لعل أبرز ما يمكن أن تمنحه قصيدة نثر العامية الجديدة في أبهي وأنصع صورها هو تقنية «الصورة المشهدية» والتي يحاول فيها «الشاعر» الوصول إلي المعني المراد والقيمة المبتغاه من نصه الشعري خلال مجموعة من «المشاهد السردية» بعد أخذها أو تناولها بتسلسل فني تأثيري تصل بنا إلي «المشهد الكبير» أو «الصورة الكلية الجامعة» والتي تنطق في النهاية بما يريد الشاعر قوله أو بعثه في خيال كل منا ووجدانه.. طلوع الروح تبدو تجليات هذه «التقنية الفنية» في ديوان «جايز ترتاح.. جايز» للشاعر - السعيد المصري والصادر عن المجلس الأعلي للثقافة لهذا العام حيث يبدأ قصيدته الأولي فيه «بيرفرف في طلوع الروح» بمشهد ذاتي يرويه بضمير المخاطب عن نفسه الثائرة المتوثبة عندما تواجه بلحظة فاصلة أو تحد هائل يصغر عنه ما يعتمل بداخلها من إرادة وعزيمة فتسقط داخله ويفقد الإنسان نفسه.. والمشهد التالي فيها يري نفسه وقد تحول إلي «جثة» ويتابع في صورة تخيلية مؤثرة «مراسم دفنه» ولأن الحزن علي نفسه المفتقدة كبير وهائل يحاول الخروج من حالته تلك بتذكر ضحكته ومواقفه المرحة ويعيش معها قليلا لحظات من «الانفراج» لا تلبث أن تتحول إلي بكاء وعويل، والمشهد الثالث في النص يتضمن تكملة للصورة «التخييلية» وقوف الشاعر أو «البطل» في عزاء «نفسه» وتعاظم شعوره بالألم والسقوط ثم مرور علي قبر «نفسه» وقراءة «الفاتحة» لها، والخروج سريعا «رهبة» وخوفا من «المكان» و«الحالة» وينتهي النص بمشهد ختامي جاء كنتيجة طبيعية لتلك الحالة من الفقد والوحدة عندما يواجه الشاعر مرة أخري «بالموت» فيتذكر «نفسه المفتقدة» التي أوحشته كثيرا فيحاول اللحاق بها دون جدوي وأخيرا يهتدي بفكره إلي ضرورة تكملة «الحلم» الذي حلمت به «نفسه» من قبل وفاء لها وتتمة لمشوارها المرتجي:- «طبيعي جدا../ لما تواجه الموت لآخر مرة/ تحاول تكمل حلمه/ فتفتكر آخر مرة/ جالك ف منام/ وقال لك: فينك يا واحشني/ عايز أشوفك/ فتشبط/ علي عواميد النور../ للسما/ وتنزل../ بردان!». شبورة وفي قصيدة تالية بعنوان «شبورة بتنزل جواك» يستخدم «السعيد المصري» فيها «ضمير المتكلم» يبدأ النص بمشهد عادي أو يبدو أنه كذلك يحكي فيه عن نفسه أنه أثناء مشاهدته لأحد الأفلام الكوميدية المعادة انصرف ذهنيا عن «المشاهدة» وسرح بعيدا ليجد في مشهد تالي من يجذبه من قميصه ويحاول الحديث معه دون جدوي في بادئ الأمر ثم أخذ يربت علي «ظهره» وكأنه يحاول تذكيره به، موزعا إشاراته عليه وعلي الفتيات الحسناوات - إشارة إلي مفاتن الدنيا ومباهجها - وعلي «تماثيل الرؤساء والزعماء» والتي تشوه - من وجهة نظره - الميادين والأماكن العامة وعلي منظر احتضان «برج الكنيسة» لمئذنة الجامع في دلالة واضحة علي توحد الإنسان في كل مكان وزمان وتحت أي اعتقاد أو «تنظير» وعندما أحس بالشاعر غير مدرك - رغم ذلك - أو متذكر له، أخذ يمسح له زجاج «نظارته»:- «حس بي../ وأنا واقف جنبه/ لكن روحي/ مش شايفاه../ فمسح لي/ النضارة/ بكمه!». وفي مشهد ثالث من النص يحاول هذا «المرئي» لخيال الشاعر أن يستمر في محاولته لتذكيره بنفسه فيمسح طبقات «الماكياج» من علي وجهه - إشارة لتقلبات وتصاريف الزمن والأيام - ،يريه ما كان يشاهده من «أفلام قديمة» وما كان يوجهه إليه من «نظرات» مرعبة «للطفل الصغير» داخله ولكل أيام «الشقاوة» و«التخلي» وصورتهما «الغابرة» سويا وهما يضحكان ويبكيان معا، ومشوارهما الذي مشت خلاله «خطواتهما» يشربان ويأكلان ويتسامران ويذهبان إلي «شاطئ البحر» وكأنه يبحث فيه عن «خاتم سليمان» إشارة إلي الأحلام غير الممكنة في هذا الزمان أو الواقع ويدندنان معا بجوار «العاشقين» و«الأحبة» محاولا أثناء ذلك إزاحة الجدار الواقف بينهما «دون جدوي»:- «حبه يشاور../ لكل اتنين حبيبة/ سارحين/ تحتيه ف فلوكه/ وشوية/ يدندن بأغاني/ مش مفهومة/ ويغرق/ ف دموع الضحك/ ويقب معيط../ حاول أكثر من مرة/ ينادي كفوف الشمس/ لأجل ما تكسر/ شيش الشبورة/ إللي بتنزل/ بيني وبينه». ويحاول الشاعر أو «البطل» في النص البحث عما يذكره بهذا «المرئي» أو «المتخيل البعيد» في نفسه، في روحه، في ملامحه، في كل «الشرائط» و«التصاوير» المحفورة داخله دون جدوي.. إلي أن نصل إلي المشهد الرابع والأخير والذي يبدوان معا فيه ضمن ركاب «الأوتوبيس» ليراه ينهر «الكمسري» والشخص «المتعجرف» ويتعاطف مع «الأطفال الفقراء» و«الفتيات المشردات» و«النسوة الثكلي» في لمحة لا تخلو من دلالات اجتماعية بليغة.. فيحس «بالاقتراب منه» و«التداخل معه» ويقرر أن يعطيه «عنوانه» وفي نفس اللحظة التي يكتب له فيها، يجده يخرج من جيبه نفس الورقة ويسجل فيها نفس العنوان فيكتشف «الشاعر» ونكتشف معه أن هذا «المرئي المتخيل» طوال النص، ما هو إلا الشاعر نفسه.. في إشارة دالة وعميقة إلي ضرورة نبذ «التناقص البشري» و«الانفصام الشخصي» الذي يعاني منه إنسان هذا العصر:- «وف آخر الخط/ لقيتني باطلع ورقة/ وباكتب له عنواني/ ف لقيته مطلع/ نفس الورقة/ بيكتب لي../ نفس العنوان!» ص72. ... وهكذا علي طول الديوان وامتداد نصوصه، يستفيد الشاعر السعيد المصري من تقنية «الصورة المشهدية» و«تجزيئها» في الوصول بقصيدة «نثر العامية» إلي «آفاق أرحب» و«فضاءات أوسع» من المعاني والدلالات....