حين تنطلق الرسائل الفكرية الثائرة من أعماق عالم يموج بالخيال والإبهار وتأتي تجارب الفن لترفع رايات العصيان، فلا شك أننا أمام حالة إبداعية متميزة، تبعث موجات من الوعي بأبعاد الكائن والرغبة في تجاوز عذاباته. في هذا السياق نتوقف أمام عرض «حمام روماني» الذي يقدمه مسرح الطليعة علي قاعة «صلاح عبدالصبور» وذلك في إطار الاحتفال بافتتاح هذا الصرح الثقافي الضخم بعد تجديده وتطويره. مؤلف المسرحية هو البلغاري ستانسلاف ستراتيف، الذي كتب نصا غرير الثراء، يموج بالنبضات الحية والأنفاس الحارة وإيقاعات الحياة، ويندفع بقوة ليواجه عذابات الإنسان وانكساراته.. تلك المواجهة التي يطرح المؤلف من خلالها قضية الإنسانية المهدرة باسم السياسة والاقتصاد والتاريخ والحضارة.. باسم الشعارات الزائفة الرنانة، حيث التسلط والقهر والاستلاب، وعبثية وجود وحشي يغتال البراءة والأحلام، ويذكر أن هذا النص يتجاوز زمنه الخاص ومكانه الخاص ويمتلك قابلية الاشتباك الصريح والتفاعل الساخن مع أبعاد الواقع الإنساني المشحون بالتناقضات. مخرج المسرحية هو الفنان المتميز هشام جمعة، الذي تناول نص ستراتيف بأسلوب مدهش يؤكد عشقه الجارف لهذا الوجود المفترض، الذي بعث فيه الحرارة والوهج، ولونه بأحلام البسطاء ودفء الشجن، فجاءت رؤاه مختلفة ومغايرة، تكشف عن امتلاكه وعياً ثائراً وحساً فنياً متمرداً، وظلت خصوصية مفرداته ورشاقة خطوطه تثير الجدل، وتشتبك مع هذيان الأعماق وجموح الرغبات وجنون الطموحات. قبل الدخول إلي قاعة العرض تأخذنا مشاغبات لغة الإخراج إلي عزف مثير علي أعصاب عارية، ليندفع المتلقي دون أن يدري إلي دوامات القلق.. عمال الآثار بملابسهم الفسفورية اللامعة يقفون أمام الباب، والسقالات تمتد في المدخل، ويظل البرتكابل الخشبي المرتفع هو الطريق إلي داخل القاعة. يمتد تيار المشاعر وتتحول ضغوط القلق إلي نوع من الدهشة، وتمنحنا اللحظات الأولي انطلاقاً مبهراً إلي وجود غامض ومراوغ، حيث لمحات الجمال الأخاذ التي يبعثها التشكيل السنيوغرافي لمنزل «إيفان أنتونوف» ذلك المكان الذي سيشهد سقوطاً مروعا لإنسانية الإنسان.. وفي هذا السياق تأخذنا تفاصيل صورة المشهد المسرحي إلي بيت هاديء مسكون بالذكريات..، لمحات الجمال، تعانق الدفء والبساطة وتتباعد تماماً عن الثراء.. صمت ساعات الحائط يشتبك مع الراديو القديم، والكتب تعانق الصور والتماثيل، وتدفعنا إلي الأركان والزوايا حيث المقاعد والكراسي والحجرات، الكئوس والزجاجات الفارغة، والموتيفات الصغيرة الكاشفة عن تفاصيل ليال ونهارات متوالية. كان أنتونوف رجلاً وحيداً بعيداً عن موجات الحياة الفوارة، يعيش في هدوء ويلون الأيام بظلال أمنياته الصغيرة، وفي ذلك الصيف بالتحديد كانت سعادته غامرة، فقد سافر ليقضي الأجازة علي الشاطئ، وقرر أن ينتهز الفرصة لترميم شقته..، وحين عاد واجهته صدمة مفزعة، غيرت مسارات حياته، ودفعته إلي أعماق ثورة جامحة، وكما تشير الأحداث المتوهجة بدلالات الوعي والسياسة ومفاهيم الأخلاق، فإن العمال قد عثروا علي حمام روماني أثري أثناء تغيير بلاطات الأرضية، وأبلغوا الجهات المسئولة، وعاد أنتونوف ليعيش عبثية تلك اللحظة الفارقة حين وجد شقته مباحة ومتاحة يشغلها المراسلون والصحفيون وقنوات التليفزيون، وأصبح الحمام الروماني البديع الذي يشغل منتصف الشقة هو نقطة البدء والمنتهي. تتقاطع خطوط الحركة اللاهثة مع الحوارات الرشيقة الزائفة ويصبح «أنانيف» الأستاذ الجامعي المتخصص في الآثار، هو بؤرة الضوء والبريق حيث التصريحات النارية حول جماليات أول حمام روماني كامل يعود إلي عصر الإمبراطور بومبليان والتأكيدات القاطعة علي أن استمرار الحفر سوف يكشف المزيد.. وفي هذا الإطار تتكشف إيقاعات القهر والغياب عبر كوريوجرافيا ساخنة تتجه بأنتونوف صاحب الشقة إلي هامشية الحضيض، بينما يعيش أستاذ الجامعة إيقاعات الزهو باكتشاف سيمنحه انطلاقاً إلي واقع شخصي جديد، وعبر جدل الظلام مع دراما الضوء الأحمر وحرارة الحوار البسيط، يعايش المتلقي صدمة الكشف الجميل عن أعماق الذات وعذابات الانكسار حين يتساءل الرجل.. أين أعيش؟ أين أنام؟؟ أين أعزف علي القيثار؟؟ أين أنجب الأطفال؟؟ وتأتي اجابات الأستاذ لتكشف عن تيارات الجنون. حيث يؤكد للرجل أن البيت لم يعد بيته، بل هو ملك المجتمع والوطن والحضارة والإنسانية، وعليه أن يضحي بوجوده في سبيل القيم الكبري. تمتد إيقاعات الصراع العبثي اليائس، وتنفصل العلاقة تماماً بين الإنسانية كمفهوم مجرد، وبين الإنسان كذات ومشاعر وكيان، وتتفجر التساؤلات الدالة حول الوجود والاغتراب والعذاب، وتطل لمسات الكوميديا في عناق حار مع لمحات الجروتسك ووقائع المأساة..، وعبر تضافر الضوء والموسيقي تأتي الجميلة «مارتا» صديقة الدكتور أنانيف، لتبعث وعياً جديداً يحرك مسارات الحياة في اتجاهات مغايرة. تندهش مارتا حين تري أنتونوف، فقد وعدها صديقها أن يكونا وحيدين، فهي معذبة بمراوغاته، تبحث فيه عن الفارس، عن الدفء والمعني الهارب، عن الحب والرغبة والبريق والليالي.. لكنه مسكون بطموحاته ومدفوع بقوة خلف أحلامه وفي هذا السياق يعايش المتلقي حالة من الوهج الكوميدي المثير الذي تبعثه تناقضات العلاقة بين الحبيبين، وتداخلات أنتونوف المعذب حين يطلب بيتاً آخر يعيش فيه، ورغم محاولات التزييف، تتعاطف مارتا مع الرجل وتلمس عذاباته اليائسة، وتدرك أيضاً أن فتاها لا يهوي إلا طموحاته ولا يعشق إلا ذاته. تتضافر خطوط الحركة مع الموسيقي والأداء وتكشف عن انفصال مخيف بين الشخصيات الثلاث، وتقودنا ملامح الجروتسك إلي عمق مفاجآت الحياة حين يرتبط خروج مارتا من المنزل، باندفاع أنتونوف خلفها، لتصبح تلك الليلة هي لحظة فارقة في مسارات امتلاك الذات وفي هذا الإطار يأخذنا الضوء الأزرق إلي هدوء نسبي حيث الليل والإرهاق والرجلان النائمان، وتتكشف أبعاد جماليات الحمام الروماني بتماثيله الناعمة في الزوايا والأركان، وتشهد الأحداث تصعيداً مغايراً مع دخول «تسيكوف» تاجر الآثار والأيقونات.. الذي يتحايل علي أنتونوف ليبيع له الحمام الأثري.. يضعه أمام خيارات ساخنة.. يأخذه إلي تفاصيل حلم الثراء المثير.. بيت في سويسرا، وفيلا علي شاطئ بورتو صوفيا، وأموال ونساء وانطلاقات، يؤكد أن هذا هو مخرجه الوحيد هرباً من الفقر والطرد والتشرد وتدخلات الحكومة.. لكن صاحب البيت يظل باحثا عن القيم والمعني والشرف، وعن ظلال فلسفة أخري تبدو شاحبة أمام وحشية هذا الزمان. هكذا تتخذ المفارقة أبعاداً أعمق عبر خطوط الحركة اللاهثة والضوء الواضح والحوار الرشيق وصراعات الدكتور المشحون بحلم الأطروحة والشهرة، والذي يلوح دائماً بالأوراق الحكومية الرسمية التي منحته حقاً في اغتيال حياة إنسان. تأخذنا لغة المخرج الجميل هشام جمعة إلي حالة من الجدل المثير، الذي يكشف بلغة الفن الراقي عن عشوائية أنظمة تستلب الروح من الإنسان، وتضعه أمام فراغ كوني عنيد يمنحه اليأس والعجز والانهيار، وتأتي تقاطعات الكوميديا مع شراسة الجروتسك لنصبح أمام صراخ الصمت الساكن في عمق واقع يحكمه العبث، وتدخل إلي إطار الحدث شخصية جديدة تبعث صخباً مثيراً مشحونا بالدلالات العميقة، فنحن أمام شاب جاءه قرار التعيين من الحكومة ليصبح منقذاً في حمام السباحة ومدرباً لسباحي المونديال. السعادة تدفعه إلي إثبات وجوده فيأتي ببرج المراقبة والعوامات والصفارة.. ويحتل هو أيضاً بيت أنتونوف..، لتغيب الحدود الفاصلة بين الإنسان والدولة والقانون، وتتضح عشوائية الرؤي الرسمية من خلال تلك الصياغة البليغة التي رسمها المؤلف لمنقذ علي مسبح بلا ماء، ويذكر أن التشكيل الجمالي لإخراج هذه المشاهد قد فتح المسار أمام وهج الكوميديا، وتفجرت الضحكات المريرة عبر اشتباكات الشاب مع صاحب الشقة حين يتعاطف معه ويستجيب لرغباته، فيمثل الغرق، وينقذه الفتي ويسجل في دفاتره انه يعمل!. يتصاعد البناء الدرامي والجمالي للعرض عبر امتداد المفارقات التي تكشف تفاصيل شخصية أنتونوف بطل العرض، حيث وقائع القهر العنيد، وإمكانات السقوط المعنوي وزهو الصعود المادي، ويظل الرجل البسيط هو الحلم الإنساني الجميل في واقع مهترئ ومخيف، وحين يأتيه الوسيط العقاري ليشتري البيت..، تعاوده التساؤلات المريرية حول القيمة والمعني والإنسان الممزق بالعذابات في انتظار جودو الأبدي. تقترب النهايات وتأخذنا الموسيقي والضوء والظلام إلي اندفاعات تيار الوعي وآهات الدموع والأحزان، وتتجه بصمات لغة الإخراج الفريدة إلي جماليات التكثيف البليغ لمعني اغتراب الإنسان، ونري أنتونوف وهو يحكي بحرارة عن تفاصيل قضية عمره لذلك الرجل الضخم الصامت، وتأتي صدمة المفارقة المريرة حين يعلم ونحن معه أنه أصم أبكم منذ الولادة، وتتفجر في أعماقنا جميعاً «دلالات مأساة نعيشها..، حيث لم يعد هناك من يستمع إلي الآخر.» وهكذا تأخذنا خطوط الحركة وتقاطعاتها العبثية المخيفة إلي المنقذ الذي لا يزال يبحث عن أي إنسان ليمثل أنه ينقذه، ونصبح أمام معادلة صعبة تخاطب الإرادة الإنسانية لتدافع عن قدسيتها وحرارتها. تتفجر الحالة المسرحية بالوهج المجنون، وتعود الجميلة مارتا.. تعانق أنتونوف، ونعلم ببساطة أنهما خطيبان يعيشان قصة حب مثير، دفعتهما إلي قرار بامتلاك الحياة..، ذلك القرار الذي يضع الجميع أمام ميلاد جديد لمفاهيم إنسانية الإنسان، وعبر التعليقات الحوارية الساخنة تتكشف أبعاد الجدل ويؤكد الدكتور الطموح أنه ليس من الحكمة أن يضحي بالأطروحة والحمام من أجل امرأة، وفي هذا السياق يصبح الحب هو البريق الحاضر بقوة في قلب المشهد الواقعي، والمشهد المسرحي، الذي يجمع كل أبطال العرض في تشكيل جمالي شديد التراث يموج بالحركة الثائرة رغم السكون والثبات، فنري أنتونوف ومارتا وسط الحمام.. يلفهما الضوء الوردي، الذي يعانق خطورة صمت الأوغاد، حيث الجميع يحيطون بهما، وتظل طاقة الأجساد والمشاعر تعكس صراعاً عنيداً، يكشفه الغناء الجميل المشحون بالرسائل والتواصل الأثير، ويتردد صوت أنتونوف مؤكداً أن البيت والأمان هما أغلي ما في حياة الإنسان، لذلك سوف يحمي بيته، يعيش ويموت فيه، وعبر رشاقة وجماليات التشكيل يندفع ومارتا ليطردا كل الآخرين، وندرك أن الأوطان والبيوت ليست مشاعاً، وأن الشرائع تفرض علينا حماية شرف إنسانية الإنسان. هكذا تنتهي التجربة المبهرة، التي أثارت طاقات من الوعي والحب والثورة والجمال، والتي شارك في صياغتها فريق عمل متميز، فكان نجمها الفنان «محمد محمود» هو طاقة من الإبداع الحي الدافيء الجميل، الذي أثار التساؤلات عبر جماليات أدائه المدهش، وسحر تواصله الخلاق مع قلوب وعقول الجماهير، فقد عزف ببراعة علي أوتار الروح، وانتقل بنعومة من الكوميديا إلي التراجيديا، ليضعنا أمام مأساة وجود محموم، وأثبت أن طاقات تجدده وخصب موهبته تنتمي إلي سحر الفن وعمق الثقافة وثراء المشاعر والأحاسيس. تأتي مشاركة الفنان «أيمن الشيوي» لتضيف إلي العرض أبعاداً وأعماقاً شديدة الثراء، حيث أداؤه المتميز لشخصية مركبة مشحونة بالدوافع والانفعالات، التي كشفت عن إيقاعات التسلط والطموح، أما الجميلة نيفين رفعت فهي صاحبة حضور براق ومشاعر فياضة وأداء منضبط يكشف عن موهبة ذات أصداء مترددة، ويذكر أن الكوميديان أشرف عبدالفضيل قد بعث حالة من الوهج والتفاعل، وأثار اعجاب الجمهور. شارك في العرض أيضاً الفنان جميل عزيز، مصطفي عز الدين، خالد العيسوي مصطفي جابر، هيثم حسن، طارق إسماعيل، خالد العطفي وكارم أباظة. ديكور العرض للفنان المتميز ربيع عبدالكريم، والأشعار الإنسانية الثائرة للدكتور مصطفي سليم، والموسيقي الدرامية لسامح عيسي، وكان التعبير الحركي الرشيق للفنان أيمن مصطفي.