استطاع صلاح عبدالصبور أن يضع لمسات واضحة وبارزة فى تاريخ الشعرية المصرية والعربية على السواء، مضيفا فى مجالى الشعر والمسرح الشعري، مستلهما التراث، ومستخدما نبرات سياسية داخل النص، وفى بدايته الشعرية انتمى عبدالصبور لجماعة «الجمعية الأدبية»، التى كانت تضم: عبدالغفار مكاوى، وعز الدين إسماعيل، وأحمد كمال زكى، وفاروق خورشيد، وعبدالرحمن فهمي.. وغيرهم، وكانت هذه الجماعة تعقد ندوات بشكل شبه منتظم، وكان أعضاؤها ينشرون إبداعاتهم فى مجلة «الأدب»، التى أصدرها أمين الخولي. وقد وصفه الناقد الأدبى الدكتور جابر عصفور، بأنه أهم شاعر فى مصر بعد أحمد شوقي، فقد خرجا من الشعر الغنائى إلى المسرح، وتركا تراثا مسرحيا شعريا يظل فى مرتبة متميزة، وأنه جاء لكى يغير الاتجاه الشعرى والرؤية؛ حيث إنه قام بتغيير تقنيات الشعر، وقد اعتمد على رموز صوفية تتحدث عن الوجود والعالم الآخر؛ فهذه الرموز الصوفية لم تكن مطروحة إلا من خلال «عبدالصبور»، وتميزت أعماله بالجراءة، ومتابعة الحركة السياسية، وكانت التحولات السياسية الكبرى، التى شهدتها المنطقة العربية، ولا سيما مصر بعد نجاح ثورة 23 يوليو لعام 1952، ترك أثرا واضحا على الشعر، وكان من أبرز شعراء تلك الفترة صلاح عبدالصبور، فؤاد حداد، صلاح جاهين، عبدالرحمن الأبنودي، نجيب سرور، أحمد فؤاد نجم، أمل دنقل. تأثير الهزيمة حين وقعت النكسة فى العام 1967، أصاب المشهد الشعرى وجوم وصمت، ولم يستوعب الكثير من الشعراء تلك الهزيمة التى حطمت كل الأحلام المتمثلة فى البناء والتعمير وتحرير الأوطان والقضاء على المستعمر وأعوانه، ومن حاول من الشعراء استيعاب تلك اللحظة، جاءت قصائدهم صراخا وصخبا لا ينتهي، معبرا عن تلك الحالة غير المتوقعة التى سيطرت عليهم، وكانت قصيدة «إيه يعني» لأحمد فؤاد نجم، من أبرز الأمثلة على ذلك الصراخ الذى يذكر الناس أننا ما زلنا أحرار حين يقول: «إيه يعنى لما يموت مليون/ أو كل الكون/ إيه يعنى فى العقبة جرينا/ ولا فِ سينا/ هى الهزيمة تنسينا/ إننا أحرار/ إيه يعنى شعب فِ ليل ذلة/ ضايع كله». وظلت القصائد التى تتمتع بفنية وحرفية، والتى جمعت ذلك الحزن الدفين الذى أصاب الوطن وأصاب زعيمه، تمثل علامات فى تاريخ المرحلة، ساعتها كتب الأبنودى «عدى النهار»، وكتب نزار قبانى «هوامش على دفتر النكسة»، وكتب أمل دنقل «البكاء بين يدى زرقاء اليمامة»، التى قال فيها: «أيتها العرافة المقدَّسة/ جئتُ إليك/ مثخنًا بالطعنات والدماءْ/ أزحف فى معاطف القتلى، وفوق الجثث المكدّسة/ منكسر السيف مغبَّر الجبين والأعضاءْ/ أسأل يا زرقاءْ/ عن فمكِ الياقوتِ/ عن نبوءة العذراء/ عن ساعدى المقطوع/ وهو لا يزال ممسكًا بالراية المنكَّسة/ عن صور الأطفال فى الخوذات/ ملقاةً على الصحراء». وفى اللحظة التى مات فيها الزعيم جمال عبدالناصر، أدرك الكل أنهم فقدوا المخلص وفقدوا الدليل وبات الأمر مقلقا للغاية، كان المواطنون يشعرون أنهم بالفعل فقدوا الأب وباتوا يتامى، وعن تلك اللحظة يظل السؤال عن حقيقة موته قائما فى قصيدة «عبدالصبور»، حين يقول: «يتجمّعون على موائد السهر الفقير/ معذبين ومطرقين/ الدمع سقياهم وخبزهم التأوُّه والأنين/ يلقون بين الدمعتين زفير أسئلة/ تُخشخش مثل أوراق الخريف الذابلات/ هل مات من وهب الحياة حياته/ حقًّا أمات؟». التغنى بالانتصار فى ملحمة العبور وانتصار أكتوبر، شاركت القصيدة بالاحتفال بمثل هذه اللحظات، فقد كتب الشاعر محمد إبراهيم أبو سنة قصيدة «خفقة العلم» التى يقول فيها: «أفديك يا سيناء/ وزغردت فى قلبها السماء/ وانهمر الجنود/ يسابقون الريح والأحلام/ يقبلون كل ذرة من الرمال/ وترسم الدماء/ خرائط النهار والمساء/ على صحائف التاريخ والجبال». وكتب صلاح جاهين عن أكتوبر فقال: «وحياة عيون مصر اللى نهواها/ وأكتوبر اللى كما النشور جاها/ بلاش نعيد فى ذنوب عملناها». ومن أشهر ما كُتب عن تلك الملحمة قصيدة عبدالرحيم منصور التى لحنها بليغ حمدي، ويقول فيها: «بسم الله… الله أكبر بسم الله بسم الله/ بسم الله… أذن وكبر بسم الله بسم الله/ نصرة لبلدنا بسم الله بسم الله/ بادين ولدنا بسم الله بسم الله/ وأدان على المدنى بسم الله بسم الله/ بيحيى جهدنا بسم الله بسم الله»، وكتب عبدالرحمن الأبنودى «صباح الخير يا سينا/ رسيتى فى مراسينا»، والتى غناها عبدالحليم حافظ. وشهدت المحطات الشعرية بزوغ موهبة بيرم التونسى وفؤاد حداد وصلاح جاهين وسيد حجاب وعبدالرحمن الأبنودى وأحمد فؤاد نجم، وثبتت دعائم شعر العامية وأصبح بجدارة قادرا على منافسة شعر الفصحى دون خجل أو تخاذل، وأثبتت قصيدة العامية مدى قدرتها على التعاطى مع قضايا الذات والوطن، ف«جاهين» برز كفيلسوف ومتأمل فى رباعياته، وأيضا مقاوما ومناضلا فى قضايا بلاده. وفى الوقت ذاته، كانت له معاركه الأدبية والفنية مع المخالفين له فى العديد من مجالات الإصلاح الاجتماعى والسياسي؛ فقد أثارت أغانيه الكثير من الجدل الثقافى العام فى مصر والأقطار العربية، ومن رباعياته نقرأ كلماته: «غسل المسيح قدمك يا حافى القدم/ طوبى لمن كانوا عشانك خدم/ صنعت لك نعليك أنا يا أخي/ مستنى إيه.. ما تقوم تدوس العدم/ عجبي». ونقرأ: «عجبتنى كلمة من كلام الورق/ النور شرق من بين حروفها وبرق/ حبيت أشيلها ف قلبي.. قالت حرام/ ده أنا كل قلب دخلت فيه اتحرق/ عجبي». وطورت مرحلة الشاعر نجيب سرور تطورا كبيرا لفن الموال والأغنية الشعبية، اهتم فى نصوصه باستلهام التراث الشعبي، وإلى جانب قصائده كتب المسرحية الشعرية والنثرية، وقد تأثر بهزيمة النكسة جدا، وقد زادت من اغترابه وعزلته، وظل متابعا لهموم الوطن العربي، فعندما وقعت أحداث «أيلول الأسود» بحق اللاجئين الفلسطينيين فى الأردن كتب فيها نجيب مسرحيته «الذباب الأزرق». وتعامل الشاعر أمل دنقل باحترافية كبيرة مع التراث، فقد قرأ التراث العربى بدقة، واستوحى أعظم قصائده من خلالها، واعتمد الميثولوجيا العربية بديلا عن الغربية التى باتت موضة فكرية لدى بعض المثقفين والشعراء، فكان مصدره القرآن الكريم والتاريخ العربى والإسلامي، والتراث التوراتى والإنجيلي، فجاءت قصيدته لتأكيد الهوية العربية من خلال بعث الذاكرة التاريخية.