أسعار الخضراوات اليوم 27 أبريل في سوق العبور    30 دقيقة تأخر في حركة القطارات على خط «القاهرة - الإسكندرية».. السبت 27 أبريل    8 شهداء وعشرات الجرحى في قصف إسرائيلي على النصيرات وسط غزة    إسبانيا تعلن إرسال صواريخ باتريوت ومركبات مدرعة ودبابات "ليوبارد" إلى كييف    كندا تخصص أكثر من مليوني دولار لصناعة المسيرات الأوكرانية    بعد قليل.. الحكم في اتهام مرتضى منصور بسب عمرو أديب    اليوم.. الجنايات تنظر محاكمة متهمي "خليه المرج"    دينا فؤاد: أنا مش تحت أمر المخرج.. ومش هقدر أعمل أكتر مما يخدم الدراما بدون فجاجة    ميار الببلاوي تبكي متأثرة من هجوم أزهري عليها: خاض في عرضي    إشادة دولية بتجربة مصر في مجال التغطية الصحية الشاملة    الرئيس العراقي يدين الهجوم على حقل كورمور للغاز ويدعو إلى اتخاذ إجراءات وقائية    استقرار أسعار الذهب في بداية التعاملات يوم السبت 27 أبريل 2024    بعد ارتفاعها.. أسعار الدواجن اليوم 27 أبريل| كرتونة البيض في مأزق    محمد جبران رئيسا للمجلس المركزي للاتحاد الدولي لنقابات العمال العرب    "كنت ببعتله تحياتي".. كولر يكشف سر الورقة التي أعطاها ل رامي ربيعة أثناء مباراة مازيمبي    حكم الشرع في الإسراع أثناء أداء الصلاة.. دار الإفتاء تجيب    الجيش الأمريكي: جماعة الحوثي أطلقت صواريخ على سفينتين في البحر الأحمر    4 أيام متواصلة.. تعرف على عطلة شم النسيم وعيد العمال والإجازات الرسمية حتى نهاية 2024    بالطيران المسير.. المقاومة الإسلامية في العراق تضرب هدفا حيويا في إسرائيل    للحماية من حرارة الصيف.. 5 نصائح مهمة من وزارة الصحة    تحذير دولي من خطورة الإصابة بالملاريا.. بلغت أعلى مستوياتها    د. محمد كمال الجيزاوى يكتب: الطلاب الوافدون وأبناؤنا فى الخارج    "اتهاجمت أكثر مما أخفى الكرات ضد الزمالك".. خالد بيبو يرد على الانتقادات    د. هشام عبدالحكم يكتب: جامعة وصحة ومحليات    نتيجة انتخابات نادي القضاة بالمنيا.. عبد الجابر رئيسًا    «المركزية الأمريكية»: الحوثيون أطلقوا 3 صواريخ باليستية على سفينتين في البحر الأحمر    لدورة جديدة.. فوز الدكتور أحمد فاضل نقيبًا لأطباء الأسنان بكفر الشيخ    قبل مواجهة دريمز.. إداراة الزمالك تطمئن على اللاعبين في غانا    3 وظائف شاغرة.. القومي للمرأة يعلن عن فرص عمل جديدة    الدكتور أحمد نبيل نقيبا لأطباء الأسنان ببني سويف    والد ضحية شبرا يروي تفاصيل مرعبة عن الج ريمة البشعة    بعد حادث طفل شبرا الخيمة.. ما الفرق بين الدارك ويب والديب ويب؟    2.4 مليار دولار.. صندوق النقد الدولي: شرائح قرض مصر في هذه المواعيد    أستاذ علاقات دولية: الجهد المصري خلق مساحة مشتركة بين حماس وإسرائيل.. فيديو    دينا فؤاد: الفنان نور الشريف تابعني كمذيعة على "الحرة" وقال "وشها حلو"    عمل نفتخر به.. حسن الرداد يكشف تفاصيل مسلسل «محارب»    حضور جماهيري كامل العدد فى أولي أيام مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير .. صور    حدث بالفن|شريهان تعتذر لبدرية طلبة وفنان يتخلى عن تشجيع النادي الأهلي لهذا السبب    محمد هلب: السيارات الكهربائية بمثابة مشروع قومى لمصر    شعبة البن تفجر مفاجأة مدوية عن أسعاره المثيرة للجدل    عاد لينتقم، خالد بيبو: أنا جامد يا كابتن سيد واحنا بنكسب في الملعب مش بنخبي كور    وزير الرياضة يُهنئ الأهلي لصعوده لنهائي دوري أبطال أفريقيا للمرة ال17 في تاريخه    تنفع غدا أو عشا .. طريقة عمل كفتة البطاطس    الأمن العام يضبط المتهم بقتل مزارع في أسيوط    تحرير 17 ألف مخالفة مرورية متنوعة على الطرق السريعة خلال 24 ساعة    عاصفة ترابية وأمطار رعدية.. بيان مهم بشأن الطقس اليوم السبت: «توخوا الحذر»    وسام أبو علي يدخل تاريخ الأهلي الأفريقي في ليلة التأهل للنهائي    أرقام مميزة للأهلي بعد تأهله لنهائي دوري أبطال أفريقيا    الترجي يحجز المقعد الأخير من أفريقيا.. الفرق المتأهلة إلى كأس العالم للأندية 2025    حريق يلتهم شقة بالإسكندرية وإصابة سكانها بحالة اختناق (صور)    تهاني شم النسيم 2024: إبداع في التعبير عن المحبة والفرح    قلاش عن ورقة الدكتور غنيم: خلاصة فكره وحرية الرأي والتعبير هي درة العقد    حظك اليوم برج العقرب السبت 27-4-2024 على الصعيدين المهني والعاطفي    أعراض وعلامات ارتجاج المخ، ومتى يجب زيارة الطبيب؟    "ذكرها صراحة أكثر من 30 مرة".. المفتي يتحدث عن تشريف مصر في القرآن (فيديو)    «أرض الفيروز» تستقبل قافلة دعوية مشتركة من «الأزهر والأوقاف والإفتاء»    تعرف على فضل أدعية السفر في حياة المسلم    تعرف على فوائد أدعية الرزق في حياة المسلم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



هو وهى
محمود سعيد‏..‏ و‏..‏ذات العيون العسلية
نشر في الأهرام اليومي يوم 08 - 05 - 2010

عندنا في الأهرام بنت البلد ذات العيون العسلية أهم وأروع وأشهر لوحة رسمها في حياته الفنان محمود سعيد الذي بيعت إحدي لوحاته هذا الأسبوع في مزاد دار كريستي بدبي بمبلغ‏1.4‏ مليون دولار محققا بذلك أعلي سعر لوحة لفنان مصري‏..‏ لوحة الأهرام اقتناها لمبناه الجديد في أواخر الستينيات ذواقة الفن الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل ضمن باقة من أهم أعمال الفنانين التشكيليين الكبار‏..‏ و‏..‏ظلت اللوحة تزين عقودا من السنين مدخل كافيتريا الدور الثاني عشر الأنيقة التي ارتادها ملوك ورؤساء وعظماء العالم‏,‏ وكانت إلي جوارها في المشهد المجيد رفيقة دربها سجادة غناء من أعمال الفنان رمسيس ويصا واصف‏..‏ و‏..‏فجأة ونحن نحتفل بقدوم الرئيس مبارك لافتتاح مطابع الأهرام الجديدة بمدينة السادس من أكتوبر في‏26‏ نوفمبر‏2006‏ كان الممر المؤدي إلي القاعة التي سنجلس فيها للاستماع لكلمة الرئيس علي جانبيه صور فوتوغرافية بمناسبة مرور‏130‏ عاما علي الأهرام تحكي تاريخ الأهرام ومطابعه ورجالاته الراحلين أمثال بشارة تكلا‏,‏ وأحمد الصاوي محمد‏,‏ وهشام توفيق بحري‏,‏ وكمال الملاخ‏..‏ الخ‏..‏ ووقفت جانبا بجوار الكاتب الكبير أنيس منصور مع مجموعة من الزملاء في انتظار قدوم الرئيس‏..‏ و‏..‏وجدتها فوق رأسي‏..‏ اللوحة المنتقاة‏..‏ بنت البلد ذات العيون العسلية لمحمود سعيد التي تعد في شرقنا في منزلة جيوكندا دافنشي عند الغرب‏,‏ فأبديت إعجابي بها مرددة عظمة قدرها كعادتي عندما ألقاها فأجابني الأستاذ أنيس المثقف الكبير الساخر دوما من جهل دوائر المحيطين‏:‏ إيه يعني حتة خدامة‏!!..‏ وصعدت في الشهر الماضي إلي اجتماع في حجرة الأستاذ الدكتور عبدالمنعم سعيد رئيس مجلس إدارة الأهرام لأستشعر بأن عيونا تدغدغني من الخلف‏,‏ فاستدرت لأجدها خلفي علي حائط الركن‏..‏ بنت البلد أم عيون عسلية وقمطة الرأس السوداء الشيفون الكاسية الحاسرة‏,‏ ولم أستطع مسك لساني الفالت عن قولي‏:‏ علي فكرة اللوحة دي قدرها كبير قوي قوي وثمنها بلغ الآن الملايين‏..‏ وعلمت أن من وافق علي نقلها من مستقرها الجماهيري إلي موقع النخبة الحالي في المكتب الرئاسي كان الأستاذ مرسي عطاالله رئيس مجلس الإدارة السابق‏..‏ وإذا ما كان الأهرام رائدا في مقتنياته من الأعمال الفنية المتنقلة فهذا أمر محمود لتاريخه كفنارة فنية عائمة علي سطح من محيط انهيار الذوق الفني في مصر عامة بعدما أصبحت الضفادع القاعدة علي قرافيصها تحيط وحدها بنافوراتنا وواجهات أبراجنا‏,‏ والزلع الفخار بمظهرها المنبعج وكسائها اللميع المزري تحتل أهم ميادين محافظاتنا في عموم القطر المصري‏,‏ حتي شرم الشيخ عروس المحافظات لم تسلم هي الأخري من هوجة الزلع المكتسحة فتجدها تعترض ناظريك علي طول الطريق الحريري أينما تحاول الفرار من قبحها‏,‏ فإذا ما اقتربت من بلوغ أي ميدان بأمل اختفائها ستجدها في انتظارك في نقطة المنتصف‏..‏ ليس زلعة واحدة وإنما ثلاث أو أربع كل واحدة منها فاتحة بقها ومطلعة لسانها لناصية مختلفة مما يجعلني أتساءل عن سر العلاقة ما بين النظرة الحديثة المتعنتة للتماثيل‏,‏ وبين إجازة فنون الزلع‏!!‏
وإن ننسي فلن ننسي كارثة قيشاني الحمامات التي تتكرر الآن في كسوة الأنفاق والكباري الذي امتد يوما علي جانبي أحواض النباتات بطول رصيف منتصف شارع الهرم حتي أهرامات الخالدين خوفو وخفرع ومنقرع‏,‏ وأيضا تلك النخلات البلاستيك بعناقيد أنوارها اللي بتولع وتطفي كما زينة الموالد الشعبية الممتدة علي جانبي الطريق ليسأل الفنان الألماني المصاحب بلهجة مستنكرة‏:‏ كيف تقولون إنكم بلد زراعي وشمسكم ساطعة بينما لا أري سوي النخل البلاستيك ولمبات الكريسماس؟‏!..‏ وتظل الذاكرة محتفظة بمشهد أمام قوس النصر في باريس لمدرسة شابة تصحب معها طلبتها الصغار في الهواء الطلق في رحلة تشرح لهم فيها المعني والمغزي والشكل الجمالي للصرح التاريخي أمامهم‏,‏ مما جعلني أقارن برحلات تلاميذنا عما إذا كانت موجودة أم أنها تبخرت من المقرر هي الأخري مع حصة الرسم والألعاب الرياضية في مخطط تجفيف قشرة الدماغ الطفولية من أي رواسب جمالية عالقة قارنت رحلة طفولتهم الثقافية لقوس النصر برحلة عيالنا للمتحف المصري كمثال حيث ينقاد طابور المعيز لمسيرة الأبلوات المنشغلات عن آثار توت عنخ آمون وحورس ونفرتيتي ومينا موحد القطرين بحديث جانبي عن هموم البيت والأزواج واحتضان ست الناظرة لأبلة سنية أم إيد فارطة بتاعة الحساب‏,‏ بينما اهتمام النشء بحصر عدد ساندوتشات البيض والمفتقة المتبقية في كيس الرحلة الدمور‏,‏ وكيفية الإسراع قبل الجميع بمكان استراتيجي في الأوتوبيس للاشتراك في أوركسترا سالمة يا سلامة رحنا وجينا بالسلامة وتعالي أما أقولك أنا بلحاية وانت بلحاية ناكل لما نشبع والبذر لأمك‏!!‏
وحمدا لله أن وزير ثقافتنا فاروق حسني فنان ينحت الصخر أقام رغم عسر مسيرة الجلمود‏,‏ ومصدات التقدم‏,‏ وعوامل تعرية الثقافة‏,‏ وعداوة التراث‏,‏ وانحسار الذوق‏,‏ وسيول التخلف التي تكتسح في طريقها المدمر كل ما في النفوس من أمل‏..‏ أقام صروحا ومتاحف وعلامات علي الطريق في مجالات لا تعرف الفرق بين كارفور ودارفور‏,‏ ولا بين محمود سعيد وسعيد أبوبكر‏,‏ ولا بين تحية حليم وتحية كاريوكا‏..‏ مجالات توافق عن طيب خاطر علي عملية نزح التراث مادامت القرشينات في المقابل‏,‏ ورغم عتامة الرؤية فهناك ثقوب في الثوب الأسود في مصر وعند إخواننا من المثقفين العرب‏,‏ حيث لم يزل هناك من يعرف قيمة فنان مثل محمود سعيد ظهرت له مجموعة من أعماله في مزاد كريستي الأخير بدبي من مقتنيات المهندس الدكتور محمد سعيد فارس الأمين السابق لمدينة جدة عاشق الفن المصري الحديث الحاصل علي بكالوريوس الهندسة المعمارية وتخطيط المدن من جامعة الإسكندرية‏,‏ وقد رأيت بعيني أربعة أعمال لمحمود سعيد من مقتنيات المفكر الكبير الدكتور ثروت عكاشة في منزله بالمعادي أحدها لوحة ريفية خلف باب حجرة مكتبه يحتل فيها حمار محمود سعيد الأبيض التقليدي مكانته فيها‏,‏ وثلاث لوحات علي حائط الصالون اشتراها الدكتور عكاشة كما روي لي من معرض للفنان بالإسكندرية زمان بمبلغ أربعين جنيها فقط لاغير‏..‏ وياريت سفاراتنا في الخارج حريصة علي تجميل جدرانها بالفن المصري حرصها علي وجود الطباخ المصري المصاحب الخبير بالويكة والملوخية والفتة والبصارة‏,‏ بدلا من عدم الاستدلال علي مصريتها في زحمة اللوحات والتماثيل الهندية والصينية والباكستانية‏,‏ حيث تنعدم الهوية التي لا ينقذها سوي صورة الرئيس‏.‏
ونظرة عطف تمسح بلاوي كثيرة يعاني منها الفنانون التشكيليون المصريون الغلابة من انهيار الذوق العام‏,‏ وعدم احترام الفن حتي عند النخبة‏,‏ وقصور اهتمامنا في ميادين الفن علي الفنون المرئية والمسموعة رغم أن ما خلد الحضارات الصينية والهندية واليونانية والفرعونية ليس سوي الأعمال الفنية والوقوف المحبط في طابور الانتظار الطويل لعرض لوحاتهم في قاعات الدولة الرسمية التي لا تطلب مقابلا‏,‏ بينما نسبة البيع مجحفة في الجاليرهات الخاصة التي لم تشيد من الأصل لهذا الدور الثقافي الذي قامت فيه الشقق والبدرومات كلشنكان بما يوفي بالغرض‏,‏ وإذا لم تكن القاعات الخاصة قد أعدت من قبل لإقامة العروض التشكيلية فالرسمية بالمثل‏,‏ بمعني لا تعايرني ولا أعايرك فالهم طايلني وطايلك‏,‏ فالأخيرة غالبيتها ليست سوي قصور وفيلات تم الاستيلاء عليها من أصحابها في مأساة التأميم‏,‏ أما ما شيد منها للغرض النبيل من الأصل مثل قاعات الأوبرا فلا فضل لنا فيها وإنما يعود فضلها لليابان مشكورة التي أقامتها لنا كصدقة جارية‏..‏ وعموما سواء تم العرض رسميا أو بدروميا أو في شقة بالأسانسير في الخامس‏,‏ فالنهايات التشكيلية التشكيكية واحدة في جمع اللوحات التي عانت من الوحدة طوال أسبوع المعرض علي سطح عربة مغادرة لتخزينها من جديد خلف الأبواب وتحت السراير‏,‏ فليس كل فنان قد اقتني أعماله فارسا ولا كل موهبة مكتوبا علي جبينها بأحرف من نور قاعة كريستي‏..‏ وليست كل أسرة فنان تشكيلي لديها عزيمة أو إمكانات أسرة الفنان الراحل عبدالرحمن النشار لإقامة متحف خاص له‏,‏ وإن كان زائره المعني بمشاهدة أعماله لابد وأن يكون ذا بأس ومن عشاق البيداء والصحاري للوصول لمتحفه في تلك البقعة النائية من الطريق الصحراوي‏,‏ أو من زوار الصدفة الذين إذا ما لطشتهم الشمس ذهبوا يبحثون عن دروة للاستظلال‏..‏ هذا إذا ما أقامت الأسرة متحفا بعيدا للفنان‏,‏ أما إذا كان المتحف جزءا من البيت فحدث عن المآسي ولا حرج فقد تم السطو علي أنفس أعمال النحات القدير آدم حنين في عقر داره‏,‏ ووقع السقف علي إبداعات الخزاف الراحل درويش في معرض بيته‏,‏ وهاجر الخزاف محيي الدين حسين بيته ومتحفه في الهرم بعدما شبع بكاء علي أطلال ما بناه الذي أغرقته المياه‏,‏ وتمت جريمة قتل النحات عبدالبديع في مرسمه تحت السلم مع سبق الإصرار والترصد للمبدعين‏..!‏
وأذكرها‏..‏ لحظة أن تركنا مصمم الأزياء الفرنسي العالمي الشهير باكورابان وهرع إليها كمن مسه السحر‏,‏ غفل تماما عن موقعه في صدر مأدبة الغداء التي أقمناها تحية له في كافيتريا الدور الثاني عشر بمبني الأهرام الرئيسي عندما نزل ضيفا علي الأهرام تصحبه عارضاته ليقدم لنا أحدث خطوطه في حديقة قصر محمد علي بالمنيل‏..‏ النداهة التي استدعته لتستحوذ عليه في الحال كانت لوحة المصرية السمراء ذات العيون العسلية المطلة من الجدار داخل الإطار‏..‏ اللوحة الخالدة للفنان محمود سعيد التي رسمها عام‏1943‏ أنفس مقتنيات الأهرام الفنية في موقعها الأول قبل رحلاتها المكوكية الأهرامية فيما بعد‏..‏ وقف الفرنسي الملهم مدلها تتجول عيناه في ربوع اللوحة وهو ينقل علي الفور بقلمه الصغير في نوتة جيبه خطوطها بسرعة تكشف مدي الاختلاس أكثر من الاقتباس‏..‏ وكنت خلفه أنصت لتعبيره بصوته المشحون بالإعجاب والشعر‏:‏ رائعة‏Formidable‏ ما أجمل تلك الرأس الهرمية كأنها النحت‏..‏ الوجه الإخناتوني النبيل وجبهة النور‏..‏ الشفاة المكتنزة التي ترسم البسمة من لحظة الميلاد‏..‏ منديل الرأس الشفاف الذي يحدد ويبين ويصنع الظلال ويكشف خط الفارق والمنحني واستدارة الجمجمة‏..‏ وجنات الورد البارزة في انحدارها علي جانبي الأنف المستقيم لذقن الشموخ والإصرار‏..‏ العيون‏Formidable..‏ في حياتي لم أر لها مثيلا في لوحة أو بشر‏..‏ عيون تسمرك في مكانك‏..‏ عيون تسحبك لآخر المدي‏..‏ نظرة تأخذك للعميق‏..‏ لوادي السحر الشرقي‏..‏ تجردك من زيفك وتقرؤك كصفحة مفتوحة‏..‏ عيون تحمل إرث المباهج والمحن والحب والألم والحنان والانسجام والغرام والشجن‏..‏ عيون واعدة‏..‏ عيون تخرسك وتنطقك‏..‏ عيون تقول لك انت وحدك ولست وحدك‏..‏ عيون ترتب شعثك وتنثر رمادك‏.‏ عيون عابدة ولاهية‏..‏ عيون بحيرة الشمال ونهر الجنوب والنيل والسين والدانوب الأزرق وغابة الصنوبر الخضراء وصحاري المكسيك ورمال الكرنك‏..‏ عيون بها وما بها‏..‏ عيون لها وما لها‏..‏ عيون النمرة والقطة‏..‏ سهام في عيون سمراء الشرق تعزل شقراوات الغرب في سجون المنفي‏..‏ عيون هزمت نابليون وأسرت لويس التاسع عشر‏....‏ وينقل الفرنسي الفنان تصميم الثوب المصري بكل تفاصيله مسجلا لازوردية لونه الكاشف الفاضح للقميص المشمشي التحتي بلمعة الساتان الخصبة‏,‏ وحتي قطع الحلي لا ينسي باكورابان مكانها ولا شكلها حاسبا عدد الأساور السبع الذهبية اللاهية حول محيط الرسغ‏,‏ مدققا في الحجر الكريم الذي يتوسط الخاتم اللوزي في اليد الغضة‏,‏ وبعد الكثير من الرغي الفرنسي أتعرف علي نوعية الحجر من عندياته بأنه العقيق‏,‏ ويسألني عن سر اللون الأسود الذي يلف أرداف الغادة الدرية في أسفل اللوحة‏,‏ فأحكي له عن الملاية اللف التي كانت تلف بلولبية الجسد اللدن في الحارة المصرية لتحدد أبعاده دون كشف المستور‏..‏ وتمنيت لحظتها لو أصحبه بين بنات بلد لوحات محمود سعيد ليتجول بين بدائع الأنوثة المصرية في هالة خصوصيتها وخصوبتها وحيويتها عندما تختلف في جوهرها عن الأنوثة الأوروبية‏..‏ ليري المصرية القح حفيدة حتشبسوت وحميدة ونبوية وبهية الإسكندرانية‏..‏ ليري بنت بحري التي تجمع بين الصفاء الروحي والاشتعال الجسدي والمرح الباسم والحزن المقيم‏..‏ ليري كوكتيل الشرق في كأس نشوة تموج فيها المتناقضات والأضداد‏..‏ ليري في عمق ألوان سعيد إشارات من الأضواء الخافتة تضيء الشخصية من الداخل فتشع كالكلوب نورا ونارا‏,‏ كفتيل الزيت يرسل إشعاعه الراقص في محيطه المظلم فيداعب سطوح الأجسام بلمسات وهج تحققها لمسات الفرشاة العبقرية‏..‏ ليري ويري‏..‏ ويعود باكورابان من جديد للهتاف‏Formidable,‏ وابتسم في طريقنا للمائدة بأطباقها الباردة وضيوفها الذين جانبهم الصبر‏,‏ وأنا موقنة من أن حسناء محمود سعيد ستظل مستقرة في خلفية ذاكرة الفرنسي كمتلق ولهان لا تبرحها إلي الأبد‏,‏ وأن في الجعبة لابد من خطوط جديدة ستتربع فيها المصرية أم عيون عسلية وقمطة رأس من الشيفون الأسود الشفتشي علي عرش خطوط أزياء رابان للموسم القادم‏..‏ و‏..‏حصل‏..‏ مع لمساته المعدنية الشهير بها‏!‏
و‏..‏عندما تركت الفرنسي الذي سكنته حسناء محمود سعيد التي انزلقت الملاءة اللف من كتفيها لأردافها‏,‏ لم يتركني مبدعها فذهبت أفتش عن ابن الذوات الذي شرخت إحدي لوحاته لتكسر هذا الأسبوع حاجز المليون‏..‏ ابن الذوات الارستقراطي خال الملكة فريدة الابن البكر للباشا محمد سعيد رئيس وزراء مصر الذي ولد في‏8‏ أبريل‏1897‏ في قصر مجاور لمسجد أبي العباس بالإسكندرية‏,‏ والذي استطاع أن يبدع فنا مصريا لم يتقوقع في دائرة الفن الفرعوني المتخشب‏,‏ أو يكبل نفسه بزخرفات الفن الإسلامي المتكررة‏,‏ أو أن يجري علي وتيرة الفن القبطي الأيقوني الإطار‏,‏ بل لقد استطاع بعد استيعابه كل هذا التراث متأملا المدارس الفنية التي ظهرت علي شواطئ الغرب أن يعيد صياغة الكل في بوتقته الخاصة ليخرج بصياغة سعيدية مصرية شكلتها عين مصرية جديدة‏..‏ و‏..‏عندما أراد سعيد أن يعبر عن جوهر الشخصية المصرية الحقيقية بعيدا عن محيطه المخملي والجمال الارستقراطي المقيم من حوله المختلط ببلازما دماء أصلها أناضولي وشركسي واستمبولي وكريتي وقبرصي‏,‏ المصبوب في نماذج رسمها في لوحات للصالونات‏,‏ جميلتها تتعامل باتيكيت الفرنسية‏,‏ وتشرب شاي بعد الظهيرة في بهو لوي كانز ولوي سيز‏,‏ وتستمع لموسيقي فاجنر وشوبان‏,‏ وتمضي سهراتها في بنوار الأوبرا لسماع فردي وفاجنر ومشاهدة عايدة وبحيرة البجع‏..‏ عندما ابتغي محمود الأصالة ذهب يبحث عن الحسن الفطري عند بنت البلد لتعكس حسناء السبتية وباب الشعرية وزنقة الستات والأنفوشي في لوحاتهن أصداء ألف ليلة وليالي أنس الرشيد وذكاء شهرزاد‏,‏ وظلال البشرة القمحية الناضجة علي سخونة الشمس البحرية وفي آتون الأفران الشعبية‏..‏ جمال طازج يضيف ولا يأخذ‏,‏ يتفاعل ولا يخمد‏,‏ يحتوي ولا يطرد‏,‏ يرافق ويتفهم‏,‏ في داخله جمرة مشتعلة الدوام لا يهدأ لها قرار‏,‏ تطرد كل إحساس بالشيخوخة والوهن‏..Formidable..‏
أذهب إلي نسوة محمود سعيد أثرثر مع ذوات الأساور الذهبية وبنات بحري والراقصة والخادمة والناعمة النائمة فوق المخدة‏..‏ حدوتة مصرية في إطار الخلود‏..‏ ألتقي بوالدته التي ظل ملتصقا بها لحين وفاتها مرتبطا بدائرتها لا يغادرها حتي تتناول عشاءها وتغمض عينها‏..‏ تأسرني ابنته نادية حبه الكبير التي لم يرزق بغيرها‏,‏ وسجل مراحل نموها في سلسلة متتالية من اللوحات التي تظهر تطوره الفني‏.‏ رسمها طفلة وعروسا في ثوب زفافها تمسك بباقة الورد تجاورها حمامة بيضاء‏..‏ مشواره الفني بدأ مع المرأة الفنانة إيمليا كازوتانو دافرنو التي أخذت بيد الموهبة المبتدئة من‏1912‏ إلي عام‏1914,‏ حيث صحبته لدراسة الطبيعة واستلهام مظاهرها لتكوين اللوحة‏,‏ ومن عام‏1916‏ حتي‏1918‏ كانت دراسته علي يد أرتورو زانييري الفنان المتخرج في أكاديمية فلورنسا والمقيم في القاهرة‏,‏ وعندما حصل محمود علي ليسانس الحقوق وأراد احتراف التصوير أرسله الوالد إلي باريس في‏1920‏ للالتحاق بالقسم الحر في أكاديمية الجراند شوميير ليدرس الرسم بلا انخراط في أسلوب مدرسة فنية محددة‏,‏ وعاد إلي مصر بعد‏6‏ أشهر عندما عانت الأسرة من ضائقة مالية لا تسمح للابن المترف بالتجوال الحر في عالم الفن‏,‏ فعاد ليقوم بدوره المطلوب تجاه الأسرة ملتحقا بوظيفة حكومية‏,‏ فعمل بسلك القضاء المختلط في مدينة المنصورة‏,‏ وتدرج في الوظائف حتي عين مستشارا بالاستئناف في أبريل‏1939,‏ ورغم تقدمه القضائي كانت رغبته الدفينة في التفرغ كلية للفن تزداد تأججا حتي دفعه أوارها لتقديم استقالته التي لم تقبل أكثر من مرة‏,‏ لكن المسئولين أمام إصراره وتشبثه اضطروا أخيرا لقبولها‏,‏ وتحقق أخيرا أمل الإحالة إلي المعاش عام‏1947‏ فبلغ مبتغاه‏.‏
محمود سعيد الحاصل علي وسام اللجيون دونير الفرنسي وجائزة الدولة التقديرية من جمال عبدالناصر بشيك قدره‏2500‏ جنيه بعد ترشيحه من المجلس الأعلي للفنون برئاسة كمال الدين حسين‏,‏ وزامله في الجائزة عباس العقاد في عمر ال‏73‏ في الأدب وكانت المرة الأولي التي يحصل فيها فنان تشكيلي علي الجائزة في مصر‏..‏ رجل القضاء محمود سعيد الذي ادخل بنت البلد صالون الطبقة الراقية‏,‏ وصور في الجامع خشوع المتعبد‏,‏ وتجول خارجه ليسجل تجليات أهل الذكر وتهاويم الموالد والدراويش‏,‏ وفي العصاري تنزه بفرشاته علي شط الترعة وكورنيش الإسكندرية‏,‏ وفي عتمة المساء ذهب ليرسم راقصة الملهي البلدي المتثنية علي صخب الأكف والصاجات وأنفاس النارجيلة في ليالي السمر والأنس والسهر‏..‏ ابن رئيس الوزراء الذي سافر به القطار لحضور جلسات المحكمة رايح جاي من الإسكندرية للمنصورة فكانت النافذة المتغيرة المناظر بسمائها وحقولها ونخيلها ومآذنها وناسها وأعمدة تلغرافها بعصافيرها الملتصقة وبيوتها المتعانقة بانسجام كما جاء في قوله‏:‏ قاعدة تدردش مع بعضها‏..‏ كلها كانت وحيا وإلهاما للوحات تعكس سمرة الأرض وحرارة الأجواء وتفاعل حياة الإنسان والحيوان وزرقة السماء الصحو ومرح الطفولة اللاهية ودولاب عمل لا ينتهي ودخان قمائن البناء وأبراج العشق وحياوات الزرع وكد البشر ونهج الأفران وزرع السدود ومعاول التربة وعرق الرجال‏...‏ وصغير ضئيل يخض في جلبابه المهلهل كغصن جاف يسحب بحبل متهالك من خلفه جاموسة هائلة مستسلمة لقيادته الحكيمة‏..‏ ابن الثغر الذي أمضي حياته وفنه بين المتناقضات فمنحه الساخن والبارد والأبيض والأسود والفوق والتحت والشرق والغرب ثراء وعطاء لا تمزقا وشرودا‏..‏ التناقض بين نصوص المواد وتلقائية الفرشاة‏..‏ بين التصوف والموديل العاري‏..‏ بين المئذنة والقوام السمهري‏..‏ بين سعة صحن الجامع وزنقة الكباريه‏..‏ بين الصالون والحارة‏..‏ بين التلقائية والتصنع‏..‏ بين السواريه والملاءة اللف‏..‏ بين البرنيطة وعروسة البرقع‏..‏ بين الخرز والماس‏..‏ بين حصان الفارس وجحش الفلاح‏..‏ بين الخلخال والقلادة‏..‏ بين العيون الزرقاء والعيون الكحيلة‏..‏ بين الشال الإسباني والطرحة السوداء‏..‏ بين أوه لا لا والدلعدي‏..‏ بين جبال لبنان وسهول وادي النيل‏..‏ بين السفر في سلك المناصب إلي نداءات السفر البعيد داخل الأعماق‏..‏ بين أوروبا ومصر‏..‏ بين تلك المتناقضات المتماوجة رسم بن سعيد لوحة الدفن والرسول عام‏1926‏ وبعدها بعشرين عاما رسم الجسد العاري في لوحتي الأريكة الخضراء‏,‏ وفوق الوسائد‏..‏ وبين التناقض والازدواج رسم بنات القصور بألوان هادئة فاترة وأوضاع تقليدية وقور‏,‏ بينما وضع في أجساد غجرياته جمر النار‏..‏ إنه التوتر الخصب الذي أخرج لوحات عديدة أقام لها المعارض الخاصة الشاملة ومشاركا في المعارض العامة في الداخل والخارج‏..‏ وليس أجدي لمعرفة أعمال الفنان من أقواله‏:‏ الأحداث اليومية ليست من اختصاص الفنان فأعمال المناسبات العاجلة لا يمكن أن تدخل في نطاق الفن الخالد وأنا في لوحاتي أحاول التعبير عن القيم الخالدة‏..‏ أفضل الموضوعات التي عبرت عنها تلك التي عاشت في عقلي وحسي أطول مدة‏,‏ ولم أبحث عن الأسلوب الذي أعبر به‏,‏ ولم أقدم علي لوحة وفي ذهني نظرية معينة لتطبيقها كالتأثيرية أو التكعيبية‏..‏ للصعيد منزلة خاصة عندي من الوجهة الفنية رغم أني من مواليد الإسكندرية‏..‏ ولقد كانت الحوارات مع محمود سعيد نادرة لكنه أجاب يوما عن السؤال الطلقة النافذ للأعماق لماذا ترسم؟‏!‏ بقوله‏:‏ لماذا أرسم؟ سؤال مثل لماذا تأكل ولماذا تشرب ولماذا تعيش؟‏!..‏ إنني إذا ما توقفت عن الرسم تصبح الدنيا لا طعم لها والنهار والليل لا شمس فيهما ولا قمر‏..‏ كأنه الموت‏..‏ في ظني أن أجمل أوقات الحياة هي أوقات الخلق‏..‏ وكانت رؤية محمود سعيد أن يظل الفن للفن‏,‏ فالفن باق وقيمة أبدية‏,‏ ولا يجب أن يتأثر بأي حال بالظروف الطارئة لأنها عارضة زائلة‏,‏ أما القيم الفنية فثابتة باقية‏,‏ ومن هنا يتجلي الاستقرار في جميع أعمال محمود سعيد الخالية من الهزات والصخب‏,‏ ولعل الصور الوحيدة التي يتجلي فيها العنف كانت في الصراع مع الماء سواء في لوحات الصيادين الذين يقاومون البحر الهائج بشراسة من أجل اختطاف لقمة العيش من جوفه العميق‏,‏ أو نير معاناة الفلاح مع الشادوف لنقل الماء من البحر الكبير لترعة بلدنا المتواضعة‏,‏ وهي اللوحة التي بيعت هذا الأسبوع في مزاد صالة كريستي بدبي ب‏2.4‏ مليون دولار ليحدث الخبر موجات من الغبطة في دوائر الفن عامة والتشكيل خاصة‏..‏ محمود سعيد شاعر اللوحة الذي رسم الهوية المصرية وجسدها ببلاغة لا ترقي إليها بلاغة الكاميرا ولا استطاعتها المفردات اللغوية‏..‏ صاحب بنت البلد ذات العيون العسلية الذي تعد لوحاته المقابل التشكيلي لسرد ثلاثية نجيب محفوظ وكروان طه حسين وزينب هيكل وأزجال بيرم وأطلال ناجي وجندول عبدالوهاب‏..‏ مخرج الروائع التشكيلية الذي أزاح الستارعن وجه مصر الجميل الطيب السمح الفتي الجبار الأصيل المكافح الأسمر الجبهة كالخمرة في النور المذاب‏..‏ ال‏Formidable!!‏
[email protected]

المزيد من مقالات سناء البيسى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.