أسعار الذهب اليوم الأحد 28 أبريل 2024    استقرار أسعار الدولار مقابل الجنيه المصري في البنوك المصرية    ما الأسلحة التي تُقدّم لأوكرانيا ولماذا هناك نقص بها؟    روسيا: دمرنا أكثر من 17 طائرة بدون طيار أطلقتها أوكرانيا    الجارديان: وزارة الدفاع البريطانية تدرس إرسال قوات إلى غزة لتوزيع المساعدات    انتوا بتكسبوا بالحكام .. حسام غالي يوجّه رسالة ل كوبر    بعد الفوز على الخليج.. النصر يكسر رقم الهلال    حر ولا برد| تحذير هام من الأرصاد الجوية للمواطنين.. انخفاض درجات الحرارة    التصريح بدفن جثة شاب لقى مصرعه أسفل عجلات القطار بالقليوبية    طلاب صفوف النقل بالثانوية الأزهرية يبدأون امتحانات نهاية العام    نصيحة علي جمعة لكل شخص افترى عليه الناس بالكذب    نشرة «المصري اليوم» الصباحية.. أسرة محمد صلاح ترفض التدخل لحل أزمته مع حسام حسن    بالصور.. كنيسة رؤساء الملائكة تحتفل بأحد الشعانين    الزمالك يتحدى دريمز في مباراة العبور لنهائي الكونفدرالية الإفريقية    السبب وراء عدم انخفاض أسعار السلع في الأسواق.. التموين توضح    الأهرام: أولويات رئيسية تحكم مواقف وتحركات مصر بشأن حرب غزة    60 دقيقة متوسط تأخيرات القطارات بمحافظات الصعيد.. الأحد 28 أبريل    بطلوا تريندات وهمية.. مها الصغير ترد على شائعات انفصالها عن أحمد السقا    وقف انقطاع الكهرباء وتخفيف الأحمال اليوم ولمدة 8 أيام لهذا السبب    لا بديل آخر.. الصحة تبرر إنفاق 35 مليار جنيه على مشروع التأمين الصحي بالمرحلة الأولى    بعد واقعة «طفل شبرا».. بيان هام من الأزهر الشريف    محاكمة المتهمين بقضية «طالبة العريش».. اليوم    تصفح هذه المواقع آثم.. أول تعليق من الأزهر على جريمة الDark Web    الأطباء تبحث مع منظمة الصحة العالمية مشاركة القطاع الخاص في التأمين الصحي    سيد رجب: بدأت حياتى الفنية من مسرح الشارع.. ولا أحب لقب نجم    عاجل.. قرار مفاجئ من ليفربول بشأن صلاح بعد حادثة كلوب    السكك الحديد تعلن عن رحلة اليوم الواحد لقضاء شم النسيم بالإسكندرية    لتضامنهم مع غزة.. اعتقال 69 محتجاً داخل جامعة أريزونا بأمريكا    مصرع 5 أشخاص وإصابة 33 آخرين في إعصار بالصين    رفض الاعتذار.. حسام غالي يكشف كواليس خلافه مع كوبر    تسليم أوراق امتحانات الثانوية والقراءات بمنطقة الإسكندرية الأزهرية    أتلتيكو مدريد يفوز على أتلتيك بلباو 3-1 في الدوري الإسباني    فضل الصلاة على النبي.. أفضل الصيغ لها    اشتباكات بين الفلسطينيين والاحتلال الإسرائيلي غرب رام الله    عضو اتحاد الصناعات يطالب بخفض أسعار السيارات بعد تراجع الدولار    بعد التراجع الأخير.. أسعار الحديد والأسمنت اليوم الأحد 28 أبريل 2024 بالأسواق    هيئة كبار العلماء السعودية تحذر الحجاج من ارتكاب هذا الفعل: فاعله مذنب (تفاصيل)    بالأسماء.. مصرع 5 أشخاص وإصابة 8 في حادث تصادم بالدقهلية    هل مرض الكبد وراثي؟.. اتخذ الاحتياطات اللازمة    اليوم، أولى جلسات دعوى إلغاء ترخيص مدرسة ران الألمانية بسبب تدريس المثلية الجنسية    العالم الهولندي يحذر من زلزال قوي خلال 48 ساعة ويكشف عن مكانه    عمرو أديب: مصر تستفيد من وجود اللاجئين الأجانب على أرضها    غادة إبراهيم بعد توقفها 7 سنوات عن العمل: «عايشة من خير والدي» (خاص)    نيكول سابا تحيي حفلا غنائيا بنادي وادي دجلة بهذا الموعد    متحدث الكنيسة: الصلاة في أسبوع الآلام لها خصوصية شديدة ونتخلى عن أمور دنيوية    الأردن تصدر طوابعًا عن أحداث محاكمة وصلب السيد المسيح    تشيلسي يفرض التعادل على أستون فيلا في البريميرليج    نصف تتويج.. عودة باريس بالتعادل لا تكفي لحسم اللقب ولكن    ما حكم سجود التلاوة في أوقات النهي؟.. دار الإفتاء تجيب    إصابة 8 أشخاص في حادث انقلاب سيارة ربع نقل بالمنيا    المشدد 8 سنوات لمتهم بهتك عرض طفلة من ذوى الهمم ببنى سويف    هل يمكن لجسمك أن يقول «لا مزيد من الحديد»؟    23 أكتوبر.. انطلاق مهرجان مالمو الدولي للعود والأغنية العربية    السيسي لا يرحم الموتى ولا الأحياء..مشروع قانون الجبانات الجديد استنزاف ونهب للمصريين    أناقة وجمال.. إيمان عز الدين تخطف قلوب متابعيها    ما هي أبرز علامات وأعراض ضربة الشمس؟    دراسة: تناول الأسبرين بشكل يومي يحد من الإصابة بهذا المرض    " يكلموني" لرامي جمال تتخطى النصف مليون مشاهدة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منارات الحكمة العربية (4-7)ابن تيمية المفترى به وعليه
نشر في المصري اليوم يوم 14 - 02 - 2012

ربما يستغرب البعض حين يرى اسم الإمام «ابن تيمية» عنواناً لإحدى مقالات «منارات الحكمة العربية» التى تُعنى باللوامع والشواهق الفكرية والعلمية فى تراثنا الممتد فينا من الماضى إلى المستقبل.. يستغربون ذلك، لظنهم بأن هذا الرجل الذى اشتهر بين معاصرينا بالتعصب والصرامة والتشدُّد الدينى، بل صار فى وهم الناس بمثابة الأب الروحى للجماعات الإسلامية المتطرفة، أو هو المعادل الموضوعى لما يسميه معاصرونا: الفكر الوهابى.. لكن هذه الظنون والأوهام، كما سنرى بعد قليل، هى مجرد خلطٍ وتخليط صارا مع كثرة الترديد كأنهما حقيقة.. (الوهمُ يُمسى بعد حينٍ حقيقاً، فيصير التيهُ للناس طريقاً).
بدأت معرفتى بتراث «ابن تيمية» منذ أيام التلمذة، فقد زرت أيامها منزل أستاذى الدكتور محمد على أبوريان، الواقع على ناصية شارع «لاجيتيه» الأنيق، بمنطقة الإبراهيمية بالإسكندرية (وهو الشارع الذى صار اليوم مرتعاً للمتعاركين ومعقلاً للخروج على القانون وساحةً للبلطجة).. وفى الشقة الفسيحة، العامرة جدرانها بالكتب، رأيت مجموعةً فاخرةً من المجلدات الكثيرة، عليها جميعاً عنوان (فتاوى ابن تيمية).
ولما أعجبتنى فخامةُ الطبعة، وأدهشنى أنها مجلدات «فُتيا» فى بيت أستاذٍ للفلسفة، سألت د. «أبوريان» عن ذلك، فقال إنها هديةٌ من سفارة «السعودية» فقد طبعوا على نفقتهم هذه الموسوعة الضخمة من (الفتاوى) وهم يعطونها مجاناً لأهل الفكر والمشتغلين بالتخصصات الإسلامية، كى تزدان بها مكتباتهم الخاصة، ويرجعوا إليها عند اللزوم:
ولماذا يفعلون ذلك يا دكتور؟
لأنهم يرِّوجون لأفكار ابن تيمية فى مصر، نظراً لارتباطه بالفكر الوهابى السائد فى السعودية.
عفواً يا أستاذنا، لكن ابن تيمية جاء قبل محمد بن عبدالوهاب بزمنٍ طويل، حوالى خمسمائة سنة، فكيف يرتبط به؟
آل سعود حنابلة، وابن عبدالوهاب حنبلى، وابن تيمية حنبلى.. وطبيعى أن يُحيى الحنابلة تراث مشايخهم السابقين.
لكن يا دكتور، عبد القادر الجيلانى كان حنبلياً أيضاً، وهم لا يهتمون فى السعودية بإحياء تراثه؟
افهمْ يا بنى، الموضوع كله سياسة فى سياسة.
بس يا أستاذنا، ما دخل السياسة فى المسألة السياسة تدخل فى كل شىء، حتى فيما يحصل بين الرجل وامرأته خلف الباب المغلق.
ضحك الاثنان من زملائى الحاضرين على المثال الذى ضربه الأستاذ، ولم يفهما معنى كلامه (ولا فهمته أنا وقتها).. ثم مرت الأيامُ وظهرت مؤلفات ابن تيمية فى كل مكان بمصر، وعرف الجميع أنها «المرجع» للجماعات الإسلامية التى كانت تسمى فى الإعلام المصرى آنذاك (فى الثمانينيات) الجماعات المتطرفة، المعارضة سياسياً للنظام القائم وما يزعمه من حرصٍ على «مناخ الاستقرار» و«حقوق الفقراء» و«دولة القانون» وغير ذلك من الخرافات التى كانت الأغلبية الساكتة (الصامتة) ترضى بها، من باب أن السكوت علامة الرضا.. ولأن المعارضين للحكومة من الإسلاميين (المتعصبين) كانوا يحتفون بفقه الإمام ابن تيمية وفتاواه، ويجعلونها لهم شرعةً ومنهاجاً، فقد استقر فى وهم الناس أن ابن تيمية هو شعار التطرف وعنوان التعصُّب الدينى.
وفى مطلع التسعينيات اضطررتُ للنظر فى تراث «ابن تيمية» تفصيلاً، وقد قادنى إلى ذلك ما كنتُ أقوم به من تحقيق ودراسة لأشعار (عفيف الدين التلمسانى) وقصائده الصوفية المفعمة بالمعانى الروحية والتألق البلاغى، فصار من الضرورى أن أنظر فيما قاله ابن تيمية عن «العفيف التلمسانى» من عبارات نارية، قادحة، من نوع قوله:
وأما الفاجر التلمسانى، فهو أخبث القوم (= الصوفية) وأعمقهم فى الكفر. فإنه لا يفرِّق بين الوجود والثبوت كما يفرِّق ابن عربى، ولا يفرق بين المطلق والمعيَّن (= الله والعالم) كما يفرِّق الرومى، ولكن عنده ما ثمَّ غيرٌ ولا سوى (= الله) بوجهٍ من الوجوه، والعبد عنده يشهد السوى (= العالم) ما دام محجوباً، فإذا انكشف حجابه رأى أن ما ثمَّ غير. ولهذا كان يستحلُّ جميع المحرَّمات، حتى حكى عنه الثقاتُ أنه كان يقول: البنتُ والأمُّ والأجنبيةُ شىءٌ واحدٌ.. وكان يقول: القرآن كله شركٌ ليس فيه توحيد، وإنما التوحيدُ فى كلامنا! وكان يقول: أنا ما أمسكُ شريعةً واحدةً! وإذا أحسن القول، يقول: القرآنُ يوصل إلى الجنة، وكلامنا يوصل إلى الله تعالى.. وله ديوان شعرٍ جيد، لكنه مثل لحم خنزير فى طبق صينى! وما رأيتُ فيهم (= الصوفية) مَنْ كفر هذا الكفر الذى ما كفره أحدٌ قَطُّ، مثل التلمسانى.. (ابن تيمية: مجموعة الرسائل والمسائل، المجلد الأول، ص 184).
وقد دعتنى عبارات ابن تيمية المروِّعة هذه، إلى النظر فى طبيعة أفكار هذا الرجل (العنيف) الذى بدا لى من كلامه موفور الغضب، ميالاً لإزاحة المعارضين خارج دائرة الدين، حتى إنه لا يتورَّع عن تكرار كلمة (الكفر) وإيرادها مراراً فى عبارةٍ واحدة كتلك التى اختتم بها كلامه عن التلمسانى «ما رأيت مَنْ كفر هذا الكُفر الذى ما كَفره أحد..» فقادنى ذلك إلى قراءة كتبه، والكتب المؤلَّفة عنه، فرأيتُ فيها الكثير مما يثير الدهشة والتعجب. رأيتُ مثلاً ما يقوله الشيخ محمد أبوزهرة فى مقدمة كتابه عن ابن تيمية: «الإمام الجليل تقىُّ الدين بن تيمية صاحب المواقف المشهودة، دراسته هى دراسةٌ لجيل، وتعرُّفٌ لقبسٍ من النور أضاء فى دياجير الظلام، ونحن المصريين نهلنا من آرائه فى قوانين الزواج والوصية والوقف، وكثيرٌ مما اشتمل عليه القانون رقم 25 لسنة 1929 مأخوذٌ من آرائه، مقتبسٌ من اختياراته، وشروط الواقفين والوصايا اقتبست أحكامها فى قانون الوقف والوصية، من أقواله..».
إذن، كانت مصر أسبق من السعودية فى الاهتمام بتراث ابن تيمية، ولم يقتصر هذا الاهتمام الأسبق زمناً على نشر مؤلفات ابن تيمية، بل تعدَّى ذلك إلى الاعتماد على رؤاه وفتاواه عند صياغة القوانين المصرية.. طيب، فما بال موقف ابن تيمية (العنيف) من الصوفية؟
ظهر لى بعد طول بحث، أن العداء الشهير بين ابن تيمية والتصوف، هو عداءٌ دعائىٌّ تم الترويج له، اعتماداً على آراء محدَّدة فى أشخاص بأعينهم، مثلما رأينا فى عباراته السابقة ضد العفيف التلمسانى. لكن لابن تيمية من وراء ذلك كتابات فى التصوف!
مثل رسالته اللطيفة التى عنوانها «الصوفية والفقراء» وفيها مدحٌ وفيرٌ للزهَّاد والصوفية المبكرين.. وله أيضاً كتابٌ بعنوان «شرح كلمات من فتوح الغيب» وفيه يفيض فى الإبانة عن المعانى العميقة الواردة فى كتاب (فتوح الغيب) للإمام الصوفى الكبير عبدالقادر الجيلانى، وهو من الصوفية المتأخرين زمناً، قريبى العهد نسبياً بزمان ابن تيمية (توفى الجيلانى سنة 561 هجرية، وتوفى ابن تيمية سنة 728 هجرية).
ثم رأيتُ لابن تيمية شهادة فى شيخ الصوفية الأكبر «ابن عربى» المتوفى سنة 638 هجرية، نصُّها أن ابن عربى هو أقرب أهل التصوف إلى الإسلام الصحيح.. ثم رأيت عند تلميذ ابن تيمية «ابن قيم الجوزية» ميلاً إلى التصوف والروحانية التى لا تستقيم ولا تتفق مع عداء المعاصرين من أتباع ابن تيمية، للصوفية!
الأمر إذن ملتبسٌ، ويحتاج إلى الإحاطة بالموقف الفكرى العام لابن تيمية، وهو الأمر الذى لا يمكن إدراكه من دون النظر فى تفاصيل حياة ابن تيمية، ومعاناته الطويلة.
فى سنة 661 هجرية كان مولد ابن تيمية بناحيةٍ من نواحى العراق اسمها «حرَّان»، وهى بلدة قديمة اشتهرت بالاشتغال بالفلسفة والحكمة، من قبل ظهور الإسلام ومن بعد انتشاره.. وعندما بلغ ابن تيمية السابعة من عمره، أغار التتارُ مجدَّداً على العراق بغية احتلالها (بعد سنوات قليلة من اجتياحهم المروِّع لبغداد سنة 656 هجرية) فاضطرت أسرة ابن تيمية إلى الفرار نحو الشام، والاستقرار فى دمشق التى لم تكن مستقرة. وبالطبع، رأى الطفل الويلات فى طريق الهروب الهجاجى إلى الشام، ثم رأى ويلات أفظع بعد استقراره بها. فما لبث الإمبراطور المغولى غازان (قازان) أن جاء بجيشه إلى الشام فهزم الجيش المصرى/ الشامى (= عسكر المنصور قلاوون) وصاروا بين يديه فلولاً هاربة إلى القاهرة، وتهيَّأ الإمبراطور المغولى المسلم لاقتحام دمشق.. وهنا، لا بد لنا من وقفة:
كان قازان (غازان) هو رابع الملوك المغول (التتار) المسلمين، ومع ذلك فإن إسلامه وإسلام سابقيه لم يمنعه من تدمير ديار الإسلام فى العراق والشام (ومصر لو كان قد استطاع) وهو الأمر الذى يدعونا للتأمل فيما يعتقده البعض من أن هجوم القائد المغولى البشع «هولاكو» على بلاد المسلمين، إنما كان لأنه رجل (كافر) لا يؤمن بدين.. فلو صحَّ ذلك، فكيف سعى خلفاؤه بعدما صاروا مسلمين إلى ما كان يسعى إليه من احتلال بلاد الإسلام وعبورها فوق جثث المسلمين؟ وكيف اتسم الإمبراطور المغولى المتأخر زمناً عن هؤلاء «تيمور لنك» بكل هذا العنف ضد المسلمين، مع أنه كان أيضاً مسلماً، حتى كان جنده يصنعون له من رؤوس قتلاهم أهراماً عالية لتسعد عيناه بأشلاء ضحاياه! المسألة إذن لا علاقة لها بالدين، بل بالسلطة والسيطرة، بصرف النظر عن عقيدة الراغب فى السلطان. وبعبارة أدق، فإن الرغبة فى السلطة تعلو عادةً على كل اعتبارٍ آخر، دينى أو أخلاقى، ولا تتورَّع عن رفع (الدين) شعاراً، عندما يبدو ذلك ممهِّداً لامتلاك السلطة ووسيلةً لاستقرارها.
المهم، أدى حصار التتار إلى فرار الناس مذعورين من دمشق، آملين فى أن يجدوا الأمان فى مصر والقاهرة. لكن ابن تيمية، وقد كان آنذاك فقيهاً معروفاً لم يهرب مثل كثيرين من علماء زمانه، بل قام بدور كبير فى تهدئة خواطر أهل دمشق فى غمرة «الانفلات الأمنى» الذى روَّع الناس هناك، خاصةً بعدما انسحبت القوات النظامية المملوكية (عسكر قلاوون) وانفلت المجرمون من السجون وعاثوا فى الأنحاء فساداً وترويعاً للمدنيين. ولم يستسلم ابن تيمية للواقع المضطرب فى دمشق، ودعا الأعيان إلى تشكيل جماعة تشبه ما نسميه اليوم (المجلس الرئاسى) لضبط الأمور فى دمشق ومفاوضة السلطان الغازى «غازان» أملاً فى إقناعه بعدم اقتحام العاصمة «دمشق» بعساكره.. وذهب ابن تيمية على رأس الوفد المفاوض، فوعده غازان (قازان) خيراً إذا ما سلَّم الناسُ أسلحتهم وأخرجوا المخبوء من أموالهم، ثم خدعه ودخل المدينة مثلما يفعل كثيرٌ من الغزاة والحاكمين.
وفى سنة 700 هجرية، جاء ابن تيمية إلى مصر، بعدما فشل فى الاجتماع مجدداً مع الغزاة لإقناعهم بالخروج من دمشق، وبعدما تسرَّبت أنباء عن نية السلطان المغولى اجتياح مصر. وفى القاهرة، راح ابن تيمية يحمِّس الناس ويدعوهم لقتال المغول، ويثير غيرة الأمراء والسلطان قلاوون للخروج إلى قتالهم.. ثم بلغه أن أهل دمشق سيهجرونها، فعاد إليهم ليزفَّ إليهم خبر استعداد قلاوون وجند مصر للخروج لملاقاة التتار، وصار هناك بمثابة ملكٍ غير متوَّج وسعى لتطبيق (الشريعة) وتنفيذ أحكام الله.
وفى إطار حملة «التشويه» التى طالت آنذاك كثيرين، على النحو الذى نراه اليوم فى وسائل الإعلام، ثار اتهامٌ شنيعٌ ضد «ابن تيمية» يزعم فيه المرجفون أنه يراسل التتار سراً، وينسِّق معهم المواقف! وهو الادعاء الذى انهار حين التقى الجمعان (المماليك والتتار) واخترع دعاة الانهزام حجةً تقول إنه لا يجوز محاربة التتار لأنهم مسلمون! لكن ابن تيمية أفتى بأنهم قومٌ من جنس «الخوارج» واشترك بنفسه فى قتالهم، فترك القلم وحمل السيف وتقدَّم الصفوف فى موقعة «شقحب» التى جرت فى شهر رمضان سنة 702 هجرية، وفيها انتصر أهل مصر والشام واندحر التتار بعد قتالٍ ضروس. وقد انكشفت لابن تيمية فى غمرة تلك الأحداث الجسام أمورٌ، منها أن «النصيرية» الذين نسميهم اليوم «العلويين» كانوا متواطئين مع الغزاة (المغول، الصليبيين) وكذلك فعل الغلاة من الشيعة على اختلاف مذاهبهم، فاشتدَّ هجوم ابن تيمية على (التشيع) وصبَّ جام فتاواه النارية، على كل مخالفٍ لمذهب السنة والجماعة.. وكذلك، رأى ابن تيمية أن الدراويش (الصوفية) يكتفون بالتبرك بالقبور وبالاستغاثة بالأولياء، من دون مجاهدة حَقَّة للغزاة. ومن هنا حمل حملةً شعواء على الشعوذة والدجل الذى كان يسود الأوساط الصوفية آنذاك.
وهكذا كانت حياة ابن تيمية سلسلة من «المحن» والبلايا والأسفار المتتالية، طوعاً وكرهاً، لكن ذلك لم يمنعه عن الاشتغال بالعلم والمعرفة الدينية والفقهية، خاصةً فى الفترة التى أقام فيها بالإسكندرية (سنة 709 هجرية)، ثم عكوفه على التدريس والفُتيا بالقاهرة، ثم عودته لاحقاً إلى الشام واعتقاله فى دمشق، وصدور الأوامر بمنعه من الكتابة بحجب الأوراق والأقلام عن زنزانته.. ومات ابن تيمية فى السجن سنة 728 هجرية، بعد حياةٍ عامرة بالوقائع حافلة بالمؤلفات، بحيث يصعب عرضها فى مقالة كهذه محدودة المساحة.
لكن السؤال هنا: ما هى «الحكمة» التى يمثلها ابن تيمية؟.. هى الحكمة (العلمية) المندرجة فى وقائع حياته، فلا يمكن فصل أفكاره عن الظروف الحياتية التى مرَّ بها. فابنُ تيمية ليس واحداً من هؤلاء الحكماء الذين توغَّلوا فى المعرفة (النظرية) أو أولئك الذين انعزلوا عن واقعهم. فالرجل لم يكن له مذهب «مشهور» وآخر «مستور» مثل عديد من حكماء العرب السابقين، ولم ينشغل بالقضايا منقطعة الصلة بالواقع، بل كانت أفكاره وفتاواه مثل جديلة مضفرة مع الأحداث الجارية فى زمانه، وكان هو لا ينفصل عنها.. وهذا يقود لسؤال آخر: لماذا اشتدَّ ابن تيمية فى هجومه على الشيعة، وعلى الصوفية؟
كان ابنُ تيمية فيما أرى، يتخذ مواقف متشدِّدة ضد «الشيعة» لا التشيع ذاته، وضد المتصوِّفة المعاصرين له، وليس ضد التصوف نفسه. وقد صرَّح فى بعض كتبه باعتقاده بأن أولئك وهؤلاء، هم السبب فى فتنة التتار!.. فلا يمكن الفصل بين حياة هذا الرجل ورؤاه الفقهية، ولو عاش ابن تيمية فى زمنٍ آخر، لما كان قد كتب ما كتبه. ومن هنا، فإن الاستدعاء المعاصر لبعض الجوانب من المنظومة الفكرية لابن تيمية وإحياء مؤلفات بعينها من أعماله، إنما هو نوعٌ من المخايلة الكاذبة بهذا التراث الفقهى، وتوجيه غير برىء للفتاوى التى أطلقها الرجل وهو محكوم بأحوال زمانه. فلو عاش ابن تيمية اليوم، ورأى مثلاً نضال «إيران» لأمريكا، لكان قد انحاز من فوره للجانب المسلم، وكفَّ عن التنديد بالتشيع! ولو عاش فى مرحلة من تلك التى حمل فيها الصوفية لواء المقاومة للمحتل الأجنبى، مثلما جرى فى وقائع كثيرة (المهدى فى السودان ضد الإنجليز، السيد ماء العينين فى المغرب ضد الفرنسيين، عمر المختار فى ليبيا ضد الإيطاليين، الأمير عبدالقادر الجزائرى ضد المستعمرين) لكان ابن تيمية قد انخرط فى سلك هؤلاء، ولم يقدح فى الصوفية.
إن ابن تيمية يمثل جانباً من «الحكمة» العربية الإسلامية التى يمكن وصفها بأنها حكمة الاستجابة لمتطلبات الواقع، واحتمال الأذى وحملات التشويه وتكرار الاعتداء عليه جسدياً بين فلول المماليك وبقايا الحكومات الساقطة (ضُرب ابن تيمية مراراً فى دمشق وفى القاهرة، لكن المصريين ثاروا من أجله فى المرة القاهرية) ومع عدم تقصيره فى تلك الاستجابة، لم يقصِّر فى الجهد العلمى الذى قدَّمه فى مؤلفات مبهرة، غير الفتاوى والأحكام الفقهية المؤقتة، وهو ما نراه فى أعمالٍ له لا يسمح المقام هنا بعرضها أو الإفاضة فى لمحاتها الذكية، بل العبقرية.. أعمالٍ من نوع: درء تعارض العقل والنقل، الرد على المنطقيين، اقتضاء الصراط المستقيم.
وفى الأسبوع المقبل، سوف نتوقف عند منارة أخرى من منارات الحكمة العربية، يمثلها واحد من الصوفية الذين عاصروا ابن تيمية، وكانت بينهما صلةٌ سوف نبدأ بها مقالنا القادم عن حكيم الصوفية: ابن عطاء الله السكندرى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.