لايعزي انبهاري بهذا الرجل الي كوني عربيا مسلما موجوعا بسطو آخر علي جغرافيته وتاريخه وتراثه ووجوده..بل لأنني أولا وحتي عاشرا انسان.. وحروب افرام نعومي تشومسكي مقدسة.. يخوضها مدفوعا بايمانه بالانسان..كل انسان من خلال فكره الاشتراكي ! فان كنا نؤمن بأهمية الاحتفال بأعياد الميلاد..فكان الأجدر بنا - نحن العرب تحديدا- أن نحتفل بعيد ميلاد تشومسكي ال 82 والذي وافق يوم 6ديسمبر الماضي.. ان معتقدات هذا العالم والمناضل العظيم تدفعه الي أتون حروب من أجل أقوام ربما تراخوا عن خوضها لاستعادة حقوقهم المسلوبة ونحن بالطبع أحد هذه الأقوام - الي الحد الذي دفع المؤرخ البريطاني الشهير أرنولد توينبي الي وصفنا بأننا أسوأ مدافعين عن أعدل قضية..! حتي مثقفونا فرحوا بهذا اللقب الذي خلعه عليهم مجهول.. "ضمير الأمة".. بالطبع يستحقونه..لكن ماذا يفعلون وهم ضمير الأمة من أجل قضايانا الكبري..؟ ان ألمت كارثة بالأمة..مجزرة ترتكب ضد أهالينا في غزة مثلا..تنصب سرادقات الغضب المدرسية في مقار اتحاداتهم وروابطهم..ليعتلي شعراؤهم المنصات ويصرخون بأشعارهم الحماسية.. ويصدر قادتهم بيانات الشجب والتنديد..مستوي من الفعل لايزيد كثيرا عما يحدث في طوابير الصباح بالمدارس حين يبلغ المعلمون تلاميذهم أن اسرائيل شنت عدوانا جديدا علي أشقائنا في فلسطين..فيلقي المفوهون من الصغار القصائد الحماسية والخطب النارية.. لينصرف بعدها كل الي حال سبيله.. فما الفرق بين غضب الصغار في أي مدرسة ابتدائية وغضب الكبار في اتحادات الكتاب..!لاشيء..وحين يكون فعل مثقفينا دفاعا عن ثوابتنا مجرد عبارات شجب وبيانات تنديد فنحن - كما قال توينبي -أسوأ مدافعين عن أعدل قضية..! من يكون الرجل ! علي أية حال..ما يعنينا الآن فارس عصرنا هذا وكل العصور أفريم نعوم تشومسكي الذي كان ينبغي علينا أن نشارك في الاحتفال بعيد ميلاده..فمن يكون! وعلامة التعجب التي أنهيت بها سؤالي ليست خطأ مطبعيا.. سؤالي.. نعم..قد يبدو مثيرا للتعجب والاستغراب بل ومستهجنا حين يتعلق بمفكر ملء السمع والبصر مثل تشومسكي..لكنني معذور..هو ملء سمع وبصر أمم تقرأ حتي أن فهرس مراجع الفنون والانسانيات ذكر اسم تشومسكي كمرجع خلال الفترة من 1980 الي 1992أكثر من أي شخص آخر علي وجه البسيطة وكثامن شخص علي الاطلاق . أما أمة من أربعمائة مليون نسمة ولايتجاوز توزيع رواية لأعظم أدبائها عن ألف نسخة.. فمن الطبيعي جدا أن أطرح السؤال مذيلا بعلامة استفهام وليس علامة تعجب.. أفرام نعوم تشومسكي محارب صلد من أجل قضايانا..ليس قضايانا وحدنا..بل قضية الانسان أيا كان لونه أو دينه أو عرقه.. ذلك المفكر اليهودي الذي لايمل عن اشهار لاءاته القوية في وجه الجرائم التي يرتكبها الساسة في واشنطن وتل أبيب . من مواليد ولاية فيلاديفيا الأمريكية في السادس من ديسمبر عام 1928وحصل علي درجته العلمية في اللغويات عام 1951 من جامعة بنسلفانيا. وهو صاحب نظرية التوالدية أو النحو التوليدي التي يصنفها الكثير من العلماء باعتبارها أهم انجاز في مجال اللغويات النظرية في القرن العشرين.. والنحو التوليدي كما جاء في الموسوعة الحرة " ويكيبيديا" يقع علي الطرف النقيض من النحو التقليدي القائم علي اعطاء امثلة الاطراد النحوي مع ذكر حالات الشذوذ.. ومن المسلم به انه لا يمكن للنحو التقليدي ان يحصر العدد اللامتناهي من تركيبات الجمل التي يمكن للغة ان تولدها.علي العكس من ذلك يقوم النحو التوليدي علي اساس التوليد الرياضي القادر علي احتواء اللامتناهي اللغوي، حيث يصاغ النحو التوليدي في هيئة صيغ رياضية يمكن من خلالها توليد جميع تركيبات الجمل السليمة للغة..مما.جعل النحو التوليدي أداة فعالة لتفسير الظواهر اللغوية كحالات الحذف والاضمار ووجوب التقديم والتأخير وجوازهما, وحالات اللبس التركيبي وما شابه ذلك.. جنة الكيبوتزات الزائفة وربما صيت تشومسكي كأحد أبرز علماء اللغة قد لا يتجاوز كثيرا جدران المراكز العلمية..الا أن صيته كناشط ثائر ضد الظلم وتشييء الانسان يبلغ مدي يتجاوز كل الأسيجة الجغرافية بل والزمنية.. في مطلع خمسينات القرن الماضي بدا تشومسكي كشاب يهودي لديه حماس للفكر الاشتراكي مفتونا بنموذج الدولة اليهودية..متخيلا- خاصة حركة الكيبوتزات بها - أنها التجسيد للجنة الاشتراكية التي تحقق الخلاص للانسانية..واقتات مثل ملايين اليهود الحلم الصهيوني..كان بالطبع ضحية ماكينة الدعاية الجهنمية التي سوقت اسرائيل علي أنها الفردوس الأرضي..أبحر الشاب الذي لم يتجاوز عمره آنذاك 23عاما الي اسرائيل ليعمل بأحد الكيبوتزات..لكن سرعان ما انقشعت الغشاوة عن عينيه ليصاب بخيبة أمل كبري فلا أثر للجنة الاشتراكية التي وعدوه بها فغادر سريعا عائدا الي بلاده حيث عمل عام 1955 في جامعة هارفارد، ثم انتقل ليعمل في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا ويبدأ رحلة تعرية الوضع المأساوي في فلسطين والتي تحاول اسرائيل اخفاءه بمساعدة الساسة في واشنطن..ويؤسس لنفسه مكانة كأحد أبرز الناشطين السياسيين وأيضا علماء اللغويات.. خطايا العم سام في كتابه " ماذا يريدالعم سام ؟! " وقد صدرت طبعته العربية عام 2005 من دار الشروق بالقاهرة.. يتحدث تشومسكي عن الأهداف الرئيسية للسياسة الخارجية للولايات المتحدة، خاصة بعد الحرب العالمية الثانية، وكيف أنه في سبيل تحقيقها، انتهكت كل ما تنادي به واشنطن من مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان وحق تقرير المصير. ويستشهد تدليلا علي ذلك بممارساتها في كوريا وفيتنام.. وتحالفها مع الحكومات العسكرية التي أقامتها في أمريكا اللاتينية. ولايكف تشومسكي عن توجيه الانتقادات لسياسة بلاده في الشرق الأوسط..بل ويري أن الدعم الأمريكي للدولة اليهودية وأيضا سياساتها الأخري تقود العالم الي الدمار. ..ومن أهم كتبه التي تنتقد السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط "السلام في الشرق الأوسط" و"مثلث المقادير" و"قراصنة وقياصرة" و"ثقافة الإرهاب" و"أوهام ضرورية"، "الديمقراطية المعوَّقة" ا. ممنوع الدخول وإسرائيل تري في هذا "اليهودي المارق"تهديدا يتجاوز بكثير خطر أي جيش يحاصرها..حتي أنها حالت بين العالم الكبير ودخول الضفة الغربية خلال شهر مايو الماضي لإلقاء محاضرة في جامعة بيرزيت.. مما أثار غضب الرأي العام العالمي..بل وشريحة من النخبة الاسرائيلية نفسها الي حد وصف بعضهم لقرارالساسة الاسرائيليين بأنه هز أسس اسرائيل كدولة ! الا أنه تواصل مع طلاب الجامعة عبر الفيديو كونفراتس..وقال يومها إن أمريكا الرسمية ليست وحدها الداعمة لاسرائيل..بل أيضا فئات أخري من المجتمع الأمريكي الا أن أكبر دعم يأتي من رجال الأعمال..والحد من هذا الدعم ممكن جدا.. من خلال تخليق لوبي عربي وحوار يفتحه العرب مع القوي الفاعلة في الولاياتالمتحدة.. حوار يقوم علي الندية والمصالح المتبادلة . ويدرك تشومسكي أن أراءه في الدولة اليهودية لن تغير من سياسات قادتها..ولن يغير أيضا من طريقة التعاطي الرسمي لواشنطن مع تل أبيب لكنه يري وجها ايجابيا للمسألة.. حيث يلاحظ أن ثمة تغييرا علي جانبي الأطلنطي في طريقة تفكير الرأي العام في الولاياتالمتحدة وأوروبا بدأ يأخذ مجراه..خاصة أن عوامل كثيرة أدت الي كسر بعض المحظورات السابقة كقيام دولة فلسطينية وحديث بعض المسئولين الامريكيين عن ان اسرائيل تضر بالمصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في العالم، وهو يبني علي هذا الامر ليقول ان التغيير سيصل الي مراتب أعلي انما يحتاج الي بعض الوقت. ويمكن أن نختزل هذا الوقت لو ترك مثقفونا طريقتهم البالية في التعبير المدرسي عن غضبهم تجاه سياسات اسرائيل وتبنوا نهجا آخر يليق بهم..ليس فقط كضمير الأمة.. بل وأيضا عقلها..عندها يمكن أن نكون خير مدافع عن أعدل قضية