في التاسع من فبراير 2008، رحل عن عالمنا الأديب والصحفي الجليل رجاء النقاش، بعد أن وهب حياته للعمل الأدبي، علي مدي خمسين عاماً، ولكنه لم يمت من يترك تلاميذ يسيرون علي دربه، ويعدون امتداداً لحياته، فالنقاش صاحب رسالة نقدية وأدبية، بالإضافة لرسالته الصحفية، جعلته يقف جنباً إلي جنب مع نقاد وأدباء النصف الثاني من القرن العشرين، مثل العقاد وطه حسين ومحمد مندور ويحيي حقي والحكيم والمازني وأحمد أمين وغيرهم، أما رسالة النقاش النقدية التي أخلص لها، فهي محاولته تقريب الأدب والثقافة لأذهان العامة، والهبوط بهما من سماوات آلهة الفكر إلي الأرض، فهو "برومثيوس" جاء حاملاً شعلة العلم للبشرية، لأنه يدرك مدي شغف القارئ البسيط بالأدب والعلم، بعد أن تحولت وسائل الثقافة العميقة الجادة، إلي أمور مستحيلة، بسبب هذا الجيل الحالي من الأدباء والنقاد، الذين اتجهوا إلي التعقيد في التعبير والتفكير، حتي تحولت أعمالهم إلي طلاسم، وأصبحت الثقافة العامة، نوعاً من "الحكم بالأشغال الشاقة المؤبدة، علي إنسان بريء.."، وذلك تعبير النقاش نفسه، فقد رأي أن المهمة الأساسية للكاتب، هي أن يكون أداة توصيل جيدة، بين القارئ والأفكار المختلفة، أما إذا حاول الكاتب أن يكون مصدراً لتعذيب القارئ، بالمصطلحات الصعبة، فإنه يصبح مثل المعلم الذي يحمل الكرباج لتلاميذه. مشوار ثقافي ولد النقاش في29سبتمبر 1934، وبدأ مشواره الثقافي منذ عام 1956، بعد تخرجه في كلية الآداب قسم اللغة العربية، عمل بالمجال الصحفي، وتدرج فيه حتي رأس تحرير العديد من المجلات، أشهرها روز اليوسف، والهلال، والإذاعة والتليفزيون، والكواكب، ولكنه اتجه بعد ذلك للكتابات النقدية، وهذا يعد أهم تحول في حياته الثقافية؛ فعندما هبط النقاش بعرش الثقافة من برجها العاجي، إلي سفوح العامة، ترك لنا علامات من الكتب في تاريخ النقد الأدبي، أهمها: "ثلاثون عاماً من الشعر والشعراء"، "أبو القاسم الشابي شاعر الحب والثورة"، "عباقرة ومجانين"، "نساء شكسبير"، "عباس العقاد بين اليمين واليسار"، "قصة روايتين"، وهي دراسة نقدية مقارنة لروايتي: "ذاكرة الجسد"، للروائية الجزائرية أحلام مستغانمي، و"وليمة لأعشاب البحر"، للروائي السوري حيدر حيدر، وكتاب "صفحات مجهولة في الأدب العربي المعاصر"، الذي نشر فيه عدداً من رسائل أدبية، أرسل بها الأديب الراحل أنور المعداوي، للشاعرة الفلسطينية الراحلة فدوي طوقان، كما قدم للقراء عدداً من من المبدعين، مثل الروائي السوداني الراحل الطيب صالح، مما أدي بالنقاد إلي إعادة اكتشاف روايته: "موسم الهجرة إلي الشمال"، التي اعتبروها محطة رئيسية، ونقطة تحول في مشوار تطور الرواية العربية، وقدم للقراء الشاعر المصري، أحمد عبد المعطي حجازي، حين كتب له مقدمة ديوانه الأول: "مدينة بلا قلب"، والشاعر الفلسطيني الراحل محمود درويش، حين أصدر عنه كتاب:"محمود درويش شاعر الأرض المحتلة"، عام1969. إحساس متميز من هنا، يتضح إحساس النقاش النقدي المتميز بالمبدعين في وقت مبكر، حتي سماه الكاتب محفوظ عبد الرحمن، بجواهرجي الأدب، وقيل إنه صائد الجواهر، وذلك يدعو للقول بأن النقاش، لو لم يأخذه العمل الصحفي، وراح يتفرغ للمشروع النقدي، لكان أضاف لنا الكثير في عالم النقد الأدبي. في السطور القليلة القادمة، سأقدم للقارئ أهم كتاب نقدي تركه لنا النقاش، وهو كتاب: "عباقرة ومجانين"، ذلك الكتاب الذي جمع فيه ستاً وثلاثين سيرة، لرموز في الفكر والفن والأدب والسياسة والحضارة والتاريخ والأخلاق، في العالمين العربي والغربي، وتكمن عبقرية الكتاب، في لغته السلسة، وأسلوبه الرشيق، لإيمانه بأن الثقافة ليست شيئاً منفصلاً عن حياة الإنسان، وقد قال في مقدمته: "إنه ليس صحيحاً أن المثقفين قوم يعيشون في منطقة معزولة عن الدنيا، وأنهم مجموعة من الكهنة الغامضين..بل الحقيقة، هي أن الثقافة تعبير عن مشاكل الإنسان وهمومه، وأن المثقفين يحبون ويكرهون ويتألمون، ويواجهون نفس المشاكل المادية والمعنوية، التي يتعرض لها الناس جميعاً". محاولة تحريض استطاع النقاش في هذا الكتاب، أن يصعد لهؤلاء النجوم في سمائهم، ويهبط بهم إلي تلاميذه من محبي الأدب، بعد أن كانت هذه الرموز تبدو لهم علي شكل أحاجٍ وطلاسم، ردحاً من الزمن، وقد وضح النقاش غايته من الكتاب في مقدمته حين قال: "إن هذا الكتاب محاولة للتحريض علي مزيد من القراءة، واقتحام عالم الثقافة، بنشوة وحماس، وبلا خوف..فالثقافة هي العنصر الذي يجعل حياتنا أجمل، وسلوكنا أرقي، وذوقنا أرفع". وقد تمني أن يسهم هذا الكتاب في تحقيق التحريض الجميل علي حب الثقافة، حتي يكون قد حقق جزءاً كبيراً من حلمه الثقافي، فقال: "إن هذا الهدف هو جزء من أحلامي، والأحلام قوة دافعة في حياة الإنسان"، أما عن اختياره لعنوان الكتاب، فقال إن ذلك من واقع الشخصيات المعروضة علي صفحاته، فهم عباقرة أم مجانين، وبين العبقرية والجنون خيط رفيع، فالعبقرية استثناء وخروج علي المألوف، وكذلك الجنون، ولكن العبقرية تبني وتضيف عناصر إيجابية إلي حياة صاحبها وحياة الناس، أما الجنون فهو تدمير لصاحبه، ومحاولة لتدمير الآخرين، ويقول: "ولعلنا نستطيع أن نقف في وجه الجنون، وما يترتب عليه من سلبيات، ونستطيع كذلك أن نستفيد من العبقرية ونتعلم منها، ونستنير بما تقدمه من أفكار..". ملوك وصعاليك إن الكتاب بمثابة سياحة روحية في الزمان والمكان، بين القديم والحديث، ينتمي للأدب الإنساني الخالدة، وهو أشبه بكتاب الشاعر والناقد الأبوللي: صالح جودت، الذي نشر عام1958، تحت عنوان: "ملوك وصعاليك" حيث جمع فيه جودت عشرين سيرة، لعشرين ملكاً وصعلوكاً، بمعنيهما المجازي والحقيقي، فهو لم يعنِ بالملوك، أولئك الذين يلبسون التيجان فوق رؤوسهم، وإنما يعني بهم هؤلاء الذين يشيدون دولة من دول الأدب أو السياسة أو العلم أو الفن أو الدين، فهؤلاء عنده هم الملوك حقاً، الذين لا تستطيع قوة في الأرض أن تنتزع عنهم تيجانهم، ولم يعن بالصعاليك، أولئك الحفاة المشردين في الأرض، جياعاً عراة، والصعلوك في اللغة هو الفقير، والفقر، مظهر أو جوهر، قد تجد بينهم صاحب ملايين، ولكنه فقير النفس، فهو علي هذا الوضع، صعلوك كبير، وهكذا، كان للمُلك والصعلكة، مفهوم خاص عند صالح جودت. والحال كذلك عند النقاش، فلم يحكم علي أي من الست وثلاثين شخصية بالجنون أو بالعبقرية، وإنما ترك ذلك للقارئ، حيث اختلطت العبقرية بالجنون عند الكثيرين منهم، إلي حد الامتزاج والتماهي، وعندما نقترب من تلك الشخصيات، لا نملك إلا الإعجاب بعبقرية النقاش، في قدرته علي إظهار جوانب خفية من كل شخصية. تكفي للدلالة علي عبقريتها التي تقترب من الجنون، أو جنونها الذي يقترب من العبقرية، فقد تمازجا ليخرجا كوامن الإبداع في كل شخصية، فنري مثلاً أقدم شاعرة في التاريخ، "سافوي"، التي عاشت في الفترة الممتدة بين 610- 560 قبل الميلاد، في جزيرة "لسبوس" اليونانية، وقامت بإنشاء أول مدرسة في التاريخ، لتعليم الفتيات فنون الشعر والموسيقي والرقص والسلوك المهذب، كانت ذات موهبة موسيقية كبيرة، وصوت جميل، أهلتها عبقريتها لإضافة وزن جديد إلي الأوزان الشعرية، وأصبح معروفاً باسمها إلي الآن، وهو الوزن "السافوني"، وقد اتسمت علاقتها بتلميذاتها بالعاطفة القوية، مما أطلق الشائعات المختلفة ضدها، واتهموها بالسلوك المنحرف مع البنات، حتي أصبحت المرأة ذات السلوك المنحرف في اللغات الأوروبية، يقال لها: "ليسبيان"، منسوبة لمدينة "لسبوس"، وهي مدينة الشاعرة "سافوي"، وذلك بسبب اللغة العاطفية الحارة في قصائدها، التي تحدثت فيها عن علاقاتها بتلميذاتها، ولكن الباحثين المعتدلين، يرون أنها شاعرة محبة لفنها ولتلميذاتها، فهي عبقرية اتهمت بالانحراف، لسلوكها الذي اقترب من الجنون. وفي شخصية "كاليجولا"، ذلك الإمبراطور الروماني، الذي استطاع أن يحكم روما في السنوات الممتدة من 37-41، ميلادية، حقق فيها العدل، ومارس الديمقراطية، بأسلوب فتن به المواطنين، ثم رأي أن كلمته مطاعة ومسموعة، وأنه يستطيع أن يفعل أي شيء في أي وقت، فانتابه جنون العظمة، ووصل به جنونه إلي أن اختار حصانه المفضل، "انستانس"، ليجعل منه عضواً في مجلس الشيوخ، ثم اختاره ليكون ولياً للعهد، وانقلب إلي إمبراطور مستبد، حتي جاءت نهايته مقتولاً علي يد أحد ضباط حرسه المقربين. ثم نري أغرب ثورة في التاريخ، فلم يكن لهذه الثورة علاقة بالسياسة، ولم يكن زعماؤها من الطامحين للسلطة، إنها ثورة العاشقين، التي اندلعت في روما، في عصر الإمبراطور "أغسطس"، و"أغسطس" هو نفسه "أوكتافيوس" الذي حارب أنطونيو وكليوباترا، وانتصر عليهما في موقعة "أكتيوم" البحرية عام32، ق.م، فسادت عوامل السلام والرخاء، وأدي ذلك إلي انتشار الشعر والفنون، ونادي الشعراء إلي الاستمتاع بالحياة، واتخذوا من الشاعر "أوفيد"، إماماً وقائداً لثورة العاشقين، فكانت ثورتهم تقترب من الجنون والهوس بالعشق. والمقام يطول بنا في استعراض هؤلاء العباقرة والمجانين، عبر صفحات الكتاب، فنري مثلاً "تشاترتون"، أصغر شاعر فرنسي، انتحر في سن الثامنة عشرة، خوفاً علي عبقريته الشعرية، فتخطي بانتحاره الخيط الفاصل بين العبقرية والجنون، وغيرهم كثير. وهكذا، قدم النقاش، بجنون عبقري وعبقرية الجنون، سياحة فكرية في الزمان والمكان، تجلت فيها عبقريته النقدية.