احترت كثيرا من الحدس، الذي يصل لليقين، والتجلي العبقري الذي ملأ وجدان قامة، مثل عميد الأدب الغربي، طه حسين! ومن أين جاءت هذه الطاقة الثورية المتمردة؟ وما كل هذا الاستشراف الذي حدد بوصلته في اتجاه التنوير، وهو فاقد لبصره؟ لقد تردد انه في بعض الأحيان، كان يتعرف علي لون الملابس التي كان يرتديها محدثه..!، لذلك قد يفسر، أن صاحب صيحة التعليم كالماء والهواء، نراه في اول هدية اهداها للسيدة سوزان قبل زواجه منها، كانت لوحة العذراء، تلك التي يضمها متحفه رامتان بالقرب من الهرم، فقد كان صوت سوزان وهي تقرأ مقطعاً من شعر راسين، سببا ان تلج قلبه، بعد سماعها، انها البصيرة التي يفتقدها بعض المبصرين، ويمتلكها اصحاب الرؤي، فقد لقب بمارتن لوثر الشرق ورينان مصر الضرير، وبالتأكيد لا جائزة الدولة التقديرية في الأدب العربي أو قلادة النيل الكبري، التي حصل عليها1965، هي التي منحته تلك المكانة في الضمير الجمعي المصري والعالم، لكن عزمه علي الاجابة علي سؤال التقدم. من رحم الصعيد الجواني خرج طه حسين إلي المعارك الحياتية والأدبية فعلي بعد كيلو واحد من مدينة مغاغة محافظة المنيا ولد طه حسين في الرابع عشر من نوفمبر عام 1889م، كان والده حسين علي موظفاً بشركة السكر وله ثلاثة عشر ابناً هو سابعهم في الترتيب حيث أصابه رمدا فعالجه الحلاق علاجاً ذهب بعينيه. وكانت هذه العاهة هي السبب في الكشف مبكرا عن ملكات طه حسين، فقد استطاع تكوين صورة حية في مخيلته عن كل فرد من أفراد عائلته اعتمادا علي حركة وصوت كل منهم، بل كانت السبب المباشر في الكشف عن عزيمته بعد أن قرر التغلب علي عاهته بإطلاق العنان لخياله إلي آفاق بعيدة. كان سياج القصب الذي يحيط بمنزل طه بقريته هو دليله إلي الشارع، فعندما تغرب الشمس وتغشي الناس فيتمسك بهذا السياج وكأنه بوصلته التي تحدد اتجاهه في الوقت الذي يتأمل مغرقاً في التفكير حتي يرده إلي ما حوله صوت الشاعر قد جلس علي مسافة من شماله والتف حوله الناس وأخذ ينشده في نغمة غريبة أخبار أبي زيد الهلالي وخليفة ودياب. استمد طه حسين نور خياله من تلك الأوهام التي استبدت به وهو صغير فكان إذا اختلي إلي نفسه في مرقده بالحجرة الصغيرة لا يلبث أن يستيقظ والناس نيام من حوله وإخوته يغطون في نوم عميق، فيلقي اللحاف علي وجهه في خيفة وتردد لأنه كان يكره أن ينام مكشوف الوجه اعتقاداً أن من يخرج أحد أطرافه من اللحاف لابد من أن يعبث به عفريت من العفاريت الكثيرة التي كانت تعمر أغلب البيت وتملأ أرجاءه ونواحيه والتي كانت تهبط تحت الأرض مع إضاءة الشمس وكم من ليالٍ طوال قضاها طه متيقظاً بسبب أصوات صياح الديكة ونباح الكلاب وتلك الأهوال ومشاعر الرعب و الخوف من العفاريت، للدرجة التي لا تجعله يستطيع النوم إلا إذا وصل إلي سمعه أصوات النساء يعدن إلي بيوتهن وقد ملأن جرارهن من القناة وهن يتغنين، الله يا ليل الله...ليعرف أنه قد بزغ الفجر وهبطت العفاريت إلي مستقرها من الأرض السفلي، فاستحال هو عفريتا وأخذ يتحدث إلي نفسه بصوت عالٍ ويتغني بما حفظ من نشيد الشاعر ويتولي إيقاظ إخوته واحداً تلو الآخر الاتجاه للشمال وإذا كان طه حسين قد أتم حفظ القرآن الكريم في العاشرة من عمره فإنه قد اتجه إلي الشمال بعد ذلك بأربع سنوات حيث بدأت رحلته الكبري عندما غادر المنيا متوجها إلي الأزهر طلباً للعلم. في عام 1908 بدأ يضيق بمحاضرات معظم شيوخ الأزهر فاقتصر علي حضور بعضها فقط مثل درس الشيخ بخيت ودروس الأدب. وفي العام ذاته أنشئت الجامعة المصرية، فالتحق بها طه حسين وسمع دروس احمد زكي باشا في الحضارة الإسلامية وأحمد كمال باشا في الحضارة المصرية القديمة ودروس الجغرافيا والتاريخ واللغات السامية والفلك والأدب والفلسفة ثم أعد طه حسين رسالته للدكتوراه التي نوقشت في عام 1914م وكانت عن ذكري أبي العلاء وكانت أول كتاب قدم الي الجامعة وأول رسالة دكتوراه منحتها الجامعة المصرية. وقد أحدث نشر هذه الرسالة في كتاب ضجة هائلة ومواقف متعارضة وصلت الي حد طلب أحد نواب البرلمان حرمان طه حسين من حقوق الجامعيين "لأنه ألف كتابا فيه إلحاد وكفر"! ولكن سعد زغلول اقنع النائب بالعدول عن مطالبه. وفي نفس العام سافر طه حسين إلي فرنسا ضمن بعثة من الجامعة المصرية والتحق هناك بجامعة مونبلييه ودرس اللغة الفرنسية وعلم النفس والأدب والتاريخ. في باريس التحق بكلية الآداب بجامعة باريس وتلقي دروسه في التاريخ ثم في الاجتماع وقد أعد رسالة علي يد عالم الاجتماع الشهير "إميل دوركايم" عن موضوع "الفلسفة الاجتماعية عند ابن خلدون" وأكملها مع "بوجليه" بعد وفاة دوركايم وناقشها وحصل بها علي درجة الدكتوراه في عام 1919م ثم حصل علي دبلوم الدراسات العليا في اللغة اللاتينية. خطف صوت الطالبة سوزان قلب وعقل طه حسين وهي تقرأ مقطعاً من شعر راسين عندها أحب نغمات صوتها وعشق طريقة إلقائها وتعلق قلبه بها وتكلل هذا الإعجاب بالزواج في 9 أغسطس 1917، وعادت معه السيدة سوزان إلي مصر عام 1919 ...عاد طه حسين إلي مصر فعين أستاذا للتاريخ اليوناني والروماني واستمر كذلك حتي عام 1925 حيث تحولت الجامعة المصرية في ذلك العام إلي جامعة حكومية وعين طه حسين أستاذا لتاريخ الأدب العربي بكلية الآداب. معارك التنوير وقد بدأت معركة طه حسين الكبري من اجل التنوير واحترام العقل في عام 1926 عندما أصدر كتابه "في الشعر الجاهلي" الذي أحدث ضجة كبيرة ورفعت دعوي قضائية ضد طه حسين فأمرت النيابة بسحب الكتاب من منافذ البيع وأوقفت توزيعه، فيما حمل عام 1928 تفجير ضجة ثانية بتعيينه عميداً لكلية الآداب، الأمر الذي أثار أزمة سياسية انتهت بالاتفاق مع طه حسين علي الاستقالة فاشترط أن يعين أولا وبالفعل عين ليوم واحد ثم قدم الاستقالة في المساء. ثم اختارت الكلية طه حسين عميداً لها عام 1930 مع انتهاء عمادة ميشو الفرنسي. واجهة طه حسين أزمة كبري عام 1932 حيث كانت الحكومة ترغب في منح الدكتوراه الفخرية من كلية الآداب لبعض السياسيين فرفض حفاظاً علي مكانة الدرجة العلمية، مما اضطر الحكومة إلي اللجوء لكلية الحقوق. تعرض طه حسين إلي النفي والإبعاد الداخلي عندما رفض العمل بديوان الوزارة التي نقل إليها فعوقب بالإحالة إلي التعاقد في 29 مارس 1932 عندما تدخل رئيس الوزراء لكنه لم يستسلم وتابع الحملة في الصحف والجامعة كما رفض تسوية الأزمة إلا بعد إعادته الي عمله ومارس الكتابة في بعض الصحف إلي أن اشتري امتياز جريدة "الوادي" وتولي الإشراف علي تحريرها، وانتهي به المطاف بأن عاد الي الجامعة في نهاية عام 1934 وبعدها بعامين تقلد عمادة كلية الآداب واستمر حتي عام 1939 عندما انتدب مراقباً للثقافة في وزارة المعارف. رجال أثروا في العميد وقد تسلم حزب الوفد الحكم في فبراير 1942 فواجه طه حسين تغيرا آخر في حياته الوظيفية حتي انتدبه نجيب الهلالي وزير المعارف مستشاراً فنياً له ثم مديراً لجامعة الإسكندرية بينما في عام 1950 عين لأول مرة وزيراً للمعارف في الحكومة الوفدية التي استمرت حتي 1952وتحديدا يوم إحراق القاهرة، حيث تم حل الحكومة. ثم انصرف حتي وفاته عام 1973 الي الإنتاج الفكري والنشاط العلمي في العديد من المجامع العلمية التي كان عضواً بها داخل مصر وخارجها. تأثر طه حسين في بداية حياته الفكرية بثلاثة من المفكرين المصريين هم الإمام محمد عبده والأستاذ قاسم أمين، والأستاذ أحمد لطفي السيد، فأستاذه محمد عبده له السبق في دعوته لإصلاح الأزهر، أما قاسم أمين فله الفضل في قضية تحرير المرأة والإيمان بها كطاقة اجتماعية فعالة، بينما كان فضل أحمد لطفي السيد علي طه حسين في دعوته لاستخدام العقل عند التصدي للقضايا الاجتماعية والسياسية. كان فكر طه حسين يجسد مزيجاٍ قوياً لحضارتين متصارعتين، مختلفتين متغايرتين "حضارة الشرق" و"حضارة الغرب"، وعصارة من جامعتين مختلفتين: الأزهر الشريف وجامعة باريس، فهو المفكر والأديب الذي تناول قضايا العلاقة بين الأصالة والمعاصرة، وبين الموروث والمستحدث إلي قضايا التنازع بين قيود النقل وحرية العقل، والعلاقة بين الشرق والغرب، ونشر التعليم والقضاء علي الأمية، إلي جانب قضايا التجديد في الأدب والفكر. ثراء إبداعي وما زال التراث الذي خلفه هذا العملاق أحد أهم مصادر الاستنارة في عالمنا الفكري والأدبي والثقافي فقد ترك لنا إرثاً غنياً يزيد علي الخمسين مؤلفاً في النقد الأدبي، والقصة وفلسفة التربية والتاريخ بالإضافة إلي كم كبير من الترجمات. فقد شغلت الترجمة طه حسين في جميع مراحل حياته، فقدم قبل البعثة في 1914، بالاشتراك مع محمود رمضان، كتاب «الواجب» لجول سيمون في جزأين. ومنذ عودته من البعثة الفرنسية في 1919 قدم طه حسين العديد من الأعمال المترجمة «نظام الاثينيين» لأرسطو طاليس، و«روح التربية» لجوستاف لوبون في 1921، ثم «قصص تمثيلية» لفرنسوا دي كوريل وآخرين في 1924 . رؤية جديدة لمختلف أنواع الآداب العربية، تناولها عميد الأدب العربي في كتابه «الحياة الأدبية في جزيرة العرب» وهو الكتاب المعروف «بألوان» والذي يضم دراسات تعمق العديد من ألوان الأدب علي تباعد العصور وتباين الأجيال. وقدم مجموعة رسائل ومقالات «من بعيد» كتبها عن الحياة في باريس وعن شخصية سارة برنار وعن حياة البحر والسفر. وقدم «أوديب ملكا» وفي عام 1938 قدم رواية «الحب الضائع» بطلة قصته هي مادلين موريل وقد اختار لها أرض فرنسا خلال أحداث الحرب العالمية الأولي. ومن أشهر كتبه كتاب «مستقبل الثقافة في مصر» وفيه يضع الخطوط العريضة لرؤيته للإصلاح التربوي. وفي عام 1942 كتب رواية «دعاء الكروان» والتي تجسد معاناة فتاة ريفية أغواها شاب من أهل المدينة فلم تحسن الدفاع عن نفسها من شر غوايته فكتب عليها الموت خلاصا من العار.