آخر صباح فى عام2015 يقودنى القدر بسبب ظروف المرور والشوارع المغلقة لتأمين وزارة الداخلية لجولة على الأقدام فى ميدان التحرير من وزارة التربية والتعليم وحتى محمد محمود. عادة أمشى بحذر فى الشوارع هذه الأيام لأن ما يحدث بها من جنون سواء فى الشارع أو على الرصيف، للراكب أو للماشى هو أحد مخاطر الحياة فى مصر. لكن هذا الصباح تخلى عنى حذرى وسمح لى لسبب ما أن أتأمل المبانى الحكومية التى تأتى فى طريقى. مبانى قديمة واسعة ومتهالكة، تعرف هذا من شكل وحال الشبابيك المتربة والعالية التى ربما لم تطلها يد الصيانة منذ سنوات. مبانِ عريقة وقديمة وزوايا تاريخية كل بوصة فيها حبلى بالأحداث الجلل، لكنها متعبة مثل مصر ذاتها. وشوارع شهدت فى أعوامنا الحديثة أحداثًا اختلط فيها الوجع بالفرح والهزيمة بالنصر. من أمام كشك صغير، تخبط فى كتفى طوبة صغيرة، أستدير بسرعة لأجد طفلا صغيرًا لا يزال ذراعه متلبسًا بالجريمة الصغيرة، أقف لأسأله "ليه يا حبيبى كده؟" يجرى ليختبىء وراء أبيه الذى كان مشغولا برش المياة أمام الكشك، مياة ربما لن نجد رائحتها عن قريب. الرجل يرش والناس تمشى وانا أكتب ولا أحد ينتبه لما نحن قادمون عليه، ولا أحد يخرج ليطمئن الناس أو ليقلقهم، أو ليقول لهم أى شىء من فم حكيم مسئول فنعرف لنا رأسًا من قدم. لاشىء، يكتفى الرجل بأن يسب الولد "خش ياض عند ستك يا ابن...تيييييت!" ولايعتذر لى، كأنه من الطبيعى أن يتسلى الولد هكذا ومن الطبيعى أن يسب الرجل هكذا ومن الطبيعى أن أكمل طريقى دون توقف أو تساؤل!. أعرج على محمد محمود وتستقبلنى الجامعة الأمريكية بحائط مغطى بما يشبه الستائر الخضراء تغطى الجرافيتى، بعضها يغطى الحوائط تمامًا وبعضها مقطوع يكشف عما وراءه بشكل درامى ساحر. كانت الستائر متربة وكالحة بفعل الشمس والمطر والتراب المتراكم، فى مجملها كريهة وقميئة سواء فى فى شكلها وفى وظيفتها. كان من المفترض أن تغطى هذه الستائر شعارات ثورتين وما بينهما وما بعدهما، تغطى الكلام والوجوه وتطمس ذاكرة الناس، والناس تنسى والأحداث تتراكم وكتب التاريخ تسجل ما يريده كٌتّابها ولايبقى سوى الكلمة المكتوبة تواجه عناد من يظل يتذكر أى شىء من أى شىء حتى يتشكك فى نفسه وتهبط عزيمته وقدرته. لكن الستائر، مثل معظم من فى بر مصر، لاتقوم بعملها على الوجه الأكمل فما تغطيه يصبح أكثر جاذبية مما تكشفه، ووضعها الملتبس هو اتهام مستمر للسلطة وعنادها وفشلها فى القرب الحقيقى من الشباب بثورتهم وأحلامهم وأخطائهم وفلسفاتهم المختلفة. بعد نصف ساعة من المشى، تزدحم رأسى بالأفكار..تتثاقل قدماى وكأن كل متر مشيته قد علق بهما وشدهما إى الأرض أكثر. وأنا أشرب القهوة فى مقهى أمام الجامعة كنت أسأل نفسى كيف وصلنا هنا، فلا نحن ثوار فالحين ولا دكتاكتورين أذكياء ولا آباء نافعين ولا مخططين ناجحين؟ والسؤال الأهم كيف وصلنا هنا هو كيف نخرج من هذا المأزق؟ المشهد .. درة الحرية المشهد .. درة الحرية