هناك فورة في الإنتاج الروائي المصري من جانب كتاب وكاتبات جدد. وليس المقصود الجيل بسنوات الميلاد، بل الجيل بالرؤية الفنية وتقنيات السرد. و رواية "إني أحدثك لتري" لمني برنس تحوي صراحة ما يعد التشابهات العائلية في إنتاج هذا الجيل. فهذه رواية عن الحب تضيف الجديد إلي موضوع شديد القدم، تسخر من فكرة معالجة الرواية للقضايا الكبري أو اختمارها بالإيديولوجيا. وهي بالإضافة إلي ذلك رحلة ذاتية داخلية تعلن فيما يشبه البيان رفضها لأن تهتم الرواية بالبحث عن خلاص واكتشاف الهنا والهناك، أو أن تكون كشكولاً يحوي بعض السياسة وعلم الاجتماع وعلم النفس والإيروتيكا؛ علي الرغم من أن ذلك كله كان وصفة لطهي الروايات سبق أن جربت وأتت بمفعولها من انتشار وترجمة. فالرواية ترفض كل الأشكال التقليدية وكل الموضوعات التي لا خبرة لكاتبها بها. إنها صوتها الخاص في الحب وصوت شريكها قدر فهمها له. وقد تتهم بالذاتية وحتي بالشبقية من النوع الذي يصاب به بعض الرجال دون أن تلتزم بالشكل الروائي المعتاد؛ فالنص مقاطع من لحظات عايشتها البطلة دون الاهتمام بما يسمي وحدة عضوية في الشكل. وليكن المقطع الجزئي ما يكون من الرواية، فقد يأخذ شكل قصة قصيرة أو قصيدة نثر أو اقتباس من نصوص أخري، فلم تعد الأشكال المقننة تعني الراوية التي تصف نفسها في المفتتح بأنها تقامر في الكتابة كما قامرت في الحب، أو بتعبير أشد جرأة بأنها عربدت في الكتابة مثلما تعربد في الحب. جيل غير مهتم!! ولكن بعض النقاد والناقدات يقولون مثل هذا الكلام دون مقامرة أو عربدة. فهذا الجيل لم يعد مهتمًا بما يسمي القضايا الكبري، قضايا الاهتمام الوطني والقومي والتحليل الديمقراطي والاجتماعي التي شغلت الأجيال السابقة كما يقال. وركز بدلا من ذلك علي الحدود الضيقة للذات وعلي التفاصيل الدقيقة للحياة اليومية، كما أن هناك، كما تقول الروائية مي التلمساني، التزييف الملموس لكل شيء نتيجة لسيطرة الصورة في أجهزة الإعلام الموجهة. لذلك كان رد الفعل في الأدب أن انسحب كل شيء حولنا إلي الداخل لأن أي أمل في صحة الصورة الخارجية التي تلتقطها الكاميرا لم يعد موجودًا، فالكاميرا قد تلوثت ولم يبق أمل إلا في الداخل لأن ما فيه من صور قد تكون جديدة أو حقيقية علي الأقل. ويؤكد كثير من الكتاب علي أن الداخل النفسي علي وعي بذاته ووجوده وحدوده وعلي وعي بالوجود ككل. وقد خبرت بطلة الرواية وجود الله في أعماق ذاتها. هل كانت صدفًا عمياء تلك التي جمعتها بهذا الرجل كما جمعته بها صدف عمياء أخري حتي أصبح كل منهما حب حياة الآخر، أم كان ذلك ترتيبًا فوقىًا نورانىًا تزامنًا وتتابعًا في حدوث الأشياء ليلتقيا في حفل طارئ كانت تنوي المبيت في بيت صاحبه، غير أن آخرين سبقوها في الحجز وصار المكان مزدحمًا فباتت عند الذي سيصبح حبيب المستقبل بعد أن سألته سؤالاً عارضًا فبدأ حديث استمر حتي مطلع الفجر. كل منهما أتي من صحرائه الخاصة محملاً بهواجس ماضيه، صحراء جرداء مقفرة، ثم التقيا وكانا عطشانين. وعند طلوع الفجر كانت البطلة هي التي طلبت منه أن يقبلها، فقبلها وقبلها وقبلها حتي ارتوت. ومنذ تلك القبلة لم تشبع قط. وكانت الراوية تكتب بكثافة شعرية متصلة عن توالي اللقاءات يوميا وتشير إلي تماثلات مع نصوص أدبية باهرة. وهي إذن لا تتصرف كما تتصرف المرأة التقليدية عادة، التي لا تأخذ المبادرة من الرجل، كما أنها في مناجاتها لربها لا تتصرف مثل المؤمنات التقليديات عادة، فإيمانها احتياج داخلي تحدده أهواؤها، فهي تجد من الطبيعي أن تنام في الفراش نفسه مع رجل "غريب" بزعم أن شيئًا من الألفة والتلقائية سري بينها وبينه مما يجعل تواصل الجسدين أمرًا مفهومًا. كأنهما كانا معًا في حياة أخري سابقة متخيلة، وكأن روحيهما قد تآلفتا منذ زمن قديم فاستحضر جسداهما وصالهما التاريخي، يتشابكان ويتعانقان ويلتئمان. إنها امرأة ليست حداثية فحسب، بل فائقة الحداثة، فهي تعطي لنفسها هوية "نخبت" إلهة مصر العليا متمثلة في شكل النسر. ويسألها ألا تريد الزواج؟ فتقول إنها روح حرة وإلهة أي متزوجة من الكون كله. وتسأله هل يريد أن يتزوج فيرد أنه لا يحب القيود لكن لو حدث سيتزوج من بلده، فهو ليس مصريا بل هو صحفي من الجوائر أجداده من البربر يمثل بلده لفترة مؤقتة بمصر لا يعرف ماذا يريد، ويعيش اليوم بيومه. وهو مختلف عنها لا يستطيع أن يهب نفسه لهوس الحب مثلها، وهو حاضر وهو غائب ويحبها فقط لا يعنيه العشق، علي العكس منها فهي تشتاق إلي لهفتها عليه. وهي معذبة باعتقادها أنه لا يحبها قدر ما تحبه، ولا يريدها قدر ما تريده، وتجرؤ علي قول "سأتركه" لنفسها، بل ستعرف شخصًا آخر. ويتهم علي (وهذا اسمه) ع (وهذا رمز اسمها) بأنهما يدوران في الحلقة نفسها ولا يتقدمان أبدًا. وهما يتساءلان لماذا الوصل ثم القطع؟ لماذا هذه الرغبة المتبادلة لإنهاء العلاقة وعدم القدرة الحقيقية علي فعل ذلك؟ تقول إنها تريد أن تحتفظ به لنفسها، وهو يريد الاحتفاظ بنفسه لنفسه، فكيف يمكن أن تملك شخصاً لا يريد أن يمتلكه أحد. وقد أوضحت له من البداية أن لقاءهما الجنسي كان عابرًا وأفهمته أنها لا ترغب في الزواج وضد فكرة الارتباط حتي لا يذهب ذهنه إلي أبعد من الصداقة، ويبدو أنه هو الآخر كان حريصًا علي إرسال المعلومة نفسها إليها. ولكنها بعد ثلاثة أشهر ستطلب منه هي الزواج وسيرفض، وستطلب أن ينجبا طفلاً وسيرفض. وهي لا تغضب من رفضه لأنها تقول إن رغباتها هذه ليست حقيقية وإن تكن تزداد به افتتانًا. منشطات للبعد عن الملل وتشعر الراوية بالنسبة إلي كتابة القصة أنها متعثرة، فهي تدرك أن استكمال سرد ما يدور في قصة حب كهذه مؤثرة للغاية سيوقعها مع ذلك في فخ التكرار والملل إذ ليس هناك سوي المرأة ع والرجل علي وآخرين هامشيين. فقد تضاهي الرواية تفاصيل الحياة الفعلية لكن بالتأكيد -كما تقول الراوية- يجب حقن الرواية ببعض المنشطات التي تنعشها وتبعدها عن الوقوع في الملل، وهو عندها المعادل الموضوعي لروتين الحياة أو نمطية قصص الحب الفعلية. إن قصة ع وعلي لا تنقصها المشاعر الحارة ولا الانفعالات المتطرفة، إلا أنها لا تكفي وحدها لخلق عالم روائي كما تربت الراوية عليه، لذلك يجب عليها أن تختلق بعض الأحداث كي تدفع بالسرد إلي الأمام. وتخاطب الراوية طرفًا آخر هو القارئ وهي تفكر في مدخل مناسب يشد القارئ بعد الصفحات القليلة السابقة التي توحي بأن الحب ينمو ويترعرع، فالقارئ قد يعتريه الضجر من تكرار القبلات وندرة الأحداث أو التشويق، فيتساءل بنفاد صبر: وماذا بعد؟ إنها تفتعل شجارًا معه لأنه لا يرد علي مهاتفاتها وتدعي التساؤل: أيكون مع امرأة أخري؟ وتعرف بعد ذلك أنه نسي الموبايل بالسيارة، وكانت مشاجرة وقطيعة ليلة ثم تعتذر له ورجعت ريمة لعادتها القديمة. ولكن الراوية تعتقد أن المشاجرة أحدثت تغييرًا في مسار السرد العاطفي مؤكدة أن هذه الرواية ليست موجهة إلي القارئ الذي يبحث عن أحداث مثيرة أو صورة مجتمع، بل رواية حب صافية لا تنتهي نهاية روميو وجولييت المأساوية ولا تنتهي بتلك النهايات السعيدة المفزعة كاذبة الطمأنينة التي لا يخبرنا أحد ماذا يحدث بعدها. إنها تود أن يبقي في إعارة عمله مدة ثانية وتقول له إنه بوعي أو لاوعي يسكب جماله عليها قطرة قطرة ولا يسكبه مرة واحدة، وهي تتلقي كل قطرة علي حدة وتمضي وقتًا في رشفها حتي الفقرة التالية. وحينما يسافر في إجازة تفقد الأشياء حقيقتها ولا تعرف كيف ستقضي هذا الشهر فما أتعس عالمها الخاص؛ فتسمع الحكايات نفسها وآخر المغامرات والنمائم، تشاهد أفلامًا كوميدية وتسمع القهقهات البلهاء ولا تعرف سببًا للضحك، وتحضر ندوات ثقافية تدعي أنها تستمع لمجاملات نقاد لم يقرءوا كتب من يجاملونهم. ونحن لا نواجه هنا وصفًا موضوعيا للحياة الأدبية وللعالم من زاوية كاتبة تقدم انطباعات صادقة، بل نواجه عاشقة غاب حبيبها وطالت الدقائق والساعات والأيام وأبطأت جميعًا ونقرأ شعرًا منثورا عن الغياب والحياة الأوتوماتيكية حينما تنجز الآلة عملها دون تفكير ودون إحساس، وتذهب إلي جبل موسي لتدعو الله في سبحة صوفية أن يعيده إليها. إن صوتها هو الصوت المهيمن علي النص؛ ليكن! هذا نصها وماذا تفعل إن كان من تحب لا صوت له ولا يرغب في التعبير عن نفسه. فهل ستعبر هي عنه؟ ولكنها في الكتابة ليست من أنصار تقديم تمثيل فني (ربريزنتيشن كما تقول) للأشياء الواقعية. منعطفات وهذه الرواية تقود بطليها عبر منعطفات منطقية وغير منطقية إلي المراحل التالية ثم تتركهما غير مكتملين. وبدلا من حل العقدة في الروايات المعتادة ينتقل مركز الثقل في هذه الرواية إلي جانب استمرار المعاناة. فهذه الرواية ذات بنية استطرادية ترتكز علي سلسلة من حلقات صغيرة جزئية متفرقة لا تندمج في الكل المنتظم لموقف واحد كبير. وحينما نصل إلي المشهد الختامي سنري أنه ليس متميزًا كشيء خاص عن التتابع العام للرواية فهناك طبيعة متحولة ذاتيا للفعل في هذه الرواية بين قطع العلاقة واستمرارها تنتهي بموت البطل. ومن خصائص هذه البنية الروائية السيولة وعدم الحرص علي إبراز معمار للرواية أي تناسب أجزائها، بل تنفذ إلي الأعماق النفسية وتخترق النسيج الحسي الملموس للحياة اليومية، فاللوحة المحدودة الضيقة للوقائع والأحداث في الرواية تتغلغل في براح الحياة النفسية لبطلتها وتصور ببراعة معاناتها واختلاجاتها الداخلية الحميمة والشخصية العميقة والأحداث اليومية الاعتيادية. إن المشهد المصري الراهن في الرواية يقدم صورة مجتمع انتقالي إلي الحداثة بصورة مدهشة حيث لا يوجد نمط للسلوك متسق كل الاتساق، مما يجعل الكثير من الشخصيات في أدب آخر الأجيال الروائية بعيدًا عن التحدد والاستقرار تعاني القلق وتنتهك الطرق المعتادة في الحياة، فلا ارتكاز علي حل ما بل إلي تصادم الحلول ونفي بعضها لبعض. وهنا نجد الاهتمام غير المحدود بدقائق الحياة الشخصية والسيكولوجيا الداخلية. فالفرد مساو للعالم الروائي كما تتكرر المحاولات التي تتحسس الشاعرية العميقة للحياة النثرية العادية. فصور دقائق الحياة تعتبر الشكل الأساسي للتفكير حول العالم التاريخي والاجتماعي الكبير لإيقاع السرد الروائي. زواج وثمة تساؤل يبدو متناقضًا مع ما يؤكده السرد من عمق حب البطل للبطلة، ما الذي يدفعه إلي الزواج بامرأة تنتمي إلي بلده دون ذكر لأنه أحبها؟ وكيف له أن يخضع لزواج تقليدي مقرر سلفا؟ فذلك مشهد تراه البطلة كوميديا، وما إن سمعت بزواجه حتي مضت تضاجع بدويا تقول علي لسانها أنها افترسته بشراسة حيوان أصيب في مقتل ثم تبكي. وبعد ذلك في رحلة صحراوية تشارك في شرب عرقي بلح والتطوح في حلقة ذكر علي أشعار عمر بن الفارض. و تعرف أن والده من الثوار الذين خاضوا الحرب ضد الفرنسيين وأنه أرسل ابنه إلي مدينة بعيدة عن قريتهم ليتعلم اللغة العربية التي منع الفرنسيون تدريسها ثم إلي تونس لاستكمال تعليمه. وهذه القضية الكبري عودت البطل منذ الصغر علي الترحال، وربما أسهم ذلك في جعله غير قادر علي الاستقرار وإقامة علاقات طويلة المدي، لذلك كانت علاقاته دائمًا عابرة تستمر عادة ثلاثة أشهر قد تمتد في أحوال كثيرة ستة أشهر. وتتذكر هي أنها صاحت في وجهه: أهو عقد شقة قابل للتجديد؟ لقد بدأ الحديث عن الرواية برفض الكاتبة وجيلها للقضايا الكبري، ولكن هذه الرواية تقاجئنا بأن القضايا الكبري هي التي تسهم في بناء التكوين النفسي للذوات، فالذوات الفردية لا تخلق نفسها بنفسها، كما أن الواقع ومشاكله وعقباته تتأثر تأثرًا بالغًا بقضايا الحرب والسلام والصراع الدولي والأزمات الاقتصادية والسياسية، فلا يمكن للرواية كنوع فني أن تضيع في ذاتية مغلقة.