حتي اليوم لا يعرف اللاجئون العراقيون في السويد لماذا وكيف بدّلت هذه الدولة موقفها منهم سنة 2008 وبدأت تطردهم. والأهم انهم لا يعرفون أن الذين تآمروا عليهم وباعوا قضيتهم لقاء مكاسب مالية وسياسية هم ساسة بلدهم. كان تسامح قوانين السويد حول اللجوء ولسنوات طويلة قد جعلها الوجهة المفضلة لطالبي اللجوء العراقيين. غير ان صعود الائتلاف اليميني الي الحكم (2006) وضع حداًّ لهذا التسامح، فقد صمم علي وضع حد لمنظر العشرات من العراقيين وهم يهبطون كل يوم في المطارات السويدية ليطلبوا اللجوء الانساني، حتي فاقوا بالعدد أية مجموعة أخري من اللاجئين. المعضلة التي برزت آنذاك أمام الحكومة السويدية هي ببساطة عدم وجود دولة ترضي باستقبال هؤلاء في حالة رفض منحهم اللجوء، وهم كانوا من الحصافة بحيث يتخلصون من جوازات سفرهم أثناء رحلة الطيران لكي تتعذر إعادتهم الي الدولة التي طاروا منها (ابتكار عراقي خالص يعود الي تسعينات القرن الماضي)! عندها اتجهت الحكومة الي التفكير في إعادة هؤلاء الي بلدهم نفسه. غير ان هذا الخيار كان يعني حملاً كبيرا من المتاعب، وذلك لأن السفارة العراقية في ستوكهولم كانت مصدر صداع للحكومة السويدية بدلا من أن تكون مصدراً للتعاون. ويعود أصل الخلل الي سياسة المحاصصة المتبعة في العراق والتي منحت حقيبة الخارجية الي التحالف الكردستاني مما أحدث اختلاطا وفوضي في الأولويات أظهرا السفارات العراقية راعية للمصالح الكردية حصراً وليس العراقية، بل وأحياناً علي حساب المصالح العراقية كما سنري في هذه القضية. من جهة، كان الأكراد يأتون الي السويد لطلب اللجوء "هرباً" من الأوضاع في إقليم كردستان العراق كما يقولون، ومن جهة ثانية تنشط السفارة العراقية في محاولة جذب الاستثمارات السويدية الي الاقليم الكردي (وخصوصا من أجل تفعيل خط الطيران الذي أوقفته السويد لأسباب أمنية) نظراً للسلام والرخاء الذي يتمتع بهما، كما يقولون أيضا! وحدثت عدة فضائح في هذا السياق بينت للسلطات السويدية انتفاء وجود حاجة حقيقية لأكراد العراق لطلب اللجوء وأنهم يقومون بذلك غالباً كنوع من الاستثمار. لكن أكبر تلك الفضائح تفجرت في مطلع 2007 بقيام السفير "العراقي" آنذاك أحمد بامرني، وهو من حزب الرئيس جلال طالباني، بإصدار 26 ألف جواز سفر عراقي لأشخاص سوريين وإيرانيين وأتراك ولبنانيين ليطلبوا بواسطتها اللجوء في السويد علي أنهم عراقيون أكراد من مدينة كركوك! لم يعرف حتي الآن مقدار المكسب المادي الذي جناه السفير من هذه العملية ولكن مكسبها السياسي المكشوف هو إضافة هذه ال 26 ألف اسم الي نفوس أكراد مدينة كركوك، المتنازع عليها والغنية بالنفط، لدعم مطالبة الأكراد بالمدينة علي أساس أنهم الغالبية فيها (تكررت الفضيحة بكل تفاصيلها علي يد سفير العراق الكردي في جنيف، الأمر الذي يشير الي احتمال كون العملية مخططة). حيلة ولكن كان النموذج القديم من جواز السفر العراقي قابلا للتلاعب به مما سهل إنجاح هذه العملية. فقررت السلطات السويدية وقف التعامل مع ذلك النموذج، وكذلك عدم منح اللجوء الي أكراد العراق ما لم يثبت صاحب الطلب تعرضه لتهديد موجه إليه شخصياًّ. ولم يمس القرار بقية سكان العراق، الأمر الذي عدّه الساسة الأكراد موجهاً ضدهم فامتنعوا عن التعاطي مع القرار: فمن ناحية أخذ مطار أربيل (عاصمة إقليم كردستان العراق) يرفض استقبال أي من الأكراد المطرودين من السويد، ويعيدهم علي الطائرة نفسها بدعاوي وذرائع مختلفة! ومن ناحية أخري صرح السفير "العراقي" في ستوكهولم لصحيفة سويدية بأن معظم طالبي اللجوء العراقيين هم خريجو جامعات وعلي السويد الاحتفاظ بهم حتي يتحسن الوضع في العراق لكي يعودوا ويبنوا بلدهم! عندها رفع السويديون الراية البيضاء. ففي يوليو 2007 أعلنوا ان قرار عدم منح اللجوء لن يقتصر علي الأكراد وسيشمل من الآن جميع العراقيين. وجاء ذلك بمثابة رسالة ترضية للأكراد مهد فيها السويديون لدعوتهم الرسمية الي مفاوضات من أجل حل شامل لمشكلة اللاجئين. حرب الصلاحيات وهكذا وصل في الأول من سبتمبر من العام نفسه وزيرا الخارجية والهجرة السويديان الي بغداد وفي حقيبتيهما مشروع اتفاقية لاستعادة العراق لمواطنيه المرفوضة طلبات لجوئهم في السويد، يحدوهما أمل بأنهما أخيراً سيتفاوضان مع الحكومة العراقية نفسها بدلا من التفاوض مع سفير قومي يرعي مصالح مجموعته العِرقية. لكنهما حين وصلا استقبلتهما مفاجأة من عيار ثقيل أكّدت حالة فوضي الحكم في العراق. فبدلاً من لقاء رئيس الجمهورية جلال طالباني (الذي هو في الوقت نفسه رئيس الاتحاد الوطني الكردستاني) كما كان مقرراً أخبر الوزيران بأن "السيد الرئيس" غير موجود حاليا في بغداد وإنما في أربيل (عاصمة اقليم كردستان) وأنه يسره استقبالهما هناك هو ورئيس الاقليم مسعود البرزاني! لم تنطو الحيلة علي وزير الخارجية السويدي المحنك كارل بيلت الذي أدرك علي الفور انها حركة مقصودة ولأهداف سياسية: فزيارة رسمية لوزير خارجية أوروبي الي أربيل ستقوي أولاً مكانة التحالف الكردستاني في الساحة السياسية المحلية (البرلمان والحكومة) ما يعني توريط السويد في اللعبة السياسية في العراق، كما ستورط السويد (وهو أخطر ما في الأمر) بخطوة عدائية ضد تركيا علي الجانب الآخر من الحدود، ولابد ان كارل بيلت قد تملكه الاستغراب من تصور الساسة الأكراد ان وزراء خارجية العالم بهذه السذاجة ويمكن توريطهم بهذه السهولة. وطبعاً رفَضَ الوزيران السفر الي أربيل، فثار غضب الزعيمين الكرديين وانعكس ذلك علي المفاوضات الصعبة التي جرت في بغداد وعلي وجه كارل بيلت المتوتر أثناء حفل إعادة فتح السفارة السويدية. في هذه المفاوضات التي قادها عن الجانب العراقي وزير الخارجية الكردي هوشيار زيباري، كان يتأكد لبيلت وزميله أكثر فأكثر أنهما لا يتفاوضان مع العراق إلا بالاسم إنما الأمر يتعلق بمبادلة مطاليب سويدية بمكاسب كردية حصراً، وأن عليهما التعامل مع هذا الواقع كما هو حيث ان نظام المحاصصة والمساومات بين الكتل البرلمانية في العراق أتاحت للأكراد فرصة الانفراد وحدهم بهذا الملف. وفي النهاية سلمت الحكومة السويدية بالأمر الواقع ولبّت للأكراد مطاليبهم مقابل تخليص السويد من اللاجئين العراقيين. ثم تم توقيع مذكرة التفاهم بين البلدين في ستوكهولم في 18 فبراير 2008، وكان مكسب السويد فيها هو تعهد السلطات العراقية باستقبال اللاجئين المطرودين، ومكسب العراق هو إعادة فتح السفارة السويدية في بغداد (بشكل رمزي وبدون أية صلاحيات!) أما الأكراد فحصلوا علي ما يلي: إعادة فتح خط الطيران بين ستوكهولم وكردستان العراق (الذي تشغّله وتشغّل مطاراته رؤوس أموال تابعة للأسرتين الحاكمتين في اقليم كردستان) دعم العلاقات التجارية وتشجيع الشركات السويدية علي الاستثمار في الاقليم فتح قنصلية سويدية في أربيل. ومع ان هذه القنصلية ستكون محدودة الصلاحيات وضئيلة الأهمية عمليا إلا ان الأكراد استقتلوا لتلبية هذا الشرط وعدوه مكسبهم السياسي الأهم في كل الاتفاقية، لما يحمله وجود ممثلية لدولة أوروبية في اقليم كردستان من رمز علي الصعيد الدولي وتطلعات قومية. أما الخاسر الوحيد في هذه الاتفاقية فهو اللاجئ العراقي. فها هو بلد آخر يغلق أبوابه في وجهه فيما الحياة في وطنه تكاد تكون مستحيلة. يذكر ان البنود الجوهرية في الاتفاقية بقيت طي الكتمان في العراق، وذكر في الأخبار عن اتفاقية للتعاون بين البلدين لكن لا شيء عن مصير اللاجئين. وعندما سئل وزير الخارجية هوشيار زيباري عن هذه النقطة في حينه أنكرها ببساطة! وحتي بعدما صارت أفواج اللاجئين المطرودين من السويد تتوالي علي بغداد ظلت الحكومة العراقية تنفي "نظرية المؤامرة" ووجود صفقة، ملخصة الموضوع بكلام حماسي عن ضرورة عودة العراقيين لبناء وطنهم.