فسيزيف - كما تعلمون - هو واحد من هؤلاء الملاعين الذين استحقوا العقاب علي أيدي سادة الأوليمب..اسم آخر من هؤلاء الذين يملأون تلك الأساطير..ماذا فعل؟..أشياء كثيرة لا تعنينا..لكن الأهم في كل هذا ما أوجده زيوس كطريقة لعقابه علي ما فعل..كانت فعلته شنيعة وكان العقاب أشنع. فعلي سيزيف أن يحمل الصخرة علي رأسه..يصعد بها المنحدر حتي يكاد يبلغ قمته..فما ان يقترب حتي تفلت الصخرة من جديد ليعود من جديد ويحمل الصخرة..يكاد يبلغ القمة ثم تفلت من جديد..عقاب يحمل أقصي معاني الحيرة واليأس والإزلال..يتخيل أن هناك من يشاهده ويتسلي..يضحك كثيرا علي معانته فيجن أكثر. هذه هي أسطورة سيزيف.. أسطورتنا المؤلمة..! اختيار الأذكي لقد شاء القدر وتلاعب سادة الأوليمب علي مصر منذ أن عرفت التاريخ الحديث..كي تبقي الدائرة الحمقاء كما هي..فمنذ أن عرف شعب مصر بعد قرون طويلة معني الثورة علي الحاكم عندما ثار الشعب المصري علي خورشيد باشا واستطاعوا أن يجلبوا الرجل الأذكي محمد علي باشا إلي الحكم وهذه الدائرة الجهنمية تتلاعب بهؤلاء البسطاء..فشعب مصر لا يثور عادة إلا حين ينهار كل شيء.. وتصير القناعة بأن الممسك بزمام الأمور تعدي مرحلة التجويع والفقر - التي عادة ما يقبلها الشعب ويرضي - إلا مرحلة الهلاك الحتمي والإرسال إلي الجحيم..حين يبدو الحاكم تماما كسائق سكير أسرف في الشراب..هكذا يصير حتميا أن توقفه..ومن هذا المنطق ثار الشعب علي خورشيد وأتي بمحمد علي..وكان الأخير ماكرا وداهية كما كان شديد الإخلاص قوي العزم..وكان لمصر الكلمة والقوة في فترته الزاهرة..يمكننا أن نفهم أن ثورة الشعب في تلك الفترة نجحت في إنقاذ مصر بل وغيرت ملامحها تماما..لكن القوي يظل دائما قيد الإستهداف..هكذا جاء خلفاء محمد علي أكثر خنوعا وضعفا وطمعا في الدنيا..َضاعت المكاسب..ثم بدأت الخسائر..خسائر كانت بدايتها فقط احتلال الإنجليز. هكذا تسقط الصخرة..ويبدأ الانهيار..ويصير علي سيزيف أن يبدأ من جديد..تتوالي العصور وتضغط أقدام الأجنبي علي رقبة الشعب..لا يمكنك أن تصف هؤلاء بشيء فالمحتل لا يقدم الهدايا..هذه سنة الحياة والضريبة علي الضعيف..هكذا سقطت الصخرة من جديد حتي استقرت في القاع. بدأ سيزيف مهمته السخيفة من جديد..عليه أن يبدأ من جديد..ما أق سي الشعور البشري بألا يتراكم عملك وعمل من سبقك..أن تبدأ دائما من جديد..أن تعود لتكتشف النار وتفكر كيف تحمي نفسك من الوحوش في كهوف الجهل والظلم..هكذا كان هذا الشعب البائس. وبدأ الشعب من جديد..وقام انقلاب الجيش في 1952 بعد أن انحدر الحال من محمد علي إلي فاروق. وبعيدا عمن اتفق واختلف مع الرجل فإن أحدا لم يشكك يوما في إخلاصه وذمته..بدأ جمال من جديد..يرفع الصخرة..يأتي بالأموال..يصنع القرار السياسي في المنطقة..قبل الشعب من جديد الفقر والجهل والمرض مادام اسم مصر هو الأعلي في المنطقة ومادامت قادرة علي أن تقول لا للأعظم والأقوي في العالم..كان الشعب علي يقين بأن كل الأحوال ستنصلح مادمنا علي الطريق الصحيح..ثم ان نغمة الوطن العربي الواحد تستحق كل التضحيات..نحن في بداية الطريق لتغيير التاريخ. سيزيف كان قويا وشديد الذكاء - تقول الأسطورة - لكن سادة الأوليمب كانوا الأقوي والأكثر مكرا لا شك..كما ان سيزيف كان دائما يستحق..سيزيف كان فاسد الخلق أيضا..فهل يمكن أن نلوم أنفسنا كما لنا أن نلوم سيزيف..لا أدري..لكننا في النهاية وجدنا الصخرة تجري نحو القاع. علينا أن نبدأ من جديد..هكذا أدرك جمال عبد الناصر..لكنه كان دائما شديد الأمل..شعبه خلفه أو هكذا ظن..يمكنه أن ينجح..يمكنه أن يخدع سادة الأوليمب ويصل بالصخرة إلي القمة..هكذا مات عبدالناصر...!!!! نبدأ من جديد ولأن الكثيرين اعتبروه خائنا وبائعا للقضية..فربما لا يعتقد الكثيرون أنه قد حاول رفع الصخرة من جديد..الواقع علينا أن نعترف..لقد استلم السادات الصخرة ملقاة علي بعد أميال من قمة الجبل هذه المرة..لقد كانت السقطة شديدة بالفعل..ورغم ذلك بقي الفساد كما هو..دائما الفساد بمعزل عن أحوال الوطن..كالضباع مهجنة تنهش أجسادا متهالكة في أنفاسها الأخيرة. صار السادات إلي العذاب المراثوني من جديد..لكن بحماس أقل..لقد صار الوضع شديد الوضوح..لن تصل الصخرة للقمة أبدا مادام سادة الأوليمب يراقبون باستمتاع..مع الوقت صار سيزيف يأسا..يدفع بلا حماس..صار إيمانه بقوة سادة الأوليمب بلا حدود. لم يفكر يوما بأنه هو الفاسد..وربما استحق هذا العقاب..حتي لو كان سادة الأوليمب مجموعة من الأوغاد. هكذا رفع السادات ما استطاع..أعادها إلي الجبل..بدأ الرفع كواجب مقدس..هل كان السادات خائنا للقضية؟..لا..الخونة لا يقتلون علي شاشات التلفاز..الخونة يعيشون طويلا حتي يخلعوا...!!! لقد ملّ سادة الأوليمب من هذا الرجل الساداتي....!!! هكذا وبمنتهي الانتشاء جاء العهد الأخير..جاء مبارك..حمل الصخرة قليلا إلا أن رأه الشعب..يحمل صخرته..لكنه لم يبد شديد القناعة بما يفعل..لم يملك الأمل ولا الإصرار وشعر بأن هذا إهدار لوقته الثمين..هكذا اكتفي بأيام من التظاهر بالجهاد ثم ترك الصخرة تهوي واكتفي باتخاذ جلسته في مكان ظليل. لقد أحب سادة الأوليمب هذا الشخص الخنوع..دائما ما كان عقاب السادة لهؤلاء البشر الفانين الذين لا يكفون عن الاعتقاد بأنهم أذكي من سادة الأوليمب..لكنه أقر بضعفه وقلة حيلته وبأنه حتما يختلف عمن سبقوه..هكذا منحوه المكان الظليل وبعض الطعام..وتركوه. أعجبه هذا..والشعب البائس يلتمس الأعذار..عذراً تلو الآخر..لكنه لم يتحرك ولم يفعل شيئا. قبلوا الأمر علي مضض..لعل حكم الله يأتي بوجه آخر..لكنه علي غير عادة أقرانه كان من المعمرين..انتظروا كثيرا ومات منهم من مات..إلي أن تفتق ذهن العبقري بأن يكمل ابنه الغرير المسيرة. "رد عليه يا حسين.....!!!" هكذا عاد التاريخ من جديد لذات القصة..من محمد علي إلي الملك فاروق ثم قامت الثورة..من جمال عبد الناصر إلي جيمي مبارك..ثم قامت الثورة..حين صارت السفينة علي مشارف الغرق. هل كُتب علي هذا الشعب دائما أن يبدأ من جديد؟..وأن يصحح الأخطاء مؤقتا ثم تمر السنين كي نصحح من جديد ذات الأخطاء..هل سنبدأ دائما كدولة خرجت لتوها من الاحتلال؟..وهل سيحملنا الاحتلال لاحتلال آخر؟..وهل سنظل كشعب نقبل بأنصاف الحلول؟..هل سننتظر الصخرة كي تهوي قبل أن نغضب من جديد؟..وكم مرة بقت علي سقوط هذه الصخرة كي ننزوي يأسا أو ننقرض؟..السؤال الأهم..هل علي سيزيف نفسه أن يفكر بطريقة أخري؟..أن يراجع نفسه وأن يقر بأخطائه..أن يصلح كل فكر فاسد والأ يفكر سوي بالقمة التي حرمه منها سادة الأوليمب. فقط أتساءل..هل يستحق هذا الشعب عقاب سيزيف....!!!!