فى تلك اللحظات التى تمر بها مصر هل يوجد ما يبرر -بشكل منطقى- مشاهد القتل والإصابة والعنف ضد مواطنين مصريين على أيدى قوات الأمن المركزى والشرطة العسكرية؟ هل يفهم أحد لصالح من ولماذا وكيف يحدث هذا؟ أم أن منهج العنف يأبى الاستماع لصوت العقل والتعلم من الماضى ليس فقط الماضى البعيد ولكن القريب أيضًا؟ تلك بعض التساؤلات التى تثار بحكم التطورات الأخيرة التى تشهدها مصر. حديث طويل بينى وبين إحدى الصديقات حول ما يحدث فى الميدان وفى أنحاء مختلفة من مصر، تساؤلاتها فى جوهرها كمعظم المصريين تعبر عن الحب والقلق والخوف، ولكنها كحال البعض لا ترى مبررًا لما يحدث ليس فى شق استخدام العنف ولكن فى شق التظاهر والاعتصام. وبما أن التظاهر والاعتصام مدان فهى كالبعض لا تتوقف كثيرًا أمام صور الضحايا وأعين المصابين ودماء القتلى.. لا تتوقف كثيرًا أمام حقيقة أن العنف يمارس على أرض مصرية بأيد قوات مصرية ضد مواطنين مصريين لم يكونوا من الخارجين على القانون ولا مثيرى الشغب ولا ممارسى فعل البلطجة وترويع الآمنين مع التأكيد على أننى لا أستطيع أن أبرر استخدام العنف ضد هؤلاء أيضًا فالمفترض وجود قانون وعدالة ومؤسسات تحاسب وتحكام لا تقتل وتصيب بتلك الطريقة.
لم تتوقف صديقتى أمام فكرة أن من يبرر استخدام العنف اليوم ضد غيره لن يجد من يدافع عن حقه فى الغد عندما يمارس العنف ضده، فالعنف الأعمى لا يميز بين أحد ولا يستثنى من يقف فى طريقه مهما كان. ولم تتوقف كثيرًا أمام حقيقة أن هناك حقوقًا أساسية للمواطن فى وطن حر، ولكنها حقوقًا ما زالت مصنفة تحت خانة أحلام وتمنيات للمصريين. ولم تتوقف كثيرًا أمام المسؤول عن التصعيد وأمام حقيقة أن العنف لا يولد إلا عنفًا، والقهر لا ينتج إلا غضبًا، والغضب من شأنه أن يولد ثورة حتى لدى من لم يقم بفعل الثورة بعد.. الثورة تولد من معطيات والعنف فى الحالة المصرية كان مولد أساسى لها لأنه مبنى على الظلم والعدوان.
بالمقابل توقفت تلك الصديقة عند لحظة زمنية يتوقف عندها البعض فى مصر وهى إنجازات الثورة متمثلة فى إزاحة مبارك عن سدة الحكم والوعد بإجراء انتخابات. تشابه ما قالته مع تعليقات صديق آخر على "الفيس بوك" اعتبر أن الانتخابات كافية وغاية المراد، وتناست كما تناسى الصديق أن الانتخابات التى أجريت فى مصر لعقود لم تحقق ديمقراطية ولا حرية ولم تحمِ وطنًا ولا مواطنًا ولم تحمِ كرامة ولا شرف، وتناست أن الانتخابات تحتاج لمناخ محيط بالعملية الانتخابية يضمن حرية الوصول وحرية الرأى وحرية النتيجة وليس قمع ما قبل وعنف الممارسة ونتيجة تأتى بفرعون جديد.
توقفت كما يتوقف البعض أيضًا أمام كلمة ثورة وشهيد، واعتبرت أن ما حدث ويحدث ليس إلا فوضى وأن من مات ليس شهيدًا فالشهادة كما قالت شيء عظيم لا يمنح بتلك السهولة خاصة أن من مات -وفقًا لها- لم يكن ذاهبًا للشهادة وبعضهم كما كرر الإعلام من المجرمين!! اتفق واختلف مع أجزاء، أقول لها أن ما حدث قد لا يكون فى التعريف الحرفى ثورة، وقد يكون بحكم الواقع مظاهرات حولها الغباء السياسى والعنف المفرط إلى هبة جماهيرية، فأحيانًا يكون الغباء السياسى هبة إلهية كى تهب الشعوب وتثور ضد الظلم، وأننا عندما ندعمها نتبنى مفهوم الثورة لأن المفهوم له معنى إيجابى لدينا وله معنى تغييرى إيجابى أيضًا.. أما من يرغب فى أن يعترض فبإمكانه أن يرفض المسمى فيحدد موقفه ابتداءً كما فعلت تلك الصديقة ويقول إنها فوضى. أما الشهادة، وبعيدًا عن الجدل الدينى الذى دار حولها، فلا أحد يمنحها من البشر لأحد ولكنها تعبير عن الموت فى سبيل الوطن أو الموت غدرًا، هى أيضًا تعبير عن تقدير لمن مات فى معركة الكرامة بأكثر منه صك شهادة. أكدت لها أن الكلمات تحمل قيمتها، وأن المصطلحات تعبر عن مواقفنا مع أو ضد. لا تقتنع متحدثتى بهذا الكلام الذى يبدو بالنسبة لها نظريًا ولا يتماشى مع ما ترغب فى سماعه، تصاحب تعبيراتها ببعض التمنيات لمصر والدعوة لصلاح الحال قبل أن تنهى المحادثة.
أتوقف أمام تلك المحادثة لأن ما نقلته من أفكار تكرر كثيرًا ويتكرر فى مداخلات على الفضائيات وتعليقات على وسائل التواصل الاجتماعى على خلفية أصوات الطلقات والقنابل المسيلة للدموع والدم النازف فى الميادين والشوارع، فالبعض يرى أن ما حدث ليس إلا فوضى وأن المذنب هو الضحية.
من جانبه يتحدث الخطاب الرسمى المصرى عن أقصى درجات ضبط النفس، وعن عدم استخدام أنواع من الأسلحة التى قتل بها من قتل أو أصيب بها من أصيب. يتحدث الخطاب الرسمى عن المتظاهرين بوصفهم طرف مساوٍ لقوات "الأمن"، رغم الفارق الكبير فى العدة والعتاد، يطالب المتظاهرين بالتوقف رغم أننا أمام سلاح ومدفع مقابل حجارة وإرادة فى مشهد ليس بعيدًا عنا. لم يتوقف الخطاب الرسمى قليلاً ليحترم عقولنا ويحترم مصر ويقول لنا لماذا كل هذا العنف؟ ولماذا كل هذا الغضب والغل الذى ظهر واضحًا فى الهجوم على المتظاهرين - المعتصمين وأمتعتهم؟ نقلت لنا التسجيلات صور أفراد الأمن وهى تنتقم بحدة من موتوسيكل قبل أن تشعل فيه النار فتسألت هل هذا انتقام ما؟ ما الذى فعله لهم؟ فجاءت أجابة صديقة بأنه انتقام من موتوسيكل ينقل الطعام وربما الدواء للمعتصمين، هى أذن مفارقة الموت والحياة، والعنف والمقاومة وعقلية تعودت على التدمير والعقاب.. عقلية "أمنية" أهانها وأغضبها ألا تجد فى يدها ما يسوغ لها التعذيب والعنف بلا ضابط ولا محاسبة، ووجدت فى أحداث نوفمبر الحالية فرصة للثأر من كل شيء ومن أى أحد حرمها من ممارسة عملها الذى تجيده لسنوات.
نقل لنا الفيديو تصوير كارثى لعناصر من قوات "الأمن" تسحل أحد القتلى قبل أن تضعه بجوار صناديق القمامة.. إهانة لا يستحقها إنسان ولا يستحقها مواطن.. عنف الموت وتشفى ما بعد الموت وإهانة كرامة مصر وليس مجرد فرد واحد فالكرامة لا تتجزأ إلا لمن لا يرى الصورة الكبرى. ولا أعرف كيف يسوغ البعض لأنفسهم الحديث عن إحراق سيارة كمبرر للعنف ولا يجد غضاضة فى تبرير إهانة إنسان حي وميت بهذا القدر من الكره؟! ولا أعرف كيف يرى البعض أنفسهم خارج إطار الصورة؟ ومن يعطيهم صكوك أمان فى ظل نظام لا يمكن أن تطلق فيه على قوات "الأمن" مسمى غير قوات إثارة الشغب ونشر العنف وترويع الآمنين.
الشرطة تركت مصر نهبًا للبلطجة كى تثبت -على ما يبدو- أن الثورة شيء سلبي، واستغلت الوقت للاستعداد لمهاجمة الثوار عندما تحين اللحظة ربما تلك الرؤية فقط قادرة على تفسير هذا الضعف الذى كانت تتحدث عنه خلال شهور ما بعد الثورة وهذا العنف الذى ظهر فى ميدان التحرير ومناطق أخرى فى مصر.
عندما عبرت عن بعض تلك الأفكار عبر "الفيس بوك" استوقفنى صديق وقال إن من فى الخارج لا يرى ما فى الداخل، وإن الإعلام غير صادق فى نقل الصورة وإن الإعلام يركز على الصورة المرئية للمعتصمين والصورة العنيفة للأمن والجيش مخالفة -على حد قوله- للحقيقة. تساءلت هل هذا حقيقى؟ وكيف يمكن فهم كل تلك الصور والفيديوهات وكل تلك التعليقات التى ينقلها أصدقاء ومهتمون ومواطنون من داخل الميدان، هل يعقل أن جميعهم غير قادرين على رؤية الحقيقة؟ وهل كان الأمن يقوم بتبادل الورود مع المتظاهرين كما نقلت لنا الصور التعبيرية ليوم 25 يناير الماضى؟ هل قام المتظاهرون بقتل أنفسهم وقام بعضهم بإصابة نفسه ونشر الغازات المسيلة للدموع فى أجواء المكان كنوع من التغيير؟ هل كان الأمن يومًا ملائكيًا وتحولنا نحن لشياطين لا ترى فيه إلا كل الأسود أم أن سجله ملئ بالفعل بأكثر ويزيد؟ وهل كان الإعلام المصرى يومًا يعبر عن أحد غير الحاكم؟ هل لعب يومًا فى تاريخنا القريب دورًا غير تمجيد الفرعون؟ تساؤلات تحتاج من صديقى وغيره لمراجعة فسجل الشرطة معروف وملفات التعذيب والإهانة ليست خفية وما حدث فى يناير ليس بعيدًا وما حدث فى نوفمبر قريب للغاية إن أردنا الرؤية، كما أن سجل الإعلام معروف وأحداث ماسبيرو ليست عنا ببعيد.
وعلى ذكر الرؤية لفت نظرى تعليق لإحدى الفضائيات عن الطبيب أحمد حرارة الذى فقد القدرة على الإبصار فى عينيه خلال أحداث يناير ونوفمبر ووصفها له بأنه كفيف الثورة، وأتساءل بدورى هل هو كفيف فعلاً؟ وهل هم مبصرون؟ قد لا يكون قادرًا على الرؤية ولكنه قادرًا على ما هو أعمق لأنه أكثر إبصارًا، من كثير يرون ولكن لا يبصرون.. فالبعض لم تدرك أعينهم لون الدم ولم تستطع أعينهم التمييز بين الإنسان وغيره من الأشياء ولا بين أخ وعدو فهم يرون ولكن لا يدركون وهو لا يرى لكنه يبصر، هم ماتت قلوبهم وهو لديه قلب نابض بحب مصر والإنسان، هو باق وهم زائلون.
مظاهر كثيرة وملاحظات على هامش أحداث ساخنة، ملاحظات سريعة كتبت وسط القلق والخوف ووسط آلام المصابين ودماء القتلى وآهات أسرهم ومصر.. لم يعد الحديث عن خط أحمر ولكن عن دم أحمر سال على أرض مصر فى لحظة غدر.
وفى النهاية أقول: الخط الأحمر بقى خط الدم وعمود البيت قبل ما يتهد خطى على الدم.