فاجأنى أحد زملائى مازحا، عندما وجدنى بين طيات أوراق ضخمة تحمل جداول وأرقاما عن ميزانية الدولة المصرية عام 1952/1953، ليسألنى عن حجم مرتب والده، وإن كان مدرجا أم لا؟. هذه المزحة كانت خير تعبير عن وضوح هذه الميزانية التى تجعلك بين صفحاتها الطويلة، تستعيد التاريخ كأنك تقرأ حركة كل شخوصه من خلال مخصصاتهم،حيث تعود بك الأرقام إلى زمن يرى فيه من أيد ثورة يوليو ومن عارضها شيئا جميلا، ألا وهو البساطة، فالأموال فى جانبى الميزانية مبالغ ضعيفة، وتكوين مؤسسات الدولة وأدوار كل منها محدود مقارنة بمليارات وهموم الألفية الجديدة فى القرن الواحد والعشرين. تعكس الميزانية بين طياتها خميرة الجديد، فمن غرائب الأقدار أن مرسوم ربطها صدر فى 18 أغسطس 1952 أى بعد قيام ثورة يوليو بأسابيع (فى زمن الوصى على العرش) وباسم حضرة صاحب الجلالة ملك مصر والسودان، غير أنك تجد فى تفصيلات مخصصات جلالة الملك، ومصروفات وزارات الحربية والبحرية، والداخلية والمعارف والمالية، وجميع مخصصات مؤسسات الدولة من الملك إلى صغار الموظفين، ما يجب التوقف عنده. نختار منها نموذجا تستعرضه «المصرى اليوم» فى ملفها الذى يحتفى بذكرى ثورة 23 يوليو 1952. مخصصات جلالة الملك مخصصات جلالة الملك تراجعت بشدة فى موازنة 1952 / 1953 بقيمة 79 ألف جنيه مقارنة مع 1951، لتسجل 21 ألف جنيه، فى حين بلغت مخصصات ديوان الملك 521 ألف جنيه، نولا ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟أيضا من 1.1 مليون جنيه وحضرة صاحبة العظمة السلطانة ملك 1200 جنيه، فيما خلت الموازنة من مخصصات معية حضرة صاحبة الجلالة الملكة نازلى، بالإضافة إلى وصول بند كساو وملابس وتجهيزات 20 ألف وأجور 78 ألفا و2000 جنيه مشتريات أوسمة و20 ألف جنيه للوقود، و4 آلاف تليفونات وتلغرافات، بدلا من 10 آلاف فى العام السابق. وزارة الداخلية: اللافت أن تتحمل مصروفات وزارة الداخلية فى ميزانية ثورة يوليو 1952/ 1953 مرتبات نقيب الأشراف بقيمة 197 جنيها فى العام، وشيخ السجادة الوفائية، 157 جنيها، وشيخ مشايخ الطرق الصوفية 360 جنيها، ومكافآت مشايخ الحارات بإجمالى 17 ألفا و400 جنيه، و104 آلاف جنيه للعمد والمشايخ والقبائل. كما تضمنت مخصصات الداخلية مصروفات المولد النبوى الشريف 2340 جنيها، ومصروفات السيد البدوى 800 جنيه، وموالد أخرى 990 جنيها. وزارة الحربية والبحرية: 6 ملايين و653 ألفا و300 جنيه مرتبات وأجورا للديوان العام والجيش، بزيادة 2 مليون جنيه عن الميزانية السابقة، و43 ألف جنيه مصاريف نقل المسجونين والمشبوهين، وهى أحد مخصصات مصلحة السجون، وبحرية جلالة الملك مليون و698 ألف جنيه، والسلاح الجوى الملكى 3 ملايين و414 ألفا، ومصانع الطائرات 1.2 مليون جنيه والمصروفات الإضافية اللازمة لقوات الدفاع المصرية بمناسبة الحالة الدائمة فى فلسطين 3 ملايين و368 ألف جنيه. لقد بدأت بعد يوليو عملية جعل الجيش المصرى جيشا حقيقيا لا مجرد جيش تشريفة غير أن هزيمة يونيو كسرت هذا الخط قبل أن يقوم عبدالناصر بإعادة بناء الجيش. الضرائب احتلت محافظة الغربية المركز الأول من حيث أموال الأطيان التى بلغت مليونا و847 ألفا و400 جنيه، وعوائد أملاك 132 ألفا و400 جنيه، تحت بند الضرائب العقارية. وكانت الضرائب على الأطيان أهم مورد للدخل فى الدولة المصرية؛ ما يدل على تخلف البنية الصناعية وضعف تنوع البنيان الاقتصادى خلافا لما هو قائم الآن. ولفت النظر أن الميزانية صدرت وضمن مرسوم ربطها أسماء أعضاء مجلس الوزراء، وقد كان إجمالى المصروفات 206 ملايين جنيه ومثلها إجمالى الإيرادات، أى أن العجز كان صفرا. كانت مخصصات مجلس الشيوخ 217 ألف جنيه، ومخصصات مجلس النواب 269 ألف جنيه. ونص المرسوم على أنه لا يجوز دون موافقة البرلمان تعديل عدد الوظائف المدرجة بالميزانية أو درجاتها. كانت الدولة كلها محدودة الحجم والوظائف، وكان شغل الميزانية الشاغل تيسير أعمال كبار الملاك، لكن الوظائف ستُعدّل وتتعمق بعد ذلك، غير أن الإنصاف يقتضى القول بأن مستوى شفافية الموازنة تراجع لاحقاً.
