للمرة الثانية خلال شهر واحد أجدني مسوقا للحديث عن وليد عوني ونشاطه الراقص وإبداعاته المتتالية في هذا المجال وذلك عقب مشاهدتي لعرض فرقة الفرسان التي أنشأها ودربها منذ عامين لتقدم أخر الأمر عرضا يصور تطور القاهرة الفاطمية منذ نشأتها الأولي وعلي مدار خمسين عاما من خلال لوحات راقصة متتالية تشرح كل لوحة منها مرحلة من مراحل هذه القاهرة ذات السحر الخاص العابق وذات التأثير المدهش .. سواء في أجوائها أو في بنيانها أو في رصد هذا التيار الدافئ الذي يجري في عروقها والذي ينتقل بسرعة البرق إلي كل من وضع قدمه علي أرضها المنقوشة بالحب والجمال والانتماء إلي عالم سحري قوامه الدعاء والبخور والأجساد المتمايلة نشوة في حب الله . فكرة انشاء هذه الفرقة وتحديدا هدفها، جاءت من قبل وزير الثقافة الأسبق فاروق حسني الذي أراد من المصمم الموهوب .. أن يقدم عرضا مشابها للعرض التركي «نيران الأناضول» الذي حقق نجاحا فنيا وجماهيريا كبيرا عند عرضه علي مسارح الأوبرا كما دعا إدارتها إلي استضافته أكثر من مرة وفي كل مرة كان يزداد عدد الجمهور القادم لرؤيته ونسبة النجاح التي يحققها. نيران الأناضول كما نعرف «نيران الأناضول» عرض يروي تاريخ تركيا القديم والحديث من خلال لوحات غنائية وراقصة مستلهمة من التراث الديني والشعبي للمدينة يقدمها العرض بأسلوب تختلط فيه الإضاءة مع الديكور ومع أجساد الراقصين المرنة التي تتحول في لحظة إلي رمز وأيقونة ومنارة عالية من التأثير والإيحاء. هذا الهدف هو ما سعي أيضا إلي تحقيقه وليد عوني في عرضه الجديد.. مكتفيا فقط باقتباس الفكرة تاركا لخياله بعد ذلك أن يجمح إلي أقصي حدوده ورؤاه مستغلا معرفته بتاريخ القاهرة الفاطمية وولعه بموسيقي التراث ومحاولته دمج ذلك بآليات الرقص الحديث وإمكانياته الهائلة وقدرة الجسد علي التعبير عن أقصي ما يمكن للخيال أن يطرحه. شباب متحمس كون وليد عوني فرقة الفرسان التي تقدم العرض بعد اختياره لمجموعة تضم خمسين فتاة وفتي انتقاهم من بين ألوف من الشباب المتحمس الذي تقدم للحصول علي فرصة تتيح له إظهار إمكانياته وخلال سنتين وبعض السنة دأب وليد عوني علي تدريب هذه الفرقة المنتقاه تدريبا شاقا مستعينا إلي جانب هؤلاء الهواة الموهوبين بمجموعة صغيرة من فرقته الراقصة ومن بعض الراقصين المحترفين في فرق خاصة أخري حريصا كل الحرص علي أن يحقق التناغم المطلوب بين هذه العناصر المختلفة لتتجمع كلها في «أتون» واحد ينطلق منه البخور السحري مختلطا بالأدعية الدينية وبالوجد الصوفي والحنين إلي الذات الألهية التي تجمع ولا تفرق كل ذلك من «كادر» المدينة القديمة بسحرها وغموضها وكل ما يكتنف جوها من غموض آسر وسحر وجداني حقيقي. إذن كان هذا هو الدرب الطويل الذي قطعه وليد عوني في سبيل تأسيس فرقة الفرسان وتقديمها لعرضها الأول.. فماذا كانت النتيجة؟ هذه النتيجة التي رأيناها تنطلق كالمارد الخارج من قمقمه علي خشبة مسرح الجمهورية، بادئ الأمر اعتمد عوني علي حديث الإمام المقريزي الذي جسده الممثل «طارق راغب» ليروي لنا كيف ولد الشارع الأعظم وكيف بنيت القاهرة الفاطمية في عهد جوهر الصقلي مستعرضا بعد ذلك كل الفترات التاريخية التي أعقبت ذلك انطلاقا من المعز لدين الله وصولا إلي شجرة الدر.. مرورا بالأحداث والشخصيات المهمة التي لعبت دورا في تأسيس الشارع الأعظم ومن خلاله تدوين التاريخ الاجتماعي والسياسي والعسكري لمصر كلها من خلال شارع واحد.. تجسدت فيه ومن خلاله جميع التيارات وشتي المذاهب . رؤية المقريزي واحتراما منه لرؤية المقريزي لم يحاول وليد عوني أن يرسم خطا دراميا حقيقيا للعرض واكتفي بأن يقدم رؤية الإمام المقريزي.. من خلال لوحات مبهرة تقطع الأنفاس بجمالها ورونقها وتأثيرها.. ولا يمكنني أن أعدد هذه اللوحات المتتالية المؤثرة والتي يبرز فيها علي وجه الخصوص لوحة الحمل والطقوس الصوفية الدينية.. ولوحة المارستان وشقاء المرضي عن طريق الموسيقي والإيقاع ولوحة النساء الوحيدات في ثيابهن البيضاء وحجابهن الكامل. أو لوحات المعارك بين الفرسان وتصويرها، شجرة الدر من خلال لوحة درامية راقصة لا يمكن نسيانها أو إغفالها. وليد عوني يقدم لنا تاريخ مصر الإسلامي بأسلوبه وحساسيته ونظرته الفنية البارعة.. مستغلا مواهبه في تصميم الأزياء المدهش والاكتفاء بديكورات شديدة التعبير رغم بساطتها وبإضاءة حاذقة تلعب دورا دراميا مهما في تشكيل اللوحات وتتابعها. عمل عملاق يدفعك إلي الغوص في تاريخ مصر الإسلامي من خلال نظرة واثقة واعية تحمل دروسا كثيرة ومواعظ لا حد لها من خلال جماليات يندر أن يحققها مسرحنا المعاصر اليوم. الموسيقي التي اعتمد عليها «عوني» في عرض موسيقي مستمدة من بلاد مختلفة من موريتانيا وإيران وتركيا وكردستان إلي جانب إيقاعات افريقية بدائية وأناشيد صوفية تخترق أعماق القلب من منشدين من حلب. طبق الذهب الإيقاع الموسيقي الذي يصاحب العرض لا يقل نشوة وتأثيراً عن حركات الراقصين المدهشة التي نجح وليد عوني أن يجعل من هؤلاء الشباب الهواة الذين اختارهم .. نجوما حقيقيين من خلال إعداد تدريبي شاق استمر ما يفوق العامين وبعض العام. هذا العرض الذي يقدم لنا «الحلم» علي طبق من ذهب ويروي لنا «التاريخ» بأسلوب لا يمكن مقارنته بأي أسلوب آخر. ورغم أن هدف تأسيس فرقة الفرسان هو إيجاد معادل مصري لفرقة «نيران الأناضول» التركية أو فرقة كاراكلا اللبنانية، فإن وليد عوني نجح في أن ينطلق من الفكرة التي تحمس لها وزير الثقافة الأسبق .. ليخلق عالما خاصا به وحده «عالم وليد عوني» بكل ما يحمله من شارات ورموز وطقوس وإيحاءات فحقق بذلك تعادلا فنيا مصريا مرموقا عوضا عن أن يكون مجرد تكرار مصري لتجربة تركية أو لبنانية. « الشارع الأعظم» سيمفونية فكرية وفنية راقصة ومسموعة تجمعت بها كل مفردات الفن الحديث من أزياء وديكور ورقصات من خلال خلفية فكرية مدعمة بالتاريخ والإحساس الوطني الصادق. علي فاروق حسني أن يفخر بتحقيق مشروعه الحلم .. وعلي فننا الاستعراضي الراقص أن يفخر بالوصول إلي هذه النتيجة البارعة النشوانة. فراغا مسرحيا ولكن اعتراضا واحدا يطرح نفسه بقوة إزاء هذا العمل المتكامل هو أنه بحاجة إلي مساحة أوسع بكثير من مسرح الجمهورية الذي ضمه .. وعلي وزارة الثقافة أن تقدم له فراغا مسرحيا أثريا كقصر طاز مثلا أو محكي القلعة لكي ينشر فيها اعلامه وسيارته وصرخاته النشوانة، وعليها أن تحمل هذا العرض علي كتفيها لتدور بين أرجاء العالم العربي والأوروبي سفيرا حقيقيا لفن مصري متكامل يضع رأسنا بين السحاب ويرفع راية الفن المصري الحقيقي.. راية تخفق عاليا بين رايات الفنون كلها. كأس مترعة من النشوة قدمها لنا وليد عوني وراقصوه وفنانوه وموسيقيوه شربناها حتي الثمالة .. فحولت الدنيا في نظرتنا إلي قوس قزح ملون واطلقت أمامنا عشرات الحمائم البيضاء، ترفعنا بأجنحتها إلي مراتب عليا من سحاب معطر تحول كل ما نراه من قبح في حياتنا إلي جمال باهر مشع. نحن تجاه هذا العطاء المبهر.. لا نملك إلا أن نلقي بمئات من الورد الأحمر تحت أقدام هؤلاء «الفرسان» الذين استطاعوا بضربات أقدامهم أن يحولوا الكابوس الذي نعيش فيه إلي جنة رضوان.