في فترة متزامنة وتكاد تكون ملاصقة لبعضها .. شهدت القاهرة عرضين راقصين علي درجة كبيرة من الأهمية.. العرض الأول قدمته فرقة باليه أمريكية معاصرة هي «كومبليكشنز» المكونة من مجموعة شديدة المهارة من راقصين من جنسيات مختلفة .. قدموا لنا ألواناً خاصة من فنهم الذي يجمع بين المعاصرة والكلاسيكية، أما العرض الثاني فهو عرض لفرقة الباليه المعاصرة المصرية التي يرأسها ويصمم رقصاتها «وليد عوني» والتي قدمت عرضا مثيرا وشديد الجرأة بعنوان «قاسم أمين». الفرقة الأمريكية التي كونها ويشرف عليها الراقص الأسود «دويت رودين» تعتمد أكثر ما تعتمد علي مهارة راقصيها ومرونة أجسادهم التي تثير الدهشة والإعجاب معا، والتي تصل أحيانا في بعض حركاتها إلي درجة عدم التصديق وكأن هذه الأجسام اللينة المطواعة قد خلت تماما من العظام. افتتحت الفرقة برنامجها برقصة جماعية علي أنغام «جان سباستيان باخ».. لعبت فيها الإضاءة والتوزيع الكوريجرافي دورا شديد الأهمية في خلق التأثير المدهش علي المتفرجين، دقة في الحركة، جمال في الأداء، توزيع هارموني مثير للإعجاب علي أنغام سماوية فيها من العقلانية أكثر بكثير مما فيها من حرارة العاطفة ولهيبها. رقصة رائعة ثم توالت بعد هذه الرقصة الرائعة مجموعة أخري من الرقصات الثنائية والثلاثية والتي تميزت جميعها بما تميزت به الرقصة الأولي .. أي الإضاءة المدهشة والتوزيع المتقن والحركات الكوريجرافية التي تكررت أكثر من مرة ، ولكن الدهشة التي ألجمتنا في الرقصة الأولي زالت ليحل محلها نوع من التأمل حول بقية الرقصات التي بدت لي أوتوماتيكية بارعة، شديدة الصعوبة، وبارعة التنفيذ، ولكنها خالية تماما من الروح. والغريب في هذه الرقصات.. الثنائية والثلاثية أن جوهرها يعتمد دائما علي التناغم والدفء والحنان الذي يربط بين الراقصين.. والذي يمكن أن نتجاهله قليلا في الرقصات الجماعية إذا لم نتمكن من رصده .. ولكن يصعب علينا قبوله عندما يختفي تماما في هذه الرقصات الفردية. لقد بدا الثنائي الراقص.. رغم حركاته البارعة، والتي تصل إلي درجة الادهاش الحقيقي أحياناً باردا «فارغا» وكأنه تجميع لحركات بهلوانية يقوم بها راقصون مهرة في سيرك عالمي له مستواه الفني. الرحمة ولحسن الحظ انتهي الجزء الأول من هذا البرنامج الحافل الذي قدمته الفرقة الأمريكية بباليه خفيفة بعنوان «الرحمة» اشترك فيها أعضاء الباليه كلهم والتي جمعت بين الموسيقي الأسيوية والموسيقي الأفريقية والموسيقي الغربية في تلاحم وهارموني مدهشين، إلي جانب إضاءة عبقرية وديكور مؤثر مكون من ستائر حمراء قرمزية تهبط من أعلي المسرح ويظهر من خلفها الراقصون ثم يختفون وفق إيقاع لاهث محموم، ومن خلال رؤيا شديدة الابتكار والتنوع . قطعة فريدة «رحمة» كانت قطعة فريدة من الفن الأصيل جعلتنا نأسف لعدم وجود نظير لها بين باقي الرقصات التي قدمتها الفرقة، والتي ظهر الفارق واضحا جليا بين بعضها البعض. «رحمة» جاءت فعلا وكأنها رحمة من الجنة.. بأزيائها وإضاءتها وتنويعات حركاتها وموسيقاها والجو السحري العابق بروح الشرق الذي هيمن عليها. وكم كنت أتمني لو انتهي العرض في هذه المرحلة التي تركت في نفوسنا هذا الانطباع المدهش ولم تقدم الفرقة جزءها الثاني الذي لم يختلف كثيرا عن أي استعراض صغير تراه علي مسارح «برودواي» وإن كانت عروض «برودواي» تمتاز بالعفوية والبساطة ولا تصل إلي حد الادعاء والحذلقة الذين سادا تماما علي جو الرقصة الختامية في هذا العرض الأمريكي. نساء قاسم أمين قد أكون قاسيا إلي حد ما علي هذه الفرقة الناشئة التي تسعي إلي تثبيت أقدامها في عالم الباليه.. ولكن إيماني بقوة الباليه الأمريكي من خلال قادتها الكبار بالانشين والفيدالي وأنيس دي ميل وسواهم.. يضعني في خانة الأسف.. لعدم تمثل فن الباليه الأمريكي «المدهش حقا والذي يعادل فن الباليه الروسي إن لم يفقه أحياناً» لدينا بفرقة أشد كمالاً وأكثر حرارة وجرأة واندفاعا. وهذه الصفات الثلاث التي افتقدتها في باليه «كومبلكشنز» وجدتها واضحة صريحة رائعة في عرض باليه عوني «نساء قاسم أمين». وليد عوني يتابع هذه المرة أيضا بحثه في تاريخ وفن المجتمع المصري.. منذ مطلع القرن وحتي اليوم، فبعد أن قدم لنا رؤيته عن فن «محمود مختار» في عرض «لأنيس» وعن عالم «تحية حليم» الغامض والأسطوري .. وعالم «شادي عبدالسلام» الغارق في صوفيته وجمالياته، يعود إلينا هذه المرة برؤيا راقصة عن عالم «قاسم أمين» وعن تحرير المرأة. موضوع صعب وجريء خصوصا في أيامنا هذه التي نعاني فيها من رؤية رجعية نحو النساء تعيدهن إلي الزمن الذي عاش فيه «قاسم أمين» ثورته الاجتماعية والسياسية، العرض مقسم إلي جزأين إذا صح التعبير، الجزء الأسود.. وهو جزء عبودية المرأة وسقوطها المهين تحت سيطرة الرجل، وقد قدم فيه عوني رؤيا تشكيلية أعادتنا إلي أجواء الجوقة اليونانية في التراجيديات الكبري انحناءة الألم .. تثنيات الجسد المقهور، اللون الأسود الطاغي . الوجوه المختفية وراء اليشامك، الأمل بتكسير القضبان الحديدية اللامرئية التي تمنع الجسد من الانطلاق والتحرر، الأماني والأحلام المكبوتة، الوجوه الخفية وراء براقع الظلام، الحبال السوداء التي تسقط من السماء لتؤكد قيود المرأة وعدم قدرتها علي الحركة. حسرة وألم كل ذلك قدمه وليد عوني من خلال تابلوهات متلاحقة يخيم عليها جو تراجيدي مفعم بالحسرة والألم .. ومن خلال تشكيلات متجددة تؤكد غزارة موهبة هذا الفنان الشاب الذي تعود دائما علي أن يقتحم كل الأبواب الموصدة وأن يتجاوز جميع الخطوط الحمراء. ومن خلال شاشة عملاقة في الخلفية تسجل أحداثا تاريخية وتعيد إلي الذاكرة أسماء مهمة لعبت دورا رئيسيا في المجتمع المصري محمد عبده، والأفغاني .. تدور الأحداث التي ستؤدي إلي وجود فكر وروح قاسم أمين وتشجع المرأة علي التحرر من قيودها. فراشات بيضاء الجزء الثاني من العرض، هو الجزء الأبيض الذي تحررت فيه المرأة من نقابها السميك وانطلقت كالفراشة البيضاء تملأ الدنيا قوة وبهجة وحبورًا، وفي الخلفية تتردد «أسماء هدي شعراوي» ومي زيادة وباحثة البادية .. وغيرهن من الرائدات، ولكن في لفتة عبقرية من «وليد عوني» لا يكتفي بأن يتهلل لتحرر المرأة من سوادها.. وانطلاقها إلي بياض حريتها وإنما يركز في تابلوه رائع علي أهمية التعليم بالنسبة لها وإن الكتاب يجب أن يحل محل الحجاب في لفتة راقصة تثير الإعجاب. السلام والهدوء والسعادة التي تخيم علي الثنائيات رجالا ونساء لفتة ما بعض العرض نوعا من الراحة النفسية والسعادة الغامرة في الذي كان والذي يجب أن يكون قبل أن ينتهي العرض في تابلوه ظهرت فيه النساء بألوانهن جميعا. ألوان قوس قزح لم يعد هناك سواد جامح .. ولا بياض متفائل وإنما هناك ألوان قوس قزح بثنائية مختلفة تعبر عن الانطلاق الكامل نحو أفق يجلله قوس قزح. وليد عوني في عرضه الجريء هذا يقدم رأيا وفكرا من خلال رؤية راقصة عرف كيف يختار موسيقاها وكيف يهندس اضاءتها وكيف يميز أزياءها وكيف يجعلها طعنة أعماق القلب أحيانا.. وأحيانا أخري همسا يشبه القبلة الخافتة. لقد أثبت عوني في عرض قاسم أمين أن لا شيء يعصي علي التعبير الراقص سياسة كان أم فنا أم حركة اجتماعية أو نقدا ضميريا. إنه يضرب علي أوتار موهبته الفذة باقتدار وتمكن وحرص علي المجتمع الذي يعيش فيه والذي يريده مجتمعا رحبا متسامحا مثقفا مستنيرا، تلعب المرأة فيه الدور الذي يجب أن تلعبه في أي مجتمع حضاري يحترم نفسه. المرأة التي ترتدي السواد .. وتسير بذيل طويل يشمل عرض المسرح كله.. قبل أن تختفي وراء الأبواب وكأنها أفعي نفثت سمها، وكان عليها أن تختفي وتموت . لتظهر هذه الأبواب البيضاء المشعة التي يقف وراءها رجال ونساء يزهون بجنسهم ويزهون بالدفء والحنان والحميمية التي تجمعهم معا. رؤية مكثفة أكثر من مشهد في هذا الباليه الذي طرح أكثر من موضوع مهم من خلال ساعة واحدة أو بعض الساعة والذي عرف وليد عوني كيف يكثف رؤيته في عمق وأن يقدمها في إطار جمالي خلاب مستخدما كل معرفته الجمالية .. وحماسه اللاهب لحرية الإنسان وكرامته في مجتمع جديد .. بدأنا لا نعرف عنه شيئا، مجتمع بات يهددها مرة أخري بوضع الأغلال في أيدينا وجرنا إلي وراء الأبواب المغلقة وإعادة الياشمك الأسود علي رؤوسنا. نساء «قاسم أمين» حركة يطلقها فنان قدير وقادر.. ترددت أصداؤها الحلوة والعميقة في قلوبنا ورؤوسنا .. ولكن هل ستظل هذه الصرخة تدور حول نفسها دون صدي، أم أن حبالا بيضاء نتمناها جميعا قد تهبط علينا من السماء لتحررنا من خوفنا ومن جهلنا ومن الغابة السوداء الكثيفة الأشجار التي تسير نحوها أقدامنا دون وعي حقيقي منا.