تحتفل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية علي مدار العام بذكري مرور 150 عاما علي رحيل البابا كيرلس الرابع والملقب في كتب التاريخ بلقب "أبو الإصلاح " وهو البطريرك رقم 110 من سلسلة بطاركة الكنيسة القبطية ولد عام 1816 م،وتوفي في يوم 30 يناير 1861 م،أي أنه لم يعش أكثر من 45 عاما فقط،ولكن هذه السنوات رغم قلتها قد غيرت الكثير من وجه التاريخ كما سنري . تاريخ مولده غير مولده غير معلوم علي وجه الدقة،غير أنه من الثابت تاريخيا أنه ولد عام 1816 بقرية نجع أبو زقالي بالصوامعة شرق أخميم محافظة سوهاج،وسمي باسم داود، أما أسم والده فهو توماس بن بشوت،وهو الرجل الذي اهتم بالرغم من فقره بتعليم ابنه حسب ظروف عصره،فالتحق بكتاب القرية الملحق بالكنيسة حيث تعلم الحساب والكتابة باللغتين العربية والقبطية، وعندما كبر قليلا عمل في الفلاحة لمساعدة والده،وهناك أحتك بالعربان المجاورين لقريته حيث تعلم منهم الفروسية وركوب الخيل، وفي عام 1838 اشتاقت نفسه إلي حياة الرهبنة وكان عمره لا يزيد علي 22 عاما، فتوجه إلي دير القديس العظيم الانبا انطونيوس أبو جميع الرهبان بالبحر الأحمر، وعندما أختبره رئيس الدير في ذلك الوقت توسم فيه حياة النعمة فأوكل إليه الكثير من أعمال الخدمة بالدير حيث أثبت كفاءة فيها جميعا، وعندما توفي رئيس الدير أجمع الرهبان علي تعيين القس داود رئيسا للدير ولم يمض علي رهبنته أكثر من سنتين أي أن عمره كان 24 عاما،فأبطل الكثير من العادات السيئة التي كانت سائدة في الدير في ذلك الوقت،منها خروج الرهبان للتجول في البلاد بدون معرفة و إذن رئيس الدير، كما حرص علي رفع المستوي العلمي والثقافي لرهبان الدير،فأنشأ مكتبة وقاعة للإطلاع بعزبة الدير ببوش، وخلال هذه الفترة نشأ خلاف بين الرهبان الأحباش وأسقفهم، فكلف البابا بطرس السابع البطريرك ال109 والمعروف في التاريخ ببطرس الجاولي الراهب داود بالتوجه إلي هناك للعمل علي حل الخلاف،وخلال وجوده بالحبشة توفي البابا بطرس، فاتجهت الأنظار لرسامة الراهب داود بطريركا،فجمعت له التزكيات والتوقيعات من كل مكان،فرسم مطرانا عاما في يوم 17 ابريل 1853م،علي أساس أنه إذا أثبت كفاءة تتم ترقيته إلي منصب الأب البطريرك،وذلك بسبب صغر سنه وتخوف الشعب والأكليروس "رجال الدين " من عدم نضجه بالقدر الكافي،ولكنه عندما أثبت كفاءة متناهية في منصبه تمت سيامته بطريركا باسم "كيرلس الرابع" وكان ذلك يوم الأحد 4 يونيو 1854 لتبدأ الكنيسة القبطية عصر جديدا من النهضة والإصلاح. وكان من باكورة قراراته الإصلاحية ضرورة إنشاء مدرسة لتعليم الأولاد، فاشتري عدة منازل قديمة وهدمها،ثم أقام مكانها مدرسة شهيرة ذاع صيتها في جميع أنحاء البلاد، وفتحها للطلبة أجمعين مسلمين وأقباطا، وكان هذه المدرسة تعلم اللغات العربية والقبطية والتركية والإنجليزية والفرنسية والإيطالية، بالإضافة إلي علوم الحساب والجغرافيا، كما طالب بتوزيع الكتب والأدوات المدرسية مجانا، وتروي عنه كتب التاريخ أنه كان وهو الأب البطريرك يحرص علي حضور الحصص المدرسية ويجلس في الفصل مثله مثل أي تلميذ حتي إذا ما شاهد التلاميذ الأب البطريرك جالسا بينهم،يتشجعون في طلب العلم أكثر وأكثر . ولقد سبق البابا كيرلس الرابع قاسم أمين والمعروف في التاريخ بقلب محرر المرأة في الدعوة إلي ضرورة تعليم البنات،حيث أنشأ مدرسة في حي الأزبكية لتعليم البنات، فكانت بذلك أول مدرسة أنشئت لتعليم البنات في مصر، ثم أنشأمدرستين في حارة السقايين، واحدة للبنين وأخري للبنات،كما ألحق بهما كنيسة علي اسم الملاك غبريال في حارة السقايين، وكان يحرص علي زيارة المدرستين بنفسه مرة كل أسبوعين علي الأقل،كما أنشأ أيضا مدرسة في المنصورة،ولكنها للأسف الشديد أغلقت بعد وفاته . ولقد تخرج من مدرسة الأقباط هذه العديد من الرموز الوطنية الكبري نذكر منهم "بطرس غالي" و"يوسف وهبة" و"عبد الخالق ثروت " و"حسين رشدي باشا " رئيس وفد مصر إلي المؤتمر البرلماني الدولي المنعقد في باريس في أغسطس 1927 ..... الخ . كما سعي إلي الحكومة المصرية لإيفاد أحد الأقباط في بعثة دراسية إلي أوروبا،فأوفدت الحكومة شخص يدعي "لبير واصف عزمي" إلي فرنسا لدراسة الحقوق والإدارة،وكان ذلك عام 1855، وعاد البير من البعثة عام 1860 وترقي في المناصب الحكومية حتي وصل إلي منصب رئيس الحكومة المختلطة عام 1883،واستمر في هذا المنصب حتي توفي عام 1898 . كما فكر البابا كيرلس الرابع في شراء مطبعة حتي يتيسر للأقباط طباعة الكتب الكنسية بدلا من الكتب المخطوطة، فأوفد أربعة من شباب الأقباط إلي المطبعة الأميرية ببولاق ليتعلموا فن صف الحروف،كما كلف الخواجة رفلة عبيد "لقب خواجة كان يطلق قديما علي الأقباط، مثلها مثل لقب المعلم ولكنهم بالطبع كانوا مصريين خلص" بشراء المطبعة وأدوات الطباعة من أوربا، ووصلت المطبعة عندما كان هو في دير الانبا انطونيوس لبناء سور جديد للدير وتجديد بناء الكنيسة الأثرية وقلالي الرهبان، فأرسل رسالة إلي وكيل البطريركية بالقاهرة يطلب منه استقبال المطبعة بموكب حافل يليق بالمكانة العلمية التي سترتقي بها المطبعة بالأمة القبطية، وبالفعل ارتدي الكهنة ملابس الخدمة، وأنشد التلاميذ أناشيد الفرح، وعندما علم بعض المتزمتين بهذا الأمر تضايقوا جدا،وأبدوا استياءهم للأب البطريرك حيث رأوا في ذلك السلوك بدعة، فرد عليهم البابا كيرلس الرابع "لو كنت حاضرا لرقصت أمامها كما رقص داود النبي أمام تابوت العهد " كما آمن البابا كيرلس الرابع بأهمية الكتب والمكتبة، فأمر بتنظيم المكتبة بالدار البطريركية،جمع فيها جميع كنوز ومخطوطات الأديرة والكنائس القديمة . كما حرص علي عودة الكتابة بالتاريخ القبطي الذي كان قد أبطل استعماله إلا في الزراعة، ولكن في أيام هذا البطريرك أعيد استعماله مرة أخري اعتبارا من يوم 1 أبيب 1517 للشهداء الموافق 7 يوليو 1855 م،وبقي التاريخ القبطي مستعملا حتي 1 سبتمبر 1875م، حيث أبدل بالتاريخ الميلادي الغربي المستعمل حاليا إلي جانب التاريخ القبطي والتاريخ الهجري .كما حرص البابا كيرلس الرابع علي رفع مستوي المعيشة للكهنة،فرفع مرتباتهم حتي تليق بمستوي الأسعار في ذلك الوقت . كما آمن البطريرك المصلح بأن الأسرة هي عماد المجتمع،وأن النهوض بالأسرة هي حجر الزاوية الرئيسية في نهضة المجتمع كله،فطالب بوضع حد أدني لسن الزواج للفتاة، ونصح أن تكون فترة الخطوبة فترة اختبار حقيقية حتي يتيح للخطيبين فرصة التراجع عن الخطبة إذا اكتشفا عدم التوافق،وذلك حتي يسد الثغرة أمام جميع أسباب الخلافات الزواجية وعلي رأسها الطلاق الذي كان يبغضه جدا . ولعل التاريخ سوف يسجل عنه أنه كان أول بطريرك يسعي للحوار مع الكنائس اليونانية،"وهي الكنائس التي قبلت قرارات مجمع خلقدونية عام 451م، وترتب عليها ما عرف في التاريخ بالإنشقاق المسكوني الأول " فسعي بين كل البطاركة للوحدة والسلام، ويبدو أنهم اتفقوا علي الخطوط الرئيسية لاتحاد كل الكنائس الموجودة بمصر تحت رئاسته، حتي ان بطريرك الروم الآرثوذكس في ذلك الوقت عندما سافر إلي الآستانة، وضع شئون بطريركيته تحت تصرف البابا كيرلس الرابع، كما حرص البابا كيرلس الرابع علي إدخال العديد من الألحان والصلوات بالكنيسة اليونانية داخل طقس صلوات الكنيسة القبطية،وذلك حتي يدعم ويفعل الوحدة بين الكنائس المختلفة،ومازالت هذه الصلوات محفوظة داخل كتب صلوات الكنيسة القبطية" وهي واضحة كأشد ما يكون الوضوح في صلوات عيد القيامة المجيد التي تمتد لخمسين يوما متصلة فيما يعرف في الطقس القبطي ب"فترة الخماسين " كما وضع البابا كيرلس الرابع خطة ومنهج للنهوض بالصلاة باللغة القبطية داخل الكنيسة "سوف نأتي علي ذكر تفاصيلها بعد قليل " ثم توفي أخيرا في يوم 30 يناير 1861 عن عمر يناهز 45 عاما فقط،بعد أن قضي علي الكرسي البطريركي حوالي 7 سنوات و9 شهور و18 يوما،خلف خلالها سجلا حافلا بالإنجازات عجز عن صنعها الكثيرون في قرون . أما عن نهضته باللغة القبطية ،فلقد آمن البابا كيرلس الرابع بأهمية اللغة القبطية باعتبارها الحلقة الرابعة في سلسة تطور اللغة المصرية (الهيروغلوفية - الهيراتيكية - الديموطيقية - القبطي) فكتب منشورا يحث فيه الأقباط علي التبرع لبناء معهد علمي لتعليم اللغة القبطية،وذكر في هذا المنشور الجهود التي بذلها العلماء الأجانب وعقد مقارنة بين اهتمام الأجانب وإتقانهم لها وبين عدم قدرة الأقباط علي فهمها، كما كان البابا كيرلس يزيد من مرتبات الكهنة الذين يتقنون الصلاة باللغة القبطية، ولقد ظهرت مشكلة كبري في عهده إذ تعددت اللهجات التي يصلي بها الكهنة مما أدي إلي حدوث نوع من البلبلة في الشعب،فكلف البابا كيرلس الرابع المعلم عريان أفندي جرجس مفتاح مدرس اللغة القبطية بتدارك هذا الأمر،فأستعان بمدرس اللغة اليونانية بمدرسة العبيدية في ضبط النطق بالرجوع إلي أصولها اليونانية،ثم بدأ بعد ذلك في تدريس اللغة القبطية بمدرسة الأقباط علي نمط اللغات الأوروبية الحديثة . أما عن مظاهر محبته الشديدة للوطن، فلقد تجلت عندما ألغي الخديو سعيد باشا الجزية المفروضة علي الأقباط وكان ذلك في عام 1855 م، حيث أشاع البعض أن البابا كيرلس الرابع طلب من الخديو إعفاء الأقباط من دخول الجيش، وعندما سمع البابا كيرلس الرابع بهذه الشائعة انزعج جدا، حتي انه أصدر بيانا مكتوبا قال فيه (يقول البعض اني طلبت من طلبت من الباشا أن يعفي أولادنا الأقباط من الخدمة العسكرية، وحاشا لله أن أكون جبانا بهذا المقدار لا أعرف للوطنية قيمة أو أن أفتري علي أعز أبناء الوطن بتجردهم من محبة أوطانهم وعدم الميل لخدمته حق الخدمة والمدافعة عنه،فليس هذا ما طلبته ولا ما سوف أطلبه). الجدير بالذكر أن الجمعيات الأهلية القبطية احتفلت به في عام 1912م بمرور خمسين سنة علي رحيله (وذلك بدلاً من الاحتفال به سنة 1911م، حيث تأخر الاحتفال بسبب ذكري وفاة بطرس باشا غالي الذي كان قد أُغتيل سنة 1910م وحلت ذكراه السنوية سنة 1911م)، وفي عام 1961م احتفلت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في عهد البابا كيرلس السادس (1959- 1971م) بمرور مائة عام علي رحيله بحضور كمال الدين حسين وزير التربية والتعليم آنذاك.