بنت مصر جهازاً دبلوماسياً كفئاً وعريقاً، وشهدت وزراء خارجية كانوا فى كثير من الأحيان محور الجدل العام فى الداخل، وصانعين لأحداث كبرى فى الخارج، تماما مثلما عرفت دبلوماسيين دخلوا الوزارة وخرجوا منها دون أن يتركوا أثراً يذكر. ورغم أن وزارة الخارجية كانت ولاتزال عامرة بالكفاءات، بعضهم تميز بالجهد الوظيفى، وآخرون أضافوا عليه الإبداع المهنى والخيال السياسى، فإننا شهدنا مؤخرا بعض النماذج التى من الصعب وضعها بين النموذجين السابقين، ارتكبت أخطاء فادحة وأحيانا سلوكيات مشينة وتصرفات صبيانية طائشة. وحين تفاعلت لأول مرة مع دبلوماسيين مصريين، كانوا طلابا مثلى جاءوا للتدريب أو للدراسة فى الخارج، حيث لم أحتاج طوال مدة دراستى فى فرنسا إلى الذهاب للسفارة المصرية، لأنى لم أكن ممنوحا لا من الحكومة المصرية ولا الفرنسية، واعتمدت على بعض مدخراتى الخاصة وعملى كمراسل صحفى لبعض الجرائد العربية والمصرية لكى أنفق على سنوات الدراسة الثمانى. أذكر أنى ذهبت مرة واحدة إلى السفارة المصرية بعد حصولى على درجة الدكتوراه لترجمة الشهادة واعتمادها، وكان أحد أصدقائنا الذين عملوا معنا فى مركز الدراسات بالأهرام، هو الدبلوماسى النابهة طارق دحروج، الذى استقبلنى بكل حفاوة وترحاب وأنهيت مهمتى بسلاسة وهدوء. كما أذكر أنى ذهبت مرة أخرى وحيدة للقنصلية المصرية فى باريس بصحبة شاب مصرى وقابلنا زميل دراسة كان وقتها نائبا للقنصل ( على ما أعتقد)، وهو رضا حليم جبرائيل، وحل لنا مشكلة هذا الشاب، التى لا أذكرها الآن، بكل الود والترحاب. وشاهدت طوال فترة إقامتى فى فرنسا أو فى حياتى المهنية دبلوماسيين مصريين اتسم معظمهم بالكفاءة والتمايز، وكان بعضهم من المبعوثين، الذين قدموا للتدريب فى معاهد فرنسية، أذكر منهم واحداً من ألمع الدبلوماسيين المصريين وهو خالد عمارة، وآخرين كانوا أصدقاء جامعة القاهرة التاريخيين، مثل هانى معوض سليم، وآخرين من الذين جمعوا بين الثقافة والفكر والحنكة الدبلوماسية كجمال بيومى، ووليد عبد الناصر، وعز الدين شكرى، وياسر علوى. وأخيرا هناك من تشاهدهم وتحترم كفاءتهم المهنية وقدرتهم على التأثير والنفاذ فى المجتمع الذى يعيشون فيه، كالسفير أمجد عبد الغفار، الذى شاهدته مرة واحدة فى ندوة عقدت فى لشبونة فى شهر ديسمبر من العام الماضى، وأدهشنى احترامه ومهنيته. ولم أعان طوال حياتى الطلابية فى الخارج من قهر موظف فى الخارجية يعطل لك ورقة أو عقد عمل، أو «سماجة» مستشار ثقافى يؤخر لك المنحة، إذا لم تنافقه أو تنقل له أخبار زملائك، وبالتالى كانت علاقتى بالخارجية بلا عقد، واخترت بمحض الإرادة أن احترم كفاءة البعض، وقدرت ظروف البعض الآخر الوظيفية، خاصة بعد أن اكتشفت أن مجموعة من أفضل شباب الخريجين، الذين عملوا معى فى مركز الأهرام، تم اختيارهم للعمل كملحقين فى وزارة الخارجية بعد أن نجحوا فى امتحان التقدم، وبعضهم كانت كفاءته وتوفيق الله هما «واسطته» الوحيدة لدخول الخارجية، رغم التدهور الذى أصاب المؤسسات العامة فى مصر. وبدورة تفاعل الرأى العام فى مصر مع دبلوماسييه من خلال الإعلام، تماما مثلما يتفاعل بعض الكتاب والخبراء السياسيين مع بعضهم، من خلال ندوات ومؤتمرات محلية أو دولية، فمثلا وزير الخارجية السابق أحمد ماهر لم ينجح إعلاميا، واعتبره البعض أنه وزير غير كفء، باهت الأداء، على ضوء الصورة أو بالأحرى الانطباع الإعلامى، وكان رأيى قريباً من هؤلاء طوال فترة وجود الرجل فى الوزارة، إلى أن أعدت اكتشافه منذ عدة سنوات فى ندوات ولقاءت مختلفة داخل مصر وخارجها، ووجدت نفسى أمام واحد من أكثر الدبلوماسيين المصريين كفاءة وثقافة واستقامة، وأدهشنى اتساقه الشديد مع نفسه، ولم أجد فرقا بين اللغة التى يستخدمها فى الغرف المغلقة، عن تلك التى يقولها فى العلن، خاصة حين جمعنا العام الماضى لقاء عشاء أقامة السفير الفرنسى على شرف وزير خارجيته برنارد كوشنير أثناء إحدى زياراته للقاهرة، ودافع أحمد ماهر بهدوء عن الأوضاع السياسية الداخلية (وهو أمر مفهوم من وزير خارجية سابق)، ولكن ما أثار الإعجاب والاحترام أنه تحدث «كصوت الجنوب»، حين اقترب من كل الملفات العربية والإقليمية، وبلغة عميقة ومحكمة قادرة على التأثير والتفاعل النقدى مع السياسيين الأوربيين (مهارة استخدام لغة يفهمها العالم ويحترمها حين يختلف معها)، خاصة أن بعض كبار الدبلوماسيين فى مصر يستخدمون لغة استعلاء مهينة فى جلساتهم الخاصة بحق شعوبهم وشعوب المنطقة، لكى يبدوا «خواجات» أو «متحضرين». أما اكتشافى الأخير فقد كان صادما حين ذهبت إلى باريس فى منتصف شهر يناير الماضى عقب أحداث غزة الدامية، لحضور ورشة عمل عقدها المركز الأوروبى للدراسات الأمنية (العقل المفكر للاتحاد الأوروبى) لمناقشة تداعيات غزة، وحضرها بعض الخبراء العرب وعدد من سفراء المفوضية الأوروبية وغيرهم، وجاء بعد الظهر السفير المصرى فى باريس ويسمى نصر أو ناصر كامل، وفوجئنا برجل يدخل إلى قاعة الاجتماع يمضغ «لبانة»، ويأتى ليجلس بينى وبين د. سلام الكواكبى (حفيد المفكر عبد الرحمن الكواكبى، وأحد أهم خبراء الإعلام فى العالم العربى)، وفق الترتيب الذى أعدته الندوة، دون أن يوجه كلامه لأحد، لأنه انشغل بمهمة أخرى لم يفعل غيرها على مدار النصف ساعة التى جلسها، وهى إرسال رسائل SMS عبر هاتفه المحمول، فى مشهد لم أره فى حياتى من دبلوماسى مصرى أو أجنبى، خاصة أن عدد الحاضرين لم يتجاوز العشرين شخصا، وكانوا مجتمعين على طاولة مستديرة ولم يكن هناك «تختة» فى آخر الصف ليختبئ خلفها حتى يستكمل «رسائله القومية»، كما أنه لم يتكلم إلا بعد أن طلب منه مدير المركز برتغالى الجنسية الحديث، فتكلم كلاما باهتا «ميزته» الوحيدة أنه كان بفرنسية جيدة. لم أفهم لماذا حضر، ولا أعرف كيف يتعامل موظف عام يمثل بلده فى عاصمة أوروبية كبرى بهذا الاستخفاف مع ندوة قرر بمحض إرادته أن يحضرها، وبدا هذا الوضع وكأنه عادى، بعد أن تراجعت كثير من التقاليد «الوظيفية» والاحترام المهنى التى تعرفها وزارة الخارجية، خاصة بعد أن أصبح كثير من سفرائنا فى العواصم الأوروبية الأنيقة محملين بمهام ليست لها علاقة بمهامهم الدبلوماسية. صحيح أن عمل الدبلوماسى ليس أساساً حضور الندوات، ولا يمكن تقييم كفاءته من خلال مشاركته فى ندوة، ولكن تقيمى له لا يتعلق بعمق ما قال أو مدى اتفاقى أو اختلافى معه، إنما فى صورة مخجلة ظهر بها موظف عام يمثل بلده، أثارت سخرية واستياء الحاضرين. تذكرت سفيرنا على ماهر حين كنا طلابا فى باريس فى التسعينيات، ولم يكن حتى يعرفنا لا شكلا ولا اسما، وكنا ننتقد دفاعه عن سياسات الحكومة فى الندوات التى كان يحضرها أو عبر شاشات التليفزيون الفرنسى، إلى أن عرفنا أن هذا جزء من عمله حتى فى البلدان الديمقراطية، أى أن يشرح سياسات حكومته ويدافع عنها، بل وأحيانا يبرر أخطاءها، ولكنه كان يفعل ذلك باحترام ومهنية ورقى يجعلك رغم كل شىء فخورا بأن هذا «دبلوماسى من وطنى»، إلى أن دخلنا عصراً جديداً واكتشفت (وياله من اكتشاف) أن فى باريس سفيرا يحضر نصف ساعة فى ندوة من أجل إرسال رسائل من هاتفه المحمول، وهو مظهر يعكس غياباً كاملاً للمهنية والاحترام، بعيدا عن أى تقييم لمضمون ما قال. وإذا نلنا «الحسنيين» أى فشل سياسى وخيبة مهنية فسنقول على البلد السلام. [email protected]