إذا حسبنا الحب بعدد قصائد الشعر التى كتبناها فيه، فنحن أغنى وأكثر الشعوب التى تغنت به.. وإذا حسبنا الحب بعدد العلاقات العربية المجهضة والاغتصابات الشرعية المقننة وكتل الجليد التى تغلف الحب العربى الزائف وقصص النصب باسم الحب والدجل على شرف الحب والبيزنس بجثث الحب، نجد أننا أفقر شعوب الأرض وأكثرها بخلاً فى إبداء مشاعر الحب.. فنحن لدينا آلاف المترادفات لكلمة الحب من الهوى والغرام حتى الكلف والعشق والهيام، ولكننا دائماً ما ننسى أن نتبادلها! نحن نخاف من الحميمية، يصيبنا الرعب من البوح بالمشاعر، نفزع من إعلان العواطف، نعانى من الكذب فى العلاقات، وأمية العشق، والجهل بأبجديات الحب، ومحاولة خداع الذات بأن ما نمارسه من علاقات مشوهة هو حب حقيقى، فرغم أننا أكثر شعب غنى للحب وعن الحب فنحن أفقر شعب فى ممارسته بجد وبحق وحقيقى، فنحن شعب ثرثار فى النميمة عنه، ولكننا نعانى من الخرس حين يقترب منا، البعض يدفعه بعيداً وبقسوة، والبعض يمزق جسده بالسكاكين، أما الكل فيتفق على شىء واحد هو أننا فى الحب نرتدى دوماً «ماسك»، ونتصرف بتصنع وافتعال، فنحن لا نعيش الحب وإنما نمثله وكأننا كومبارس فى مسرحية مملة معدة، نتصرف معه كأداء واجب وليس كرعشة حياة ونفحة خلق. هل تصدقون أن من قال: «الحب فى الأرض بعض من تخيلنا لو لم نجده عليها لاخترعناه»، رفض أهل وطنه الصلاة على جثمانه لأنه كافر وخارج وزنديق؟!، نعم رفض كهنة هذا الزمان أن يصلوا على جثمان نزار قبانى لأنه كتب عن الحب بصراحة وصدق، كرهوه لأنه فضح زيفهم وكشف حالة العصاب والفوبيا التى تتلبسهم عند ذكر كلمة الحب رغم تراثهم الغنى بقصائد الغزل الصريح قبل العفيف.. إنه قبل أن يعرى حبيباته ويبوح بعلاقاته، عرى كذبنا المزمن وباح بأخطر سر عن القناع الذى نرتديه دوماً لدرجة أننا ندخل الحياة ونخرج منها دون أن نحب بجد.. وهذه كارثة.. إنها ليست حياة ولكنها مجرد عيشة. فى يوم عيد الحب تتوالد فتاوى تحريم الفالانتين، والزهور كخلايا السرطان، فى الوقت الذى تجهض فيه مشاعر الحب الجنينية، وتطارد علاقات التواصل كمرضى الجذام، وقبل نزار قبانى تعرّض إحسان عبد القدوس لحملة مطاردة حياً وميتاً بسبب الحب، فقد كان يقول فى ختام برنامجه الإذاعى الليلى: «تصبحوا على حب»، فهاجت الدنيا وماجت واستفزت غدد الازدواجية الشرقية، وأفرزت هرمونات ادعاء الطهارة والعفة والشرف، واتهموا إحسان بتهمة المجون، وقد كانت الأرض ممهدة أمامهم فإحسان عبدالقدوس من وجهة نظرهم كاتب مغرق فى الحسية، وروائى يتخطى الخطوط الحمراء فى رواياته وقصصه، ويلمّح إلى ويصرح بالجنس الذى يلوث الحب، وطالبوا بالحب المعقم الذى يتربى فى صوبة لا فى الأحراش والغابات، وظل إحسان عبدالقدوس يمثل لهؤلاء شبحاً يؤرق طهارتهم المدعاة، فقرروا بعد وفاته أن يقوموا بعملية إخصاء لرواياته الإباحية لتصبح روايات شرعية وقصصاً مطابقة للمواصفات القياسية، لتحصل على شهادة أيزو الشرف والعفة، وبالفعل قامت إحدى دور النشر بحذف العبارات المخلة والسطور الإباحية التى تتناول الحب، وخرجت بطبعات مهذبة مؤدبة، مثلما قامت الجهات الرسمية من قبل بقصقصة ريش ألف ليلة وليلة ومنعها من الطيران والتحليق بدعوى نشر طبعات منقحة، وهى الصيغة المهذبة للدعبسة واللغوصة فى أدمغة البشر وقلوبهم، ومحاولة عمل كتالوج حكومى للعواطف، وباترون فقهى لمشاعر الحب.. وهكذا لوحق وطورد إحسان عبدالقدوس حياً وميتاً، ليس بسبب كتاباته النارية فى السياسة ولكن لكتاباته الصادقة فى الحب وتشريحه الصريح لعلاقاته والتجول الحر فى سراديبه وكهوفه السرية.