جاءت جوائز الدول في الإبداع التشكيلي هذا العام بصورة غير تقليدية.. تجاوزت الحدود المتعارف عليها في الفنون.. فقد فاز بجائزة «مبارك» الفنان مصطفي حسين.. وهي أكبر جائزة قومية في مصر المحروسة وهنا تربع فن الكاريكاتير علي عرش الجوائز.. هذا الفن الذي حقق من خلاله «درش» بقدراته التعبيرية الهائلة مكانة كبيرة في قلوب وعقول الشعب المصري.. وهو فن يكشف ويواجه ويتصدي.. أيضا يرسم البسمة والضحكة.. يقتحم الحياة بلغته النافذة الخاطفة كالبرق السريع.. ويعمد إلي تغيير السلوكيات السلبية في حرية شديدة مسكونة بالرمز بعيدا عن المباشرة والقوالب المحفوظة. كما فازت الزميلة الناقدة فاطمة علي المسئولة عن «ألوان وظلال» بجائزة الدولة التشجيعية في الدراسات النقدية «فنون الميديا».. وهي جائزة أضيفت هذه الدورة تأكيدا علي الاهتمام بفنون ما بعد الحداثة. وفاطمة علي قدمت من قبل سبعة كتب في النقد التشكيلي حول: فان جوخ بيكاسو رمبرانت سلفادور دالي ليوناردو دافنشي فلاسكيز وكتاب «لوحات مذابح الأبرياء 50 فنانا يؤرخون لمذابح ارتكبها اليهود ضد أطفال بيت لحم» وهو كتاب بالغ الأهمية. أما موضوع الجائزة فقد قدمت من خلاله مجموعة من الدراسات في فنون الميديا.. ما أحوج شبابنا إليها الآن.. فهي تمثل إضافة وإضاءة في الفنون البصرية.. تعكس لما يحدث حاليا بعالمنا من تحولات في عصر الإليكترون والثورة الرقمية الديجيتال. وفاطمة علي تقول: «الظاهرة الرئيسية لفنون الميديا المتعددة أو الوسائط الحديثة في تشكيلها الفني والزمني أو الفن في الزمن.. والفن متعدد الوسائط يمكن أن يوصف كعمل فني مكون من وسائط تمزج الفن بالتكنولوجيا.. ومصطلح وسائط فنية متعددة يرجع استخدامه إلي وسائط مختلفة معا لنقل المعلومة «نصوص سماع جرافيك رسوم متحركة فيديو ومؤخرا اتحد الكمبيوتر ومعطيات أجهزة الديجتيال».. كل التهاني للزميلة فاطمة وأمنيات بالتقديرية. هو وبيكار ورخا نعود إلي فناننا «درش» الذي قال عنه أستاذه بالفنون الجميلة حسين بيكار «كانت رقبتي تطول وتطول حتي كادت تلامس السحاب وأنا أقرأ نبأ حصول الفنان «مصطفي حسين» علي جائزة أحسن رسام كاريكاتيري في الصحافة المصرية.. كانت فرحتي طاغية عندما قرأت هذا الخبر ذلك لأنه كان لي الشرف أن أكون أحد الأساتذة الذين تتلمذ عليهم هذا الفنان العملاق حجما وفنا وخلقا. إن وصول الإنسان إلي النجومية ليس بالأمر اليسير.. وأن يصبح الفنان حبيبا للجماهير أمر باهظ الثمن.. ووجود أي إنسان ذي قيمة في أي بلد يعتبر ثروة قومية تضاف إلي رصيدها الحضاري ومصطفي حسين يكاد يكون الوحيد الذي يستطيع أن يجعل من اللوحة الكاريكاتيرية عملا فنيا متكاملا.. وخاصة إذا عالجها بالألوان والظلال.. وما يتطلبه التصوير من أصول وقواعد. أما أستاذه في فن الكاريكاتير محمد عبدالمنعم رخا فيقول: مصطفي حسين يعد أكفأ ريشة في الصحافة المصرية.. وهو أيضا موهبة في موهبة في موهبة!! بدون أي مجاملة. ويقول عنه ابن جيله الفنان حجازي: مصطفي حسين فارس من فرسان الكاريكاتير المصري.. وهو واحد من علامات الجيل التالي لرخا وعبدالسميع.. أما في البورتريه «الصورة الشخصية» والرسوم التعبيرية فهو في مقدمة أبناء جيله والأجيال التالية له.. بل يتجاوزهم بمسافة متسعة.. فقد شكل مساحة شديدة التميز تمثل إضافة كبيرة في الفن الصحفي. قاهرة المعز في يوم 7 مارس من عام 1935.. ولد فناننا مصطفي حسين ونشأ في منزل بميدان «بيت القاضي» بجوار مسجد قلاوون وقصر الشوق وبين القصرين.. في قلب قاهرة المعز الفاطمية.. نفس المنطقة التي نشأ فيها وامتلأ بها نجيب محفوظ.. وظلت مسرح رواياته وقصصه.. ودنيا عالمه الفني. وقد عرف الرسم قبل دخوله المدرسة ومثل كل الأولاد كان يتباري في طفولته في الرسم بالطباشير علي الأرض والأحواش وعلي الحيطان وكانت رسومه في تلك الفترة تخطيطات تجسد شخصية الملك فؤاد والملك فاروق وأنور وجدي وليلي مراد.. وأعجب ما كان يطربه في الرسم في ذلك الوقت شارب الملك فؤاد. وظل يرسم إلي أن وصل إلي المرحلة الثانوية.. هناك كان علي موعد مع أستاذه فريد يعقوب أستاذ التربية الفنية بمدرسة فؤاد الأول الثانوية بالعباسية.. ومنذ اللقاء الأول به أصبحت حجرة الرسم مكانه المفضل بالمدرسة.. فحين رأي يعقوب رسومه توقف أمام خطوطه بجدية شديدة وبدأ يخصه باهتمام شديد.. اهتمام أستاذ يثق كل الثقة في تلميذه وقدراته الإبداعية.. ويرغب كل الرغبة في احتضانه حتي يصل إلي بر الأمان. وفي عام 1952 التحق بكلية الفنون الجميلة.. وانتظم في الدراسة الأكاديمية بحب وشغف وقد امتدت من دراسة الموديل والطبيعة الصامتة إلي فن المنظر.. وفي نفس العام بعد انتصافه تقريبا عمل بالصحافة.. كان أصغر صحفي في ذلك الوقت.. عمره 16 سنة ويرجع الفضل في التحاقه بصاحبة الجلالة إلي أستاذه بالفنون الجميلة أسعد مظهر الذي كان يعمل في ذلك الوقت مستشارا فنيا لدار الهلال. وكانت البداية في مجلة «الاثنين والدنيا» التي كانت تصدرها دار الهلال وبدأ يرسم «الأليسترشن» أي الرسم التعبيري المصاحب لقصة أو موضوع صحفي والرسم في هذه الحالة يمثل عاملا تزينيا وفي نفس الوقت يضيء علي الفكرة ويجذب القارئ إلي قراءة المادة المكتوبة.. ومع تلك الرسوم قام برسم الأغلفة أيضا. أما مولد مصطفي حسين كرسام كاريكاتير فكان مع صدور العدد الأولي من جريدة «المساء» في 16 أكتوبر من عام 1956 والتي كان يرأس تحريرها خالد محيي الدين وكانت تصدر كل يوم أحد عددا أسبوعيا يتضمن صفحات كاريكاتيرية كاملة يرسمها معه الفنانون حسن حاكم وبهجت عثمان وفؤاد تاج الدين.. وقد أثر ذلك علي انتظامه في الكلية حتي كاد أو أوشك أن يتخلي عن الدراسة.. وظل عامين زيادة بسبب تغيبه المستمر.. وعندما وصل إلي البكالوريوس.. جاء مشروع التخرج أشبه بنكتة طريفة.. فقد ذهب إلي الكلية فوجد زملاءه قد انتهوا من مشاريعهم ولم يبق سوي ثلاثة أيام وعليه أن يقدم خمس لوحات كبيرة في مشروع متكامل في هذا الوقت الضيق.. وجاء تفكيره في عمل المشروع حول دنيا السيرك.. وهنا جمع مصطفي حشدا من زملائه الذين فرغوا من أعمالهم وبعض الموديلات والعمال وأوقفهم في طابور عرض وقام برسمهم مقابل جنيه في الساعة وانتهي من المشروع في وقت قياسي لم يحدث من قبل من بداية تاريخ الكلية.. وجاء يوم التسليم والتحكيم.. وبعد مناقشات ساخنة من الأساتذة. جاء رأي الأستاذ الفنان يوسف كامل الذي قال: إن المشروع الذي تقدم به الطالب يستحق الامتياز بمرتبة الشرف.. واستجابت هيئة التحكيم وحصل علي البكالوريوس أخيرا وعلق الشهادة علي الحائط!! قلعة الفن الصحفي تعد أخبار اليوم قلعة الفن الصحفي.. قلعة يتألق فيها فن الكاريكاتير بمشاركة الكاتب والرسام.. وفيها بدأ مصطفي حسين رحلة جديدة مع عملاقين من عمالقة الصحافة الكبار: علي ومصطفي أمين ومن بين أفكارهما التي كانت تضيف الجديد كل يوم إلي الصحيفة تفكيرهما في عمل كاريكاتير يومي لجريدة الأخبار.. واقترحا أن يحدث لقاء كل يوم بينه وبين أحمد رجب وقد بدأ الاقتراح كفكرة عام 1973 وتم التنفيذ وعقدت الاجتماعات في يناير من عام 1974. يقول مصطفي حسين: في اجتماع الكاريكاتير لم نكن نسمح بفتح الباب أو الرد علي التليفون لأي إنسان سوي مصطفي أمين لأننا نعلم أن لديه أفكارًا كاريكاتيرية جديدة دائما.. فهو إنسان وكاتب ساخر وفيلسوف. أما أحمد رجب فبطبيعته كاتب ساخر يصنع الكاريكاتير بفكره بعمقه بإحساسه.. بكل نبضه.. إنه يعيش الفكرة ليل نهار، وهو يصنع ضحكة ميلودرامية في صورة ساخرة.. إنه بركان من الغضب يتعجب لحالنا.. يصرخ أحيانا وأشفق عليه من براكين ثورته. وأول شخصية تناولناها معا أنا وأحمد رجب كانت «عبده الروتين» باعتبار أن له جذورا في المجتمع المصري.. فهو موجود في مصالحنا الحكومية.. كما رسمنا معا صورا أخري لشخصيات من المجتمع بهدف الثورة علي صور الحياة السلبية في حياتنا وجاءت أسماؤها: الكحيتي.. كمبورة.. عزيز بك الأليت.. علي الكوماندا.. قاسم السماوي.. أنا فلاح كفر الهنادوة، فهو رجل يمثل الشعب المصري.. يقول كلاما كثيرا ويناقش علي مستوي رئيس الوزراء.. من ضمن كلماته مثلا: «هي بلدنا دي بلد الأكابر؟!». وفي رسومي استقي الشخصيات من وحي حي الحسين.. فقد قضيت فترة في هذا الحي العريق سمحت لي بالتعرف علي نماذج وشرائح عديدة من البشر. فن البورتريه وتمتد إبداعات مصطفي حسين من فن الكاريكاتير إلي رسوم الأطفال، فقد قدم عشرات الكتب التي تألقت بسحر ريشته اللماحة الذكية التي تخاطب الأطفال بدهشة وبساطة وعمق وإشراق. أما بالنسبة لفن البورتريه فقد قدم مساحة متسعة في هذا المجال.. رسم أكثر من 200 صورة شخصية وهي صور تسجيلية فيها أسلوبه الفني. وكانت أول صورة شخصية رسمها في حياته.. للرئيس محمد نجيب وقد جاء في زيارة إلي حي الحسين.. فكلفه أبناء الحي العريق برسم صورة ضخمة له تتصدر الاحتفال به.. فصوره بملامحه المهيبة. بعد ذلك رسم عشرات الصور بتكليف من هيئات كنوع من التسجيل والتخليد مثل رواد المحكمة الدستورية العليا من أول نشأتها وأعضاؤها من مستشارين ورؤساء للمحكمة.. وأيضا نجوم الفن والغناء في أكثر من 20 بورتريه بتكليف من معهد الموسيقي العربية مثل عبدالوهاب وأم كلثوم ومنيرة المهدية وسيد درويش والقصبجي وفريد الأطرش وعبدالحليم وغيرهم. كما كلف من قبل الهيئة المصرية العامة للكتاب برسم صور شخصية لرموز الفكر والفن والأدب والسياسة مثل العقاد وطه حسين ومي زيادة وملك حفني ناصف ونبوية موسي وسيد العكماوي وأمينة السعيد. يقول مصطفي حسين: ومن أهم الصور التي رسمتها بورتريه للرئيس حسني مبارك وهو موجود ببيت الرئيس بالصالون.. وهناك حكاية طريفة حول هذا البورتريه فقد كان الدكتور مصطفي الفقي في زيارة للسيد الرئيس وعندما طالع صورته.. قال: حتي الأجانب أيضا يا سيادة الرئيس رسموك.. وفي الخلفية رسموا مصر كلها وراءك!!.. وكان رد سيادته: دي صورة رسمها مصطفي حسين!! وقد عرفت هذا من خلال اتصال تليفوني دار بيني وبين د. مصطفي فقد أبلغني بما حدث بعد مغادرته بيت الرئيس مباشرة ولم يكن يعرف أنني رسام بورتريه!! ويضيف وهو يبتسم: وقد التقيت بسيادة الرئيس لأول مرة في معرض للكاريكاتير داخل أخبار اليوم في المبني الجديد مع افتتاحه.. وحضر معه موسي صبري وأحمد رجب وقُدمت له، و عندما رآني قال: مالك طويل كده.. فقلت والله ما أقصد يا ريس!! وكان هذا أول لقاء لي معه.. ثم طلب يوما مقابلتنا أنا وأحمد رجب وانتابنا القلق أن تكون المقابلة نوعا من التنبيه والتنويه للكف عن الهجوم ولكننا وجدنا فيه البساطة الشديدة.. وشعرت أنني مع أخي الكبير.. وكان اللقاء حول أهمية الكاريكاتير كدور اجتماعي. وفي النهاية يقول «درش»: الحياة كلمة كبيرة أحاول أن أعيشها بمفهوم فنان وأن أستوعبها بعقل حكيم وأن استثمر كل لحظة منها في سبيل عمل أي شيء مفيد.. شيء يضيف.. يبني ولا يهدم. وأنا لا أتخيل أنني أعمل شيئا غير الرسم ولا أري نفسي إلا رساما والعمل الوحيد الذي أصلح له هو الرسم ولا شيء غير الرسم. تحية وتهنئة إلي فناننا الكبير الذي رفع شأن صاحبة الجلالة وحملها علي الأعناق بريشته الساخرة الساحرة.