فى طابور الصباح كنت أقف متأملاً اسم مدرستى مضافاً إلى اسم قريتى «برج مغيزل الابتدائية» وكنت أردد بينى وبين نفسى: «سوف يكون لقريتى هذه شأن عظيم»، وذلك رغم عدم وجود أى إرهاصات تؤكد نبوءتى البريئة، سوى حبى وانتمائى لهذه القرية واعتزازى بأهلها أيما اعتزاز!! فقد كنا نعيش فى بؤس شديد، ولم تكن لدينا فرص للعمل إلا فى البحر، حتى لمن يحمل أعلى الشهادات.. كان يمر الهلال ثم الهلال ثم الهلال لا نعرف خلالهما طعم الماء العذب.. وكنت أخرج من المدرسة لأنزح ما نحتاج إليه من ماء من بئر.. هذا الماء هو الذى كنا نستخدمه فى طعامنا وشرابنا، لم يفكر أحدنا فى الشكوى، فقد كنا نعتقد أن قريتنا سقطت من ذاكرة التاريخ، ومن جغرافية الوطن، بعد أن استولى البحر على معظم أراضيها، ومعظم رجالها، وكنت أظن فى كل مرة يخطف فيها البحر سفينة صيد أو أكثر ويذهب بأرواح العشرات، أن أهل القرية سوف يقاطعونه مدى الحياة، ثم أفاجأ بعد هدوء العواصف بالصيادين وقد أسرعوا إليه كالعاشق الولهان!! وكنت دائماً أربط بين سماحتهم مع هذا البحر الغدار، ومع من حرمهم من أبسط حقوقهم فى الحياة، وأتعجب من صبرهم وكأنهم نسوا تماماً أن لهم حقاً فى هذا الوطن، أو فى هذه الحياة!! ولقد سألت خالى، رحمه الله- وقد كان يعمل بحارا- لماذا لم تفكر فى الهجرة لأى دولة أوروبية رغم أنك طفت معظم هذه الدول؟ فاستنكر سؤالى بشدة وقال لى يومها: السمك يموت إذا خرج من البحر، ونحن نموت إذا تركنا قريتنا!! ولقد عشت حتى تحققت نبوءتى وأصبحت قريتى حديث الناس فى مصر والعالم، ولا يكاد يمر يوم دون أن يكون هناك حدث أو حادثة تنشرها الصحف وتتناقلها الفضائيات.. أصبحت قريتى محطة للهجرة غير الشرعية، وتسابق شبابها للهروب إلى أوروبا آملين فى الحصول على فرصة للحياة، حتى لو آلت نهايتهم إلى أعماق البحر، فربما كانت حيتانه أرحم وأحن عليهم من حيتان وطنهم الذين استولوا على مقدراته وتركوهم للضياع!! لقد انهمرت دموعى وأنا أقرأ عن فوز قريتنا بلقب «القرية التى لا تجف فيها الدموع»، لم أكن أتخيل أن تتحقق نبوءتى بصلب قريتى لتأكل الطير من أكبادها، والأسماك من جثث شبابها، ما كنت أتوقع أن يكون هذا المصير هو آخر صبر هذه القرية التى تشبثت بصدر الوطن، فألقاها من فوق أكتافه!! مهندس/ على درويش [email protected]