزمات تُثقل. وقد عشنا فى «ركود» لزمن طويل. لقد حان الوقت لنقوم «بقفزة نوعية» فى نمونا التاريخى كمواطنين أحرار فى بلد حر. ولنتفاءل بقدرتنا على تحقيق ذلك. فالتفاؤل فعل سياسى. فرغم حزمها واهتمامها بالقواعد وعدم قبولها «بالحال المايل»، إلا أن «ماما بهجة» تضحك كثيرا وتحب أشياء طفولية للغاية مثل البالونات والألوان والعرائس! منها تعلمت أن أحافظ على «براءة» ما بداخلى كيلا تطحننى حقائق العالم الذى نحياه. فبذلك أصبح التفاؤل «أيديولوجيا» بالنسبة لى! فى قاموسى، «ماما» مرادف «للاستقلال»، وهذه صفة نادرة إلى حد ما فى أى أُم. فهى أبدا لم تُعرِّف ذاتها من خلالنا أنا وإخوتى. بل أذكُر أننا فى كل مراحل الدراسة، وكنا دائما متفوقين الحمد لله، لم نُجبَر أبدا على المذاكرة أو الاجتهاد بشكل من المفترض أن ينعكس على أدائها «كأُم». فكانت بذلك تؤصِّل لدينا «حرية» النجاح أو الفشل، وبالتالى إدراك أن نجاحنا أو فشلنا منبعُه منا ومردوده علينا بشكلٍ فردى. فنشأنا نُدرك أنه لا فائدة من الشكوى ولعن الظروف. فالنجاح والإخفاق ممكنان! واختياراتنا هى ما تُحدد أيا منهما سنحصُل عليه. ولكن ماذا إذا أخفقنا فعلا يا «ماما»؟ ردها هو أننا نتحمل مسؤولية أخطائنا أولا، فنتأمل قصورنا، ثم نعمل من جديد، ونصحح المسار، مع إيمانٍ تامٍ بأنه لا يَصح إلا الصحيح، وأنه كما تقول هى: «العدل طولى» أى ليس مقطعياً، كأن نتخيل أننا يجب أن نحصل على الحكم العادل فى أمر ما «هنا والآن». بلى فقد «يتأخر» العدل فنحصل عليه بعد حين. هنا، علينا أن نصبر ونتقبل ذلك بكل يقين وتفاؤل. فهذه هى الاختبارات الإلهية. بل أيضا، قد يكون ما يبدو لنا كأنه «ظلمٌ» إنما هو ضريبة ندفعها عن أمر سابق لم نُحاسب عليه بعد! ولذلك أهم القيم لديها هى «الرضا» وقول «الحمد لله». ربما أبدو كالابنة المطيعة المحُبة الممتنة الوفية. ورغم رغبتى فى أن يكون كل هذا حقيقة، إلا أننى أعترف أن كثيرا ما «أستفز» «ماما» بجدالى، خاصة حينما ننظر لأمر اجتماعى أو سياسى ما من زوايا مختلفة!! ولذلك أطلب منها أن تسامحنى! أخيراً وفى «عيد الأم» أود أن أشكرك يا «ماما»، على كونك مصدر إلهام لى ولكثيرين غيرى من طُلابك، وأدعو لك بالصحة والسلامة وطول العمر.. فرغم محاولتى هنا لرد الجميل، فإن احتياجى إليكِ... لا يوصف. [email protected]