تقدر الإحصاءات الدولية أن من يعملون بالفلاحة البسيطة في العالم يقدرون بحوالي 3 مليارات من البشر ، أي حوالي نصف سكان العالم. وتنقسم هذه الفلاحة بين تلك التي انتفعت مما يطلق عليه "الثورة الخضراء" (الأسمدة - المبيدات الحشرية - التقاوي المنتقاه ...) وإن كانت لا تتمتع بمستوي عالٍ من الميكنة ، وتتراوح إنتاجيتها بين 100 ، 500 قنطار متري (القنطار المتري يساوي 100 كيلو جرام) للعامل الواحد ، وتلك التي لم تلحقها "الثورة الخضراء" وتتراوح إنتاجية الفرد فيها حوالي 10 قنطار فقط للعامل في السنة ، أما الزراعة الرأسمالية ، التي تخضع لمبدأ ربحية رأس المال والمتمركزة بالكامل في أمريكا الشمالية وأوروبا وجزء من أمريكا اللاتينية وأستراليا ، فلا يعمل بها سوي بضع عشرات من الملايين من المزارعين الذين لم يعودوا "فلاحين" بحق. ولكن إنتاجيتهم بفضل الميكنة والمساحة المتاحة لكل منهم تتراوح بين 10 إلي 20 ألف قنطار من الحبوب أو ما يعادله للعامل في السنة الواحدة (سمير أمين). اختفاء طبقة الفلاحين تكاد طبقة "الفلاحين" تختفي من الدول الرأسمالية المركزية لدخول الاحتكارات الزراعية الكبري ميدان الاستثمار الزراعي ، وإن بقي منها قدر فهم "الفلاحون الأغنياء" بجانب الرأسماليين الزراعيين. وتتحول الزراعة إلي "بيزنس" يحكم الإنتاج فيها السوق المحلي والسوق العالمي الذي يفرض علي دول الرأسمالية التابعة كما في بلادنا نطاق المحاصيل الاستراتيجية مثل الحبوب وضمان بقائها في حالة احتياج للإنتاج الزراعي الرأسمالي الأجنبي كأحد روابط التبعية. وفي السوق الرأسمالي الزراعي قد يضحي الرأسماليون الزراعيون ببعض الإنتاج الوفير بتدميره حتي يحافظوا علي "الأسعار" الاحتكارية السائدة ، تلك الأسعار التي تحقق المجاعات في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية للملايين من الشعوب الأكثر فقراً وعوزاً وتحرم الجماهير البائسة حتي من رغيف الخبز (ولا نقول اللحوم والألبان). والأرض منحة من الطبيعة للإنسان ، لم يخلقها "العمل" أو الرأسمال" أو هما معا. لذلك هي ملك للشعوب خاصة من يعملون بفلاحة الأرض وزراعتها "الفلاحون" ، ولا مسوُغ تاريخي أو اقتصادي لملكية هذه الوسيلة من وسائل الإنتاج "الأرض" ملكية فردية ، لذلك يجب إتاحة استغلالها للفلاحين الذين يعيشون علي إنتاجها وذلك هو مفهوم شعار " الأرض لمن يفلحها " ، وقد أنجزت الصين الشعبية إصلاحاً زراعياً جذرياً ، ومازالت تمنع الملكية الخاصة للأرض وإن سمحت بالملكية الخاصة للمصانع والمشروعات الرأسمالية (ولنا تحفظ علي هذا النهج سنقدمه في بحث قادم عن الصين) ووفرت وضمنت إنتاج الغذاء اللازم للشعب الصيني الممثل لخمس سكان العالم (حبوب - لحوم - ألبان - فاكهة ..) في الوقت الذي مازالت بلادنا الخاضعة لحكم الرأسمالية التابعة لرأس المال العالمي وروشتات صندوق النقد والبنك الدوليين تعاني نقص الغذاء خاصة إنتاج القمح واللحوم بسبب سياستها الزراعية المعادية لصغار الفلاحين ، ومن قبل فعل الاتحاد السوفيتي السابق في فترة بناء وازدهار الاشتراكية وحقق الاكتفاء الذاتي من الغذاء ويصدر الفائض. يتطلب الأمر في الزراعة كما الصناعة وكل فروع الإنتاج والخدمات - ثورة وطنية ديمقراطية شعبية تُحِل ممثليها محل طبقة الكومبرادور الحاكمة التابعة للاستعمار العالمي والفاشلة في تحقيق مصالح وأماني الطبقة العاملة والفلاحين والطبقات الشعبية الأخري في العيش الكريم وتحقيق مصالح الوطن العليا في الاكتفاء الذاتي من الغذاء وعلي رأسه القمح ، تضع برنامجا شعبيا يجمع بين الإنتاج العائلي أو الفردي الصغير والإنتاج الكبير ، وحث الفلاحين وترغيبهم - بسياسات سعرية منصفة - بالدخول في تجمعات تعاونية إنتاجية متوسطة تلملم الملكيات الصغيرة المبعثرة لصالح الإنتاج الأوسع ، مع مدها بالآلات والبذور والتقاوي والأسمدة والمبيدات الحشرية بأسعار زهيدة ، وتشجيع قيام منظمات نقابية تمثل الفلاحين (حسب مقدار الملكية أو الإيجار) تدخل في مفاوضات جماعية مع الحكومة لتحديد أسعار منتجاتهم وأسعار مستلزمات الإنتاج التي تقدمها الحكومة بما يحقق مصالح الفلاحين وبما لا يرهق الطبقة العاملة والطبقات الشعبية (وهم الذين يستهلكون أغلب الإنتاج الفلاحي) وتحقيق الموازنة اللازمة بين متوسط دخل الفلاح وبين أجر العامل والحرفي والتاجر والموظف الصغير والمتوسط. ومتابعة تحقيق هذا التوازن حسب التطور الاقتصادي والاجتماعي الحادث في المجتمع. وفي خضم التطور الوطني الشعبي يتطور الوعي الطبقي ويحدث التناغم والتنسيق بما يحقق مصالح الأغلبية الشعبية من عمال وفلاحين وموظفين وحرفيين وتجار صغار ، ويعاد النظر في تقييم المسيرة الشعبية الإنتاجية والخدمية ويبدع الشعب حلولا ويبتكر صيغاً تحقق المزيد من العدل والكفاءة والجماعية. مئات المزارع في الاقتصاد الفلاحي القائم في العالم الثالث مثل بلادنا يمكن إنشاء مئات المزارع الحديثة بمنحها المساحات الكافية من الأراضي المستصلحة اللازمة للاستثمار الزراعي وتوفير رءوس الأموال اللازمة لتجهيزها وزراعتها خصماً من الاقتصاد الفلاحي الصغير. وقد تكفي هذه المزارع لتغطية الطلب علي المنتجات الزراعية المدعوم بقوة شرائية في المدن حيث يتم الاعتماد علي الإنتاج الفلاحي. هذا ممكن ، لكن السؤال : ما الذي سيحدث لباقي المنتجين الفلاحين غير القادرين علي المنافسة؟ علي مستوي الوطن وعلي مستوي العالم ؟ لاشك أنهم سيستبعدون خلال عقود قليلة من دائرة الإنتاج وسد احتياجاتهم. سيكون وجهتهم الانضمام إلي سكان العشوائيات في المدن كما هو حادث الآن في بلادنا وفي بلاد العالم الثالث الرأسمالي التابع. إذن لا يمكن للرأسمالية داخل الوطن أو للنظام الرأسمالي العالمي استيعاب الفلاحين المطرودين من إنتاجهم الفلاحي البسيط أمام توغل الرأسمالية. وقد يدافع البعض عن الرأسمالية بمقولة إن مشكلة الفلاحين إبان الثورة البرجوازية وجدت حلها في الهجرة من الريف فلماذا لا تكرر بلدان العالم الثالث هذا النموذج ؟ والرد أن الصناعات والخدمات الحضرية في أوروبا القرن التاسع عشر كانت تحتاج إلي أيدي عاملة كثيرة وما زاد عن ذلك هاجر إلي الأمريكتين بكثافة ، والعالم الثالث اليوم لا تتوفر له هذه الظروف ، فالهجرة سُدت في وجهه إلي أوروبا أو أمريكا. واذا سُمح بها فللكفاءات العالية ، وإذا حاول أن يكون منافسا كما توهمه الرأسمالية العالمية فإن عليه أن يستخدم تكنولوجيا حديثة غير متوفرة لديه ، وإن اشتراها سيشتريها من الاحتكارات العالمية بثمن باهظ اقتصاديا وسياسيا كما أن استخدام التكنولوجيا الحديثة في الزراعة سوف توفر أيدي عاملة فتظل مشكلة الفلاحين قائمة. وهذا يعني أن الرأسمالية بطبيعتها غير قادرة علي حل مشكلة الفلاحين ، وأن المستقبل علي طريق الرأسمالية هو كوكب أرضي وقد تحول إلي مجموعة من المدن العشوائية ومليارات من البشر "الزائدين عن الحاجة" تحصدهم الطائرات الأمريكية في أماكن تواجدهم. الرأسمالية إذن دخلت مرحلة الهبوط حيث لا يستطيع المنطق والعقل (اللاعقل) الذي يحكم هذا النظام أن يضمن مجرد البقاء لنصف سكان العالم. وهي بذلك تدفع إلي حروب بربرية نشاهد مقدماتها الآن مع الإبادة الجماعية والتجويع للشعوب أو لفائض الشعوب ، ويصبح من الضروري الخروج من دائرة الإنتاج الرأسمالي والتعرف إلي نظام آخر أكثر عدلا ورشدا وعقلانية. هذا النظام ندعوه "الاشتراكية" أو "الوطنية الديمقراطية الشعبية".