موقفى بالنسبة لتجلّى السيدة مريم عليها السلام فوق كنيسة الورّاق مفهوم (كونى مسلما). لكن الجدل القائم حول ظهورها ذكرنى بقصة بديعة ذات مغزى أخلاقى لكاتبى المفضل «سومرست موم» أحببت أن أحكيها لكم. القصة تدور فى أسوأ عهود إسبانيا، أيام محاكم التفتيش والحرق بتهمة السحر والهرطقة، حينما كان بقاؤك قطعة واحدة إنجازا يستحق التهنئة. والحبكة فى هذه القصة الرمزية هو تجلّى العذراء عليها السلام لفتاة مقعدة مشلولة لتخبرها بالتالى: ■ «إن ابن خباز القرية- الذى خدم الرب أكثر من سواه- هو وحده القادر على القيام بمعجزة شفائك من مرض الشلل». كانت الفتاة فى باكورة عمرها تتوق أن تحب وتُحب، وتركض فى الغابات كأرنب بري، وتحلق كالطيور. كانت الفتاة المشلولة تراقب البنات فى سنّها يرقصن كالفراشات على أنغام الفلامنكو. ويسمرن فى الليالى المقمرة، وهى وحدها ترمقهن فى حسرة، وتبكى كل ليلة فى خدرها، وتتساءل عن نصيبها العادل فى الحياة. لذلك يمكنكم أن تتوقعوا فرحتها بالتجلّى، والآمال التى اعتملت فى صدرها البكر وهى تتلقى البشارة. صارحت أباها وأمها وجيرانها وقسيس القرية. لكن الكل أمرها بالصمت، فتهمة الهرطقة والاتصال بالشياطين ليست بعيدة فى هذا الجو. وحرقها حية لن يكون بالمشهد السار. ولكن أنى للفتاة المسكينة أن ترتضى الصمت!، وتقبل بحياة العصافير الحبيسة بعد أن انفتح لها باب القفص، وتبدى لها الأفق الواسع والسماء الزرقاء! وكان للخباز العجوز ثلاثة أبناء: الأكبر راهب مشهور ذو مكانة دينية عالية. والأوسط قائد عسكرى بارز صاحب فتوحات. أما الثالث فقد ورث مهنة أبيه وعمل خبازا، ولم يحقق- بعكس شقيقيه- أى مكانة أو قيمة أو مهابة. ولكنه كان يرعى والديه العجوزين ويقوم بشؤنهما ويساعد كل عجائز القرية. وتناثر الكلام حول تجلى العذراء حتى بلغ أسماع الراهب الذى أدرك على الفور أنه المقصود بالبشارة، لأنه- ببساطة- ابن الخباز الذى خدم الرب أكثر من سواه. وكيف لا وهو الذى حرق المهرطقين ليطهر أرواحهم قبل الموت وينعموا بالأمجاد السماوية الخالدة، وأزال الكفر والسحر من البلاد، وأعاد الشعب – بالسيف والنار- إلى حظيرة الرب. وبالفعل جمع الراهب أهالى القرية فى الكنيسة، ومسح على ساق الفتاة المشلولة وأمرها باسم الرب أن تنهض واقفة. وحبس الجميع أنفاسهم فى انتظار أن تحدث المعجزة. لكن المعجزة فشلت، وتصاعدت الهمهمات فى كنيسة القرية، وبدا الغضب على وجه الراهب الذى أصدر أمره بحرق الفتاة بعد أن ثبت بالدليل القاطع اتصالها بالشياطين!!. لكن صوت الابن الثانى ارتفع فى الكنيسة حازما: ■ ومن أدراك أن العذراء لا تقصدنى أنا؟، أنا القائد العسكرى الذى خدم الرب بمعاركه الظافرة أكثر من سواه. وصمت الراهب على مضض وأتاح الفرصة لأخيه الذى أمرها باسم الرب أن تنهض واقفة. ولما فشلت المعجزة للمرة الثانية صار حرقها مؤكدا لم ينقذها منه إلا قلب امتلك من الحكمة ما جعله يفهم المغزى الحقيقى لرسالة العذراء. قال بصوت عال وهم يتقدمون لأخذ الفتاة: ■ إن للخباز ابنا ثالثا، فلماذا لا تمنحونه الفرصة هو الآخر؟ وتصاعدت صيحات الاستنكار: معقولة؟، الخباز العبيط!، المتواضع البدين الذى لا يعبأ به أحد، حتى والداه -اللذان يرعاهما- لا يعبآن به ويفخران بولديهما المشهورين!!. ويقول الفتى المسكين وهو مذعور تماما: ■ ولكن أنا إنسان دنيوى، قليل القيمة! حاول كثيرا أن يتملص من المهمة المستحيلة، ولكن خوفه على مصير الفتاة جعله يحاول ما لا يؤمن أنه قادر على إنجازه، ووسط كل الرهبان المتحفزين والقادة المتكبرين قال بصوت مرتجف: ■ آمرك باسم الرب أن تقومى واقفة. وحبس الجميع أنفاسهم وهم يشاهدون الفتاة المشلولة تنهض فى بطء، تتحرك فى دهشة وهى غير مصدقة، ثم تنطلق بكل قواها، تركض كأرنب أبيض صغير. لحظتها فقط وصلتهم الرسالة. الرسالة التى أتمنى أن تصلنا نحن أيضا، لنفهم كلنا أن (الذى خدم الرب أكثر من سواه) ليس المتقعر فى الدين الذى لا يكف عن النصح والإرشاد، ولا صاحب العزة الدنيوية والمال والجاه، وإنما هو الإنسان الوديع الطيب، المتواضع الخدوم، الذى ينتفع الناس به، بالضبط كما وصفه رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم: «الهيّن الليّن، الذى يألف ويُؤلف».