آخر تحديث.. أسعار العملات مقابل الجنيه اليوم الأحد 5-5-2024    «الإسكان»: تخصيص الأراضي بالمدن الجديدة تنمية شاملة وفرصة للاستثمار    مصدر: مدير الاستخبارات الأمريكية توجه إلى قطر لبحث مفاوضات الهدنة في غزة    أحد الناجين من الهولوكوست: أنا والكثير من اليهود ندعم قضية الشعب الفلسطيني    صور| ملحمة جماهيرية لدعم محمد صلاح.. ولد ليكون أسطورة ليفربول    3 ظواهر تضرب البلاد خلال ساعات.. «الأرصاد» تحذر من نزول البحر    عمرو أديب: «مفيش جزء خامس من مسلسل المداح والسبب الزمالك» (فيديو)    أمين الفتوى: الله شرف مصر أن تكون سكنا وضريحا للسيدة زينب    نافس عمالقة ووصل بالأغنية السعودية للقمة.. تعرف على رحلة «فنان العرب» محمد عبده    قصواء الخلالي: مصر لا تحصل على منح مقابل استقبال اللاجئين    نقابة البيطريين تحذر من تناول رأس وأحشاء الأسماك المملحة لهذا السبب    لدعم صحة القلب والتخلص من الحر.. 5 عصائر منعشة بمكونات متوفرة في مطبخك    إصابة 3 أشخاص في تصادم 4 سيارات أعلى محور 30 يونيو    وزير السياحة يشارك كمتحدث رئيسي بالمؤتمر السنوي ال21 للشرق الأوسط وشمال إفريقيا    وكالات الاستخبارات الأوروبية: روسيا تخطط لأعمال تخريبية في أنحاء القارة    الفيضان الأكثر دمارا بالبرازيل .. شاهد    وزيرة الهجرة: نستهدف تحقيق 5 مليارات دولار قيمة أوامر الدفع بمبادرة المصريين في الخارج    منافسة بين آمال وأنغام وشيرين على أغنية نجاة.. ونبيل الحلفاوي يتدخل (فيديو)    حزب الله: استهدفنا مستوطنة مرغليوت الإسرائيلية بالأسلحة الصاروخية    نجل الطبلاوي: والدي مدرسة فريدة فى تلاوة القرآن الكريم    الهلال يحقق بطولة الوسطى للمصارعة بفئتيها الرومانية والحرة    أفراح واستقبالات عيد القيامة بإيبارشية ميت غمر |صور    فحص 482 حالة خلال قافلة طبية مجانية في الوادي الجديد    أعراضه تصل للوفاة.. الصحة تحذر المواطنين من الأسماك المملحة خاصة الفسيخ| شاهد    نائب سيناء: مدينة السيسي «ستكون صاعدة وواعدة» وستشهد مشاريع ضخمة    .تنسيق الأدوار القذرة .. قوات عباس تقتل المقاوم المطارد أحمد أبو الفول والصهاينة يقتحمون طولكرم وييغتالون 4 مقاومين    «ظلم سموحة».. أحمد الشناوي يقيّم حكم مباراة الزمالك اليوم (خاص)    الوزير الفضلي يتفقّد مشاريع منظومة "البيئة" في الشرقية ويلتقي عددًا من المواطنين بالمنطقة    لوائح صارمة.. عقوبة الغش لطلاب الجامعات    هل يجوز تعدد النية فى الصلاة؟ دار الإفتاء تجيب    ظهر على سطح المياه.. انتشال جثمان غريق قرية جاردن بسيدي كرير بعد يومين من البحث    روسيا تسيطر على قرية جديدة في شرق أوكرانيا    لجميع المواد.. أسئلة امتحانات الثانوية العامة 2024    "العطاء بلا مقابل".. أمينة الفتوى تحدد صفات الحب الصادق بين الزوجين    أمينة الفتوى: لا مانع شرعيا فى الاعتراف بالحب بين الولد والبنت    «العمل»: جولات تفقدية لمواقع العمل ولجنة للحماية المدنية لتطبيق اشتراطات السلامة والصحة بالإسماعيلية    تامر حبيب يعلن عن تعاون جديد مع منة شلبي    نقل مصابين اثنين من ضحايا حريق سوهاج إلى المستشفى الجامعي ببني سويف    انطلاق مباراة ليفربول وتوتنهام.. محمد صلاح يقود الريدز    فى لفتة إنسانية.. الداخلية تستجيب لالتماس سيدة مسنة باستخراج بطاقة الرقم القومى الخاصة بها وتسليمها لها بمنزلها    وزير الرياضة يتفقد مبنى مجلس مدينة شرم الشيخ الجديد    التخطيط: 6.5 مليار جنيه استثمارات عامة بمحافظة الإسماعيلية خلال العام المالي الجاري    الحكومة الإسرائيلية تقرر وقف عمل شبكة قنوات الجزيرة    ندوتان لنشر ثقافة السلامة والصحة المهنية بمنشآت أسوان    تقرير: ميناء أكتوبر يسهل حركة الواردات والصادرات بين الموانئ البرية والبحرية في مصر    5 مستشفيات حكومية للشراكة مع القطاع الخاص.. لماذا الجدل؟    ميسي وسواريز يكتبان التاريخ مع إنتر ميامي بفوز كاسح    لاعب فاركو يجري جراحة الرباط الصليبي    الإفتاء: كثرة الحلف في البيع والشراء منهي عنها شرعًا    كنائس الإسكندرية تستقبل المهنئين بعيد القيامة المجيد    طوارئ بمستشفيات بنها الجامعية في عيد القيامة وشم النسيم    موعد استطلاع هلال ذي القعدة و إجازة عيد الأضحى 2024    البابا تواضروس: فيلم السرب يسجل صفحة مهمة في تاريخ مصر    "خطة النواب": مصر استعادت ثقة مؤسسات التقييم الأجنبية بعد التحركات الأخيرة لدعم الاقتصاد    اليوم.. انطلاق مؤتمر الواعظات بأكاديمية الأوقاف    عودة المهجرين لشمال غزة .. مصدر رفيع المستوى يكشف تفاصيل جديدة عن المفاوضات    مختار مختار: عودة متولي تمثل إضافة قوية للأهلي    شم النسيم 2024 يوم الإثنين.. الإفتاء توضح هل الصيام فيه حرام؟    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بين سُباعِيَّتين .. هوامشُ على ملفات الفتح
نشر في المصري اليوم يوم 29 - 12 - 2010

فى المقالات السبع السابقة، أَعَدْنا النظر فى تفاصيل وملفات الواقعة الكبرى المسماة فتح مصر (غزو مصر، الدخول العربى لمصر) وناقشنا خلالها الجوانب الرئيسة لهذه الواقعة، وطبيعة الشخصيات التاريخية، التى ارتبطت بها. وكانت غايتنا من وراء ذلك «اتِّباع الحق لا الميل مع الآراء»، كما قال ابنُ الهيثم، و«نصرة الحقِّ وإعلاء منارِه، وخذلان الباطل وطمس آثاره» كما قال ابنُ النفيس، و«إعمال العقل فى الخبر» كما أوصانا ابنُ خلدون.
وفى مقالة اليوم، التى هى كالختام للسباعية السابقة، نضع بعض الهوامش والحواشى على ما ورد فى المقالات السبع، قبل الدخول فى سباعيةٍ جديدةٍ ابتداءً من الأربعاء بعد القادم (لأننى لن أكتب الأسبوع المقبل) وأول هذه «الهوامش» يتعلق بالمصادر التاريخية التى يمكن أن يُستقى منها التصوُّر الأدقّ والرؤى الأنصع، لواقعة فتح مصر..
وفى ذلك نقول: هناك نوعان من المصادر المتعلقة بفتح مصر، أو المخبرة عنه، وهى للأسف الشديد لا يمكن تقسيمها إلا على أساسٍ دينى! فهناك المصادرُ العربية الإسلامية من جهة، ومن الجهة الأخرى المصادرُ المسيحية العربية وغير العربية.. والمصادر الأولى كثيرةٌ متعددة، ومتضاربةٌ فى كثير من الأحيان، لأن فيها من الروايات والأخبار ما لا يمكن قبوله منطقياً أو تجانُسُه مع الوقائع المشهورة. ومن حسن الحظ أن هذه الطائفة الأولى من (المصادر التاريخية) وفيرةٌ نوعاً ما، وهى بالإضافة إلى كثرتها، تحرص على ذكر أسانيد الروايات وناقليها، وهو الأمر، الذى ذكرنا فى مقالةٍ سابقة أنه يناسب علم (الحديث النبوى) بأكثر مما يناسب (التأريخ)، لكنه على كل حال، يُعَدُّ من الدلالات العامة على احتمال صدق الخبر.. أما المصادر المسيحية فالأمر فيها مختلفٌ، ففى مقابل الوفرة التى نجدها فى طائفة المصادر الإسلامية التى سوف نذكرها بعد قليل، لا نكاد نجد من الطائفة الأخرى (المسيحية) إلا كتابين معروفين هما: تاريخ يوحنا النقيوسى، وتاريخ ساويرس بن المقفع.
والأول منهما لم يكتب بالعربية، وإنما باليونانية، وقد ضاع أصله اليونانى، ولم نعثر إلا على نسخة وحيدة (مخطوطة) من ترجمةٍ له إلى اللغة الحبشية، كانت قد تُرجمت بدورها منذ قرون عن نسخة عربية مخطوطة (مفقودة) مترجمة من الأصل اليونانى (المفقود أيضاً) وكلها ترجمات قام بها رهبانٌ فى أديرة، لا نعلم عنهم شيئاً. والنسخة المنشورة اليوم، هى ترجمة سيئة، ناقصة فى عديد من المواضع، ومضطربة أشد الاضطراب، وموجزة. والقيمة الوحيدة لتاريخ »يوحنا النقيوسى« هو أن كاتبه عَاصَر الفتح، أو هكذا قيل، وبالتالى فهو شاهد عيان (وإن كان لم يشاهد الكثير من الوقائع) ..
أما الكتاب الآخر، فهو فى حقيقة الأمر ليس من تأليف ساويرس بن المقفع (أسقف مدينة الأشمونين فى القرن الرابع الهجرى) وقد ذكر فى مقدمته أنه خلاصة ما كتبه عديدٌ من الرهبان فى الأديرة، باللغة المصرية المتأخرة، المسماة اعتباطاً (القبطية)، وقد صاغه هو باللغة العربية (العامية) لأن الناس فى زمانه، ما عادوا يعرفون إلا اللغة العربية! ومع أن هذا الكتاب أكبر حجماً من تاريخ »يوحنا النقيوسى« وأوفر شرحاً، إلا أن به كثيراً من الخلط والتخليط، والخرافات التى تناسب رجل دينٍ يكتب لأناسٍ متدينين، مثل خرافة «انتقال جبل المقطم»، التى يؤمن بها، ويا للعجب، كثيرٌ من المسيحيين المصريين المعاصرين .
وتفتقر المصادر المسيحية، أو بالأحرى: المصدران المسيحيان، إلى عمليات النقد والمراجعة، التى تمت بين المصادر الإسلامية المتتابعة، ابتداءً من كتاب «الواقدى»، الذى عاش بين العامين 130- 207 هجرية، مروراً بكثير من المؤرخين العرب والمسلمين الذين كتبوا عن فتح مصر.
ويعدُّ المؤرِّخ المصرى: عبدالرحمن بن عبدالحكم (المتوفى سنة 257 هجرية = 870 ميلادية) هو أول من أفرد كتاباً مستقلاً لفتح مصر، وهو الكتاب الذى نُشر بأوروبا (نشرة استشراقية) فى العشرينيات من القرن العشرين، تحت عنوان: فتوح مصر وأخبارها.. ومع أن «الواقدى» و«البلاذرى» أسبق زمناً من ابن عبدالحكم بعدة عقود من الزمان، إلا أن كتابه (فتوح مصر وأخبارها) يظل أول وأهم كتاب فى هذا الموضوع، لأن سابقَيْه (الواقدى، البلاذرى) لم يختصَّا بفتح مصر، كما هو الحال فى «فتوح البلدان» للبلاذرى، ولم يصل إلينا النص كاملاً كما هو الحال مع كتاب الواقدى، الذى فقدنا أصله، وعرفناه من الاقتباسات الكثيرة، التى نقلها عنه المؤرخون المسلمون اللاحقون به.
إذن، المصادر الإسلامية التى بين أيدينا، هى (الأوثق) أو (الأدق) من مثيلتها المسيحية. وإن كانت تحتاج، بطبيعة الحال، إلى النقد والتمحيص والضبط، وهو الأمر الذى فعله مؤرِّخون كبار من أمثال المقريزى والسيوطى، وفعلناه فى السباعية السابقة.. سيراً على الدرب ذاته .
■ ■ ■
ونظراً إلى أهمية كتاب ابن عبدالحكم، فلسوف نورد فيما يلى بعض الوقائع التى ذكرها فى أثناء كتابه، لتكون بمنزلة (الهوامش) التى يجدر بنا الوقوف عندها بقليلٍ، أو كثيرٍ، من التأمل .. فمن ذلك ما يلى:
اندهش المسلمون الفاتحون من اتساع مصر، وبعد تجوالهم العشوائى فى حوافِّ الدلتا، ونهاية الوادى، حيث موضع القاهرة الحالية، وكان فيها آنذاك الحصن البيزنطى المسمَّى بعدة أسماء (القصر، إليون، باب إليون، بابليون) ذهبوا إلى الفيوم! وهو أمرٌ يبدو فى ظاهره كأنه لا معنى له، فعاصمة البلاد فى ذاك الزمان كانت (الإسكندرية) ومَنْ أراد الاستيلاء على مصر، فعليه باقتحامها والسيطرة عليها. ولكن عمرو بن العاص قضى قرابة عامين، يتجوَّل بجيشه فى تلك الحواف، حتى نَهَرَه الخليفةُ عمر بن الخطاب، فقصد الإسكندريةَ وفتحها.. والذى أعتقده، وقد أكون مخطئاً، أن «عمرو» أراد بهذا التجوال العشوائى أن يتعرَّف طبيعةَ البلاد قبل اقتحام عاصمتها، وأن يجمع حوله القبائل العربية، التى كانت تعيش بمصر، وأن ينتظر حتى تتأثر الإسكندرية باضطراب أحوال الإمبراطورية البيزنطية التى كانت العاصمة المصرية تابعةً لها آنذاك.. وقد تحققت هذه الأهداف لعمرو بن العاص، ولذلك فتح الإسكندرية (أول مرة) بأقل مجهود وأقل خسائر ممكنة: اثنين وعشرين شهيداً.. حسبما أكَّد ابن عبدالحكم فى كتابه.
واندهش المسلمون الفاتحون عند دخولهم الإسكندرية، من عظمة المدينة واتساعها.. وما كان لهم سابق عهدٍ بمثل تلك العواصم الكبرى، فالنواحى، التى فتحها المسلمون قبل الإسكندرية، كانت إما أرضَ ريفٍ، أو بلدات صغيرة يتمركز فيها مجموعاتٌ من جند الروم (وحتى فى الشام، لم تكن دمشق تماثل الإسكندرية) وفى كتاب ابن عبدالحكم كثيرٌ من الأخبار، التى أراها لا تخلو من المبالغات، لكنها تدل على عمق اندهاش المسلمين الفاتحين من مدينة الإسكندرية.. يذكر ابن عبدالحكم نصَّ الرسالة، التى بعث بها عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب، يخبره فيها بالآتى: «أما بعد، فإنى فتحتُ مدينةً لا أصف ما فيها (لا أقدر على وصف ما فيها) غير أنى أصبتُ فيها أربعة آلاف مُنية (ناحية) بأربعة آلاف حَمَّام (عمومى) وأربعين ألف يهودى عليهم الجزية (يؤدونها للروم) وأربعمائة ملهى للملوك (مسرح).
وينقل ابن عبدالحكم عن سابقيه، قولهم: لما فتح عمرو بن العاص الإسكندرية، وجد فيها اثنى عشر بقالاً (خُضَرى) يبيعون البقل الأخضر! وترحَّل من الإسكندرية فى الليلة التى دخلها عمرو بن العاص، سبعون ألف يهودى! وأحصى ما فيها من الحمَّامات فكانت اثنى عشر ديماساً، أصغر ديماس منها يسع ألف مجلس، وكل مجلس يسع مجموعةً من الرجال! وكان عدة مَنْ بالإسكندرية من الروم مائتى ألفٍ من الرجال، فلحق بأرض الروم أهلُ القوت، وركبوا السفن، وكان بها مائة مركب من المراكب الكبار، فحُمل فيها ثلاثون ألفاً مع ما قدروا عليه من المال والمتاع والأهل، وبقى مَنْ بقى من الأسارى، ممن بلغ الخراج (الرجال الذين عليهم سداد الضريبة العامة)، فأحصى يومئذ ستمائة ألفٍ سوى النساء والصبيان.
ولا شك عندى فى أن «الإسكندرية» كانت آنذاك مدينة عظمى، لكنها لم تكن بهذا الحجم الهائل، الذى ذكره ابن عبدالحكم، وإلا فإن سكانها قبيل دخول عمرو بن العاص كان عددهم يصل إلى ثلاثة ملايين من البشر، وهو عدد لم تكن المدن القديمة (ولا العشوائيات المحيطة بها) تبلغه بأىِّ حال من الأحوال.
ويشير ابن عبدالحكم إلى الخلاف الواقع بين الرواة العرب المسلمين فى «فتح مصر» هل كان عنوةً أم صلحاً؟ فيقول: ذكرُ من قال إن مصر فُتحت بُصلح.. كان يزيد بن أبى حبيب يقول: مصر كلها صُلح، إلا الإسكندرية فإنما فُتحت عنوة.. عن شيخ من كبراء الجند (= قادة المسلمين) إن عهد أهل مصر (= كتاب الأمان العام) كان عند كبرائهم.. وكان صلحهم على دينارين (سنوياً) ولهم ستة شروط: لا يُخرَجون من ديارهم، ولا تُنزع نساؤهم ولا أطفالهم، ولا كُفورهم، ولا أراضيهم، ولا يزداد عليهم (فى الضرائب) ويُدفع عنهم موضع الخوف من عدوهم.. وعن يحيى بن ميمون الحضرمى، قال: لما فتح عمرو بن العاص مصر، صُولح على جميع مَنْ فيها من الرجال.. وقال آخرون (من الرواة): بل فتحت عنوة، بلا عهدٍ ولا عقد .. وعن ابن شهاب أنه قال: كان فتح مصر بعضها بعهدٍ وذمة، وبعضها عنوة، فجعلها عمر بن الخطاب جميعاً ذمةً.
■ ■ ■
وكان العربُ يكرهون كَنْز المال، لأنهم أهل تجارة، وقد جاء الإسلامُ مؤكِّداً كراهة الكَنْز. وفى كتاب ابن عبدالحكم، نقرأ القصة التالية: لما فتح مصر، قال عمرو بن العاص لقبط مصر: «مَنْ كتمنى كنزاً عنده، فقدرتُ عليه، قتلتُه»، وأن نبطياً من أهل الصعيد يقال له «بطرس» ذُكِر لعمرو أن عنده كنزاً فأرسل إليه وسأله، فأنكر وجحد، فحبسه فى السجن وراح يسأل عنه: «هل يسمعونه يسأل عن أحد؟» فقالوا: سمعناه يسأل عن راهبٍ فى الطور (= دير سانت كاترين) فأرسل عمرو إلى بطرس، فنزع خاتمه من يده ثم كتب إلى ذلك الراهب، أن ابعثْ إلىَّ بما عندك، وخَتَمَه. فجاءه رسوله بقُلَّة شامية مختومة بالرصاص، ففتحها عمرو، فوجد فيها صحيفة مكتوباً فيها: «ما لكم تحت الفسقية الكبيرة.» فأرسل عمرو إلى الفسقية، فحبس عنها الماء ثم قلع البلاط الذى تحتها، فوجد فيه اثنين وخمسين إردباً ذهباً مضروبة (عملات ذهبية) فضرب عمرو رأسه عند باب المسجد.
وكان الخليفة عمر بن الخطاب، حسبما مَرَّ قبل قليل، قد حَظَر على الفاتحين تقسيم مصر كغنيمةٍ لهم، ومنع اتخاذ الأرض إقطاعيات. وعلى ضوء هذا، نقرأ فى كتاب ابن عبدالحكم القصة التالية: وكان عمر بن الخطاب قد أقطع «ابن سندر» مُنية الأصبع، فحاز لنفسه منها ألف فدان، ولم يبلغنا أن عمر بن الخطاب أقطع أحداً من الناس شيئاً من أرض مصر، إلا ابن سندر .. وكان سبب ذلك، أنه كان لزِنْباع الجذامى غلام يقال له «سَنْدر» فوجده يقبِّل جاريةً له، فحجبه وجَدَع (قطع) أذنيه وأنفه، فأتى سندر إلى رسول الله (يشكو) فأرسل إلى زنباع وقال صلَّى الله عليه وسلم: لا تحمِّلوا العبيد ما لا تطيقون وأطعموهم مما تأكلون واكسوهم مما تلبسون، فإن رضيتم فامسكوا (احتفظوا بهم) وإن كرهتموهم فبيعوا، ولا تعذَّبوا خَلْق الله، ومن مُثِّل به أو أُحرق بالنار، فهو حُرٌّ، وهو مولى الله ورسوله.
فأُعتق سَنْدر، فقال: أوصِ لى يا رسول الله. قال: أُوصِى بك كلَّ مسلم. فلما تُوفِّى رسول الله أتى سندر إلى أبى بكر الصديق، فقال احفظ فىَّ وصية الرسول. فعاله (تكفَّل به) أبوبكر حتى تُوفِّى، ثم أتى إلى عمر فقال: احفظْ فىَّ وصية النبىّ. فقال: نعم، إن رضيتَ أن تقيم عندى أجريتُ عليك ما كان يُجرِى عليك أبوبكر، وإلا فانظرْ أىَّ المواضع أكتب لك. فقال سندر: مصر، فإنها أرض ريف. فكتب له إلى عمرو بن العاص: احفظْ فيه وصية رسول الله، فلما قدم على عمرو، قطع له أرضاً واسعة وداراً، فجعل سَنْدر يعيش فيها، فلما مات قُبضت فى مال الله (بيت المال= الخزانة العامة).
■ ■ ■
.. ومن الوقائع الإنسانية التى نجدها فى كتاب ابن عبد الحكم، قصة الفتاة «بُسيسة بنت حمزة بن ليشرح»، التى ذكرناها فى المقالة السابقة، وقصة الأسقف الذى جاء (يقاول) عمرو بن العاص على مقدار الجزية فرفض عمرو قائلاً: لو جئت لى بملْء الكنيسة ذهباً ما أخذته منك، فإنما أنتم خزانة لنا.. وقصة وفاة عمرو بن العاص، على الهامش الأخير الذى نختتم به هذه المقالة. قال ابن عبد الحكم، نقلاً عن سابقيه:
تُوفِّى عمرو بن العاص سنة ثلاثٍ وأربعين (هجرية) ولما حضرته الوفاة دمعت عيناه، فقال له ابنه «عبدالله» هل تجزع من الموت؟ فقال: لا، ولكن مما بعد الموت.. قد كنتُ على أطباق (مراحل) ثلاث، لو متُّ على واحدة منهن علمتُ ما يقول الناس! فعندما بعث الله محمداً، كنتُ أكرهَ الناس (أكثرَهم كراهيةً) لما جاء به، وأتمنى لو أنى قتلتُ النبىَّ! فلو مِتُّ على ذلك، لقال الناس : «مات عمرو مُشركاً، عدواً لله ولرسوله، فهو من أهل النار». ثم قذف الله الإسلام فى قلبى، فأتيتُ رسول الله فبسط إلىَّ يده ليبايعنى، فقبضتُ يدى وقلت: «أبايعك على أن يُغفر لى ما تقدَّم من ذنبى» وأنا أظن حينئذٍ أننى لا أُحدث فى الإسلام ذنباً،
فقال رسول الله «يا عمرو، إن الإسلام يَجُبُّ ما قبله من خطيئة» فلو متُّ على هذا الطبق (المرحلة) لقال الناسُ: «أسلم عمرو، وجاهد مع رسول الله، نرجو لعمرو عند الله خيراً كثيراً». ثم أصبتُ إمارات وكانت فتنٌ (يقصد: حرب علىِّ بن أبى طالب ومعاوية بن أبى سفيان) فأنا مشفقٌ من هذا الطبق.. فإذا متُّ فاغسلنى وتراً، وإذا أدخلتنى فى القبر فسُنَّ علىَّ التراب سناً، واعلمْ أنك تركتنى وحيداً خائفاً. اللهم، لا أعتذر ولكنى أستغفر. اللهم إنك أمرتَ بأمورٍ فتركنا، ونهيتَ عن أمور فركبنا، فلا أنا برىء فأعتذر، ولا عزيز فأنتصر، ولكن لا إله إلا أنت، لا إله إلا أنت.. فلم يزل يردِّدها حتى مات، ودُفن بجبل المقطم.
■ ■ ■
وإلى لقاء، الأربعاء بعد القادم، مع سباعيةٍ جديدة.. لم أستقر بعدُ على موضوعها الرئيسى.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.