استخراج اسماء المشمولين بالرعاية الاجتماعية الوجبة الاخيرة 2024 بالعراق عموم المحافظات    تمويل السيارات للمتقاعدين دون كفيل.. اليسر    مأساة غزة.. استشهاد 10 فلسطينيين في قصف تجمع لنازحين وسط القطاع    سفير تركيا بالقاهرة: مصر صاحبة تاريخ وحضارة وندعم موقفها في غزة    نيفين مسعد: دعم إيران للمقاومة ثابت.. وإسرائيل منشغلة بإنقاذ رأس نتنياهو من المحكمة    رئيس إنبي: من الصعب الكشف أي بنود تخص صفقة انتقال زياد كمال للزمالك    «هساعد ولو بحاجه بسيطة».. آخر حوار للطفلة جنى مع والدها قبل غرقها في النيل    رابط نتائج السادس الابتدائى 2024 دور أول العراق    اليوم.. ختام مهرجان إيزيس الدولي لمسرح المرأة بحضور إلهام شاهين وفتحي عبد الوهاب    أترك مصيري لحكم القضاء.. أول تعليق من عباس أبو الحسن على اصطدام سيارته بسيدتين    افتتاح أول مسجد ذكي في الأردن.. بداية التعميم    بيكلموني لرامي جمال تقترب من 9 ملايين مشاهدة (فيديو)    تحرك برلماني بشأن حادث معدية أبو غالب: لن نصمت على الأخطاء    دراسة: 10 دقائق يوميا من التمارين تُحسن الذاكرة وتزيد نسبة الذكاء    ضميري يحتم عليّ الاعتناء بهما.. أول تعليق من عباس أبو الحسن بعد حادث دهسه سيدتين    «أعسل من العسل».. ويزو برفقة محمد إمام من كواليس فيلم «اللعب مع العيال»    نائب محافظ بنى سويف: تعزيز مشروعات الدواجن لتوفيرها للمستهلكين بأسعار مناسبة    نشرة التوك شو| تفاصيل جديدة عن حادث معدية أبو غالب.. وموعد انكسار الموجة الحارة    جوميز: لاعبو الزمالك الأفضل في العالم    هل تقبل الأضحية من شخص عليه ديون؟ أمين الفتوى يجيب    حلمي طولان: حسين لبيب عليه أن يتولى الإشراف بمفرده على الكرة في الزمالك.. والفريق في حاجة لصفقات قوية    زيادة يومية والحسابة بتحسب، أسعار اللحوم البتلو تقفز 17 جنيهًا قبل 25 يومًا من العيد    نائب روماني يعض زميله في أنفه تحت قبة البرلمان، وهذه العقوبة الموقعة عليه (فيديو)    إيرلندا تعلن اعترافها بدولة فلسطين اليوم    النائب عاطف المغاوري يدافع عن تعديلات قانون فصل الموظف المتعاطي: معالجة لا تدمير    بينهم طفل.. مصرع وإصابة 3 أشخاص في حادث تصادم سيارتين بأسوان    "رايح يشتري ديكورات من تركيا".. مصدر يكشف تفاصيل ضبط مصمم أزياء شهير شهير حاول تهريب 55 ألف دولار    أهالي سنتريس يحتشدون لتشييع جثامين 5 من ضحايا معدية أبو غالب    الأرصاد: الموجة الحارة ستبدأ في الانكسار تدريجياً يوم الجمعة    روسيا: إسقاط طائرة مسيرة أوكرانية فوق بيلجورود    السفير محمد حجازي: «نتنياهو» أحرج بايدن وأمريكا تعرف هدفه من اقتحام رفح الفلسطينية    دبلوماسي سابق: ما يحدث في غزة مرتبط بالأمن القومي المصري    وثيقة التأمين ضد مخاطر الطلاق.. مقترح يثير الجدل في برنامج «كلمة أخيرة» (فيديو)    ب1450 جنيهًا بعد الزيادة.. أسعار استخراج جواز السفر الجديدة من البيت (عادي ومستعجل)    حظك اليوم برج العقرب الأربعاء 22-5-2024 مهنيا وعاطفيا    ملف يلا كورة.. إصابة حمدي بالصليبي.. اجتماع الخطيب وجمال علام.. وغياب مرموش    الإفتاء توضح أوقات الكراهة في الصلاة.. وحكم الاستخارة فيها    عاجل.. مسؤول يكشف: الكاف يتحمل المسؤولية الكاملة عن تنظيم الكونفدرالية    جوميز: عبدالله السعيد مثل بيرلو.. وشيكابالا يحتاج وقتا طويلا لاسترجاع قوته    طريقة عمل فطائر الطاسة بحشوة البطاطس.. «وصفة اقتصادية سهلة»    موعد مباراة أتالانتا وليفركوزن والقنوات الناقلة في نهائي الدوري الأوروبي.. معلق وتشكيل اليوم    «معجب به جدًا».. جوميز يُعلن رغبته في تعاقد الزمالك مع نجم بيراميدز    دعاء في جوف الليل: اللهم ألبسنا ثوب الطهر والعافية والقناعة والسرور    بالصور.. البحث عن المفقودين في حادث معدية أبو غالب    وزيرة التخطيط تستعرض مستهدفات قطاع النقل والمواصلات بمجلس الشيوخ    أبرزهم «الفيشاوي ومحمد محمود».. أبطال «بنقدر ظروفك» يتوافدون على العرض الخاص للفيلم.. فيديو    قبل اجتماع البنك المركزي.. سعر الدولار مقابل الجنيه المصري اليوم الأربعاء 22 مايو 2024    شارك صحافة من وإلى المواطن    إزاى تفرق بين البيض البلدى والمزارع.. وأفضل الأنواع فى الأسواق.. فيديو    مواصفات سيارة BMW X1.. تجمع بين التقنية الحديثة والفخامة    هل ملامسة الكلب تنقض الوضوء؟ أمين الفتوى يحسم الجدل (فيديو)    المتحدث باسم مكافحة وعلاج الإدمان: نسبة تعاطي المخدرات لموظفي الحكومة انخفضت إلى 1 %    خبير تغذية: الشاي به مادة تُوسع الشعب الهوائية ورغوته مضادة للأورام (فيديو)    أخبار × 24 ساعة.. ارتفاع صادرات مصر السلعية 10% لتسجل 12.9 مليار دولار    "مبقيش كتير".. موعد وقفة عرفات وعيد الأضحى 2024    حجازي: نتجه بقوة لتوظيف التكنولوجيا في التعليم    وزير الري: إيفاد خبراء مصريين في مجال تخطيط وتحسين إدارة المياه إلى زيمبابوي    استعدادات مكثفة بجامعة سوهاج لبدء امتحانات الفصل الدراسي الثاني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نبوءة «قاسم» عن الإرهاب.. «المهدي» (1-2)
نشر في البوابة يوم 19 - 11 - 2015

من بين أعمال عبدالحكيم قاسم تبرز رواية «المهدى» كنبوءة فرغ من كتابتها إبان منفاه الاختيارى فى ألمانيا عام 1977، ونشرها للمرة الأولى عن دار التنوير ببيروت عام 1982 مع رواية قصيرة أخرى فى كتاب بعنوان «روايتان»، وكان المدهش أنه استطاع من خلال مسرح الرواية، وهو قرية «محلة الجياد» أن يتنبأ بخطر صعود الإسلام السياسى وجماعة الإخوان المسلمين، ومحاولاتهم طيلة الوقت للوصول إلى السُلطة، وجاءت فى جهود الشعبة الإخوانية لاستقطاب أهل القرية تحت ادعاء تغيير الأحوال، مُستغلين الصراع الدموى الدائر بين أكبر عائلتين على السُلطة -العمودية- مُبرزًا التحولات التى بدأت تطرأ على القرية «وهكذا أصبح عنف الناس منظمًا وموجهًا، تبرز نظامه وتوجهاته تأويلات لمجموعة دينية محددة، مجموعة تستبدل بمؤسسات المجتمع المدنى تجمعاتها الخاصة، وتحل محل الدولة المدنية فى كل ما تراه يمس مصلحة الجماعة التى لا تعرف الاختلاف ولا تقبل المختلف أو تسمح له بحق الوجود المغاير أو الحضور»، كما أورد الناقد الكبير الدكتور جابر عصفور فى دراسته وتقديمه للرواية فى طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب. ومع ذكرى عبدالحكيم قاسم التى تحل علينا هذه الأيام، لذلك، تنشر «البوابة» روايته «المهدى»، والتى تكاد تتطابق فى الكثير من أحداثها مع ما رأيناه فى سنوات ما بعد الثورة من طرق الجماعة الملتوية لاستقطاب الآخرين، وكذلك شراستهم فى إقصاء كل من لا ينتمى إليهم.
.. كان العم على أفندى يحكى عن «محلة الجياد» والحاضرون مبهورون، إنها لقرية مدهشة حقًا، الشوارع فيها تحمل أسماء والدور أرقاما، وحينما تشتد وقدة الحر فى القيلولة تدور عربات تجرها بغال حكومية ترش تراب الأرض بالماء، يحكى عم على أفندى، هو فى «محلة الجياد» كاتب فى المجلس القروى، وهو حسن الصلة بعمدة البلد، أى عمدة، رجل يحمل رتبة «بك»، وهو رأس أسرة مقدارها خمسة وعشرون ألفا من أربعين ألفا هم جملة سكان البلد، أسرة المشرقى.. إيه.. يرن صيتها فى كل البلاد، وتخاصمها على العمودية دون أمل أسرة البيومى، وهى أيضا أسرة مشاكسة شرسة، ولقد كانت الحرب بين الأسرتين سجالا، وكانت القلوب مطوية على الحقد والضغينة، وما كان يمر يوم إلا ويسقط قتيل أو تسمم ماشية أو تحرق دار أو يقلع زرع، وكانت أنفاس العنف تزلزل البلد ليل نهار، عنف يرن فى الأرجاء المجاورة، عنف لا تستطيع حتى الحكومة كبحه، وما زالت حكاية شونة بنك التسليف تحكى، فإنه حين شحت الذرة وأعسر الحال على الناس هجمت البلد على شونة بنك التسليف محت أثرها من الأرض محوا، حتى إن لجنة المعاينة لم تستطع أن تهتدى إلى مكان الشونة أبدا، يحكى عم على أفندى والناس تسمع وتحوقل فى تنهدات عميقة، يشفقون على هذا الأخ الذى طوحت به الوظيفة بعيدا عن الأهل ودفء القرابة، لكنه يقول، إن هذا مضى، وإن شعبة الإخوان المسلمين فى البلد غيرت الأحوال وحولت القلوب إلى الإسلام، وجعلت من الحرد والغل غيرة على الدين، وألبست الشبان ملابس الجوالة، وبدل الزعيق والشجار والخصام يدوى الآن «الله أكبر ولله الحمد». لكن عبدالعزيز يتابع الحديث شاردا بارد القلب، فالعم يعمل فى هذه البلدة منذ سنين طويلة، وقد سمع عبدالعزيز هذه الحكايات بكلماتها طفلا وصبيا، ثم يسمعها شابا، ولقد زار عبدالعزيز العم فى محلة الجياد مع أبيه طفلا، وزاره وحده صبيا، ويزوره الآن شابا، ولقد عرف كل السكك، وعاين كل الدور، وعرف كل الناس، ولقد كان يتابع هذه الأحاديث طفلا ويكاد قلبه ينشق ابتهارا والعم يجسد الأحداث يكاد السامع أن يراها، ولقد فرح عبدالعزيز جدا أول ما عرف الدور والسكك والناس، لكن الأشياء تفقد حرارتها، تبرد، تموت، تصير ترابا، والعم يهدئ صوته حتى يكاد يكون تضرعًا واسترحاما ويقول:
- أما أنا وإخوانى أهل الطريق فمعشر شيمتنا الانكسار، وشعارنا قول الحبيب المصطفى، «اللهم أحينى مسكينًا وأمتنى مسكينًا واحشرنى فى زمرة المساكين».
ويحكى العم أنه بعد أن تقضى صلاة العشاء من يومى الأحد والخميس يتنادى الإخوان، أمساهم الله بالخير، إلى بيت الشيخ سيد الحصرى، ويجتمعون إلى دلائل الخيرات وبردة الأباصيرى، فيأخذون من التلاوة الحظ المقدور، ثم يترحمون ويقرأون الفواتيح فى الختام، ثم يأنسون بحديث ودود تبقى ذبالاته معهم حين يؤوون إلى المضاجع بين العيال.. هنا تستريح قلوب الأقارب على الأخ الذى طرحت به الوظيفة فى شتات الغربة، فالأمان بين إخوان الطريق هو بعض الأمان فى حجر الأهل... وهنا أيضا يبدأ الحديث فى استئلاف قلب عبدالعزيز، يصغى، ويزداد اهتمامه توهجا عندما تأتى سيرة الشيخ سيد صانع الحصر.
لقد رآه هنا، ورآه فى محلة الجياد، وهو رجل سكوت، خفيض الصوت، يكاد حديثه أن يكون همسا، لكن كلماته تبقى فى النفس وتحط الصمت على فوران الخواطر، وهو مضعضع العينين، ضعيف البصر لا يكاد يرى، وهو جاف كفرع سقط، معوج القامة، مما يحمل من لفائف الحصير ويدور بها فى البلاد، يعتليها على خاصرته أسفل ظهره، وكفاه خشنان كمخلبين من كثرة ما يدك المسمار فى الخيوط فى صنعة الحصير، لقد أولاه عبدالعزيز فى كل مرة رآه سمعا وقلبا وعقلا.
... ولقد قال الشيخ سيد الحصرى عن «محلة الجياد»: إنهم قوم مسرفون، وأخذت الكلمة قلب عبدالعزيز إلى الصمت العميق.. وعن الأسرتين الكبيرتين قال الشيخ سيد الحصرى:
- نحن تستغرقنا شئوننا الصغيرة عن الانشغال بقضايا الكبار. ولم يفت عبدالعزيز أنفة الاعتزاز فى جرس الكلمات.. وعن أعمال الشغب فى محلة الجياد قال الشيخ سيد الحصرى:
- إن الله قسّم الأفعال، وخليق بالعبد أن يختار أقلها جلبة، حتى يكون السلام ولا يؤرق القلوب الفزع.
ويمضى الشيخ سيد مسافرا، وهو إذ يقدم أو يمضى فيكون متسللا دون احتفال.
... هكذا تكون زيارة عم على أفندى امتحانا لتلك الرابطة الأسرية العميقة، فتؤكد نفسها المرة بعد المرة، وتكون الزيارة راحة لقلب عبدالعزيز، فهو يحب هذا العم، وهو يأتى كل مرة بطرف من سيرة الشيخ سيد، وهو شأن يستغرق النفس ساعة، ويدفعها إلى التفكير.
... كانت ساعة عصرية الشمس ودودة، والهواء طيب رائق، وماء الترعة يعكس سماء زرقاء، ويبلل ذيول النسمات، والمعلم عوض الله عوض الله، صانع الشماسى، يحمل خرجه على كتفه، ويحمل فى يده حقيبة صغيرة وفى يده الأخرى يمسك ابنه حنتس، وخلفه تمشى زوجته فلة، على رأسها صرة، وفى يدها سلة صغيرة، وفى يدها الأخرى ابنتها لوزة.
... النسيم على جبين المعلم عوض الله يطرى العرق ويخفف التعب، أو يحوله إلى إحساس يشبه السكر بالنبيذ، يمشى فى العروق يصنع المسرة، ويحرر النفس من الهم. نعم، فقد كان يثقل على قلب المعلم عوض الله ذلك الحال مع صاحبة البيت الست جبونة، وهى سيدة طيبة حيية، ترعى حرمة الناس وكرامة الجوار، لكن الحال تعسر فى الأيام الأخيرة، وضاق الرزق، ولأشهر طويلة لم يدفع لها إيجار الغرفة التى يسكنها فى الطابق الأرضى من البيت الذى تملكه والسيدة لم تصدر منها عيبة، كانت كل آن تنزل، تطرق الباب عليهم وتقف بعيدا خجلة:
- يا معلم.. يا أبا حنتس.
وهو يعرف، وهو يخرج كل يوم حاملا خرجه، ويدور فى الشوارع يصلح الشماسى أو يصنعها، ويعود فى المساء، لا يجد فى جيبه إلا ما يكاد يسد رمق الأسرة، أم حنتس تجهد وسعها وتقتر ما استطاعت، لكن لا شىء يتوفر لسداد الإيجار، الخجل والقهر يملآنه، ينكس رأسه لا يجرؤ على رفعها إلى وجه الست جبونة:
- يا ست.. ليساعدنا الرب.
الست جبونة لا تزيد، تدور على عقبيها صاعدة السلم:
- لا تخجلوا من قدومى لكم.. إنما أريد أن أطمئن عليكم.
يظل يتبع وقوع خطواتها على الدرجات حتى يختفى، ثم يأوى إلى ركنه فى الغرفة، لا يغمض له جفن.
... هذه المرة حينما رآها واقفة خجلة فى فتحة الباب قال لها:
- يا ست جبونة... أنا ماشى.. وسوف نترك لك هذه الأوانى النحاسية وفاء بالمتأخر علينا من الإيجار.
وشحب وجه أم حنتس، حتى صار أبيض، ورفعت إلى المعلم عينين واسعتين، وهو أطل عليها بوجه هضيم مكسور، وتوقف الطفلان عن مضغ خبزهما خائفين، وتعلقت النظرات لحظة، قال المعلم:
- قومى يا أم حنتس نجمع أشياءنا ونرحل.
وخرجا والنهار بعد طفل، أطلت أم حنتس وراءها تلقى نظرة أخيرة على البيت الذى عاشت فيه طويلا، ومشت فى الحارة تتبع المعلم، وقالت لبعض جارات جالسات على أبواب البيوت:
- سعيدة.
ولم تسألها الجارات شيئًا، ربما لم يدركن التغيير وراء هذا الخروج، أو ربما لم يعنهن فى شىء، أو ربما كانت مشقة السؤال أكثر مما يطقن، قلن فى خفوت:
- سعيدة.
وحينما أحست فلة أن المدينة تبتعد وراء ظهرها، وأن موكبهم الصغير على هذا الطريق الريفى وسط شسوع الحقول، أدركها الخوف وسألت هامسة:
- إلى أين يا معلم؟
لا يلتفت إليها، يرسل عينيه فى الآفاق، لكنهما متواصلان، كأنهما مسكينان فى دثار واحد، يقول لها المعلم عوض الله:
- ضاق الرزق فى طنطا يا فلة.. سنخرج إلى الريف، لعلنا نصادف فرجا، صمتت هنيهة شاردة، ثم قالت هامسة كأنما تحدث نفسها.
- لننشد كفرا مسيحيا يا عوض الله.. فيه كنيسة وراع صالح.
حلم كجناح ملاك أبيض، طفلى الوجه، يلمس شغاف قلبه، يتنهد:
- سيرعانا المسيح يا فلة.
وتلفتت فلة حولها، ثم رسمت بعجلة صليبا على صدرها، وعوض يواصل حديثه الهامس:
- إن عمد الريف وأعيانه لا يتخذون أبدا هذه القبعات الزرية، ويجدون فى الشماسى وجاهة وظلا.
ثم مضى يسلم جبينه للنسيم، يختلط مذاق التعب المالح فى فمه بطعم الدموع المترقرقة وهو يتمتم ببقايا تسابيح، «.. ولا تدخلنا فى تجربة.. ونجّنا من الشرير..».
■ ■ ■
... طوى على أفندى دفتره الكبير، ونحاه جانبا، بعد أن أثبت علف البغال، ثم حرر استمارات الصرف من أصل وثلاث صور يعمل متأنيا متغنيا بكلمات ممطوطة وابنه عطية يجلس مدلى الساقين على كرسى يتابع أباه ضاحكا يزعق الأب مناديا:
- أبوعساكر.
ويدخل رجل عجيب الشكل حقا، قمىء جدا، شديد النحول، هضيم الوجه، ضيق العينين، لكنه طيب ضحوك، وعيناه فى الضحك تطمسان نهائيا، لكنه يرى بهما فى كل الأحوال، يدبّ يجد سبيله هنا وهناك فى هذا المجلس القروى، وهو واحد من كناسين وعربجية أو كلافين مهزولين صفر منحرفى الخلقة، سقط بقايا فى هذا البلد الفارع أهلها، دمثون متملقون وسط قوم يفيضون عدوانية وشراسة، يبصبصون بأذنابهم حول على أفندى وفى وجه تقريعه الدائم:
- سيدى يا أبا عساكر.. تعال معى أصرف لك الأعلاف من المخزن.. وبالله عليك كف عن قزقزة فول البغال.
- لم يحصل والله يا فندى.
- ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم يا أبا عساكر.. قزقزة فول البغال حرام .. أتعرف لماذا هذه البغال صحيحة قوية؟.. ذلك لأنها تأكل بقدر.. بالميزان.. أما أنت فإذا ما جلست لطعامك فأنت آت على نصف مشنة العيش لا محالة.. وعلى المرأة أن تقضى حياتها طحنا وعجنا وخبيزا.. وفى المجلس يا سيدى تملأ حجرك من فول البغال وتقضى النهار تقزقز.
- لم يحصل والله يا فندى.
- وعليه فأنت أصفر أكرش ممعود.. لا تسمع قول رسول الله.. المعدة بيت الداء.. والحمية رأس الدواء، لا حمية لديك، بل صفار نفس وعدوان على علف البغال.
هكذا يمشى على أفندى فى فناء المجلس ماضيا إلى المخزن، طويلا نحيلا يميل طربوشه إلى الخلف من شعره الأسود الكثيف اللامع، يرتل الكلمات ضاغطا على مخارجها، شاردا لا يصوب بصره إلى شىء، يصرف الأعلاف لأبى عساكر، ويأخذ يد ابنه، ويذهب إلى نيازى أفندى رئيس المجلس الذى يرفع رأسه عن الأوراق فزعا، ثم يتمتم مرتبكا، معتذرا عن اضطرابه، وبعد ابتسامات المجاملة والربت على رأس الطفل النجيب، يواصل على أفندى كلماته المرتلة الممطوطة حاكيا ما حصل فى يوم العمل ونيازى أفندى يوقع الاستمارات.
- وبهذا يا سيدى الجليل يكون عمل اليوم قد انتهى، وإنى لأستأذنكم فى الرواح.
- فى حفظ الله يا على أفندى.
- ألا تكرمنا بأن تتغدى اليوم معنا.
- على رأسى هذه الدعوة الكريمة.. لكن الزوجة والأولاد فى طنطا.
- لاحظ لنا.. لا نصيب.. ما باليد حيلة.. السلام عليكم.. سلم يا ولد.
وبهذا الطقس ينتهى عمل اليوم، ويقرئ على أفندى أبا عساكر السلام، ويمضى فى حارات محلة الجياد تحت شمس الظهر، يقرئ الناس السلام، ويسألهم ويشترى البلح والجوافة ويعود مثقل الساعدين بما اشترى، تسرع إليه زوجته صامتة، تشرع عينيها، تتحسن ملامحه المحمومة بالحر والسخط تحمل عنه الأشياء يناولها الطربوش:
- رائحة الملوخية تملأ الدار.. لعلها على أرانب.
- ذبحنا الأسود الصغير.. كان الجبلى الكبير يطرده ويجرحه.
انفجر عطية باكيًا:
- ذبحتم أرنبى.
أسرعت الأم تطمئنه:
- لا يا حبيبى.. أرنبك الأبيض هناك.. اذهب تره بنفسك.
وبعد صلاة العصر يخرج على أفندى كعادته اليومية إلى ظاهر البلد، ذلك الشارع الكبير وصفًا، الصفصاف على جانبيه فى عصر ذلك اليوم، وجد على جنب الطريق المعلم عوض الله عوض الله وزوجته فلة والطفلين لوزة وحنتس، ولما اقترب منهما عرف من الوجوه أنهم ناس من القبط، وأكد ظنه وشم الصليب على المعاصم لم يقرئهم السلام إنما حياهم قائلاً:
- نهاركم سعيد.
ورد المعلم عوض الله مسرعا مرتبكا:
- نهارك سعيد مبارك.
وتلفت على أفندى ووجد حجرا كبيرا جلس عليه، وأخذ عطية إلى صدره، وأعد نفسه لحديث طويل طلى فى هذه الساعة العصرية.
■ ■ ■
... فإن المعلم عوض الله على رأس جماعته الصغيرة ظل يمشى على الطريق الزراعى وقتا طويلا، فالناس من أهل المدينة إذا خرجوا من حبسها الردىء الهواء إلى شسوع الريف أسكرهم انفساح الآفاق وجودة الهواء، وعليه فهو يمشى لا يدركه التعب إلا بعد حين، إذ ذاك يميل على أول قرية تصادفه، يجلس هو وجماعته على مشارفها، يخرج أشياءه، ويعكف على صنعته والطفلان يلعبان بالتراب، وفلة ساكنة تنوشها الهواجس، تتأمل يديه الدؤوبتين، وتناوله الأدوات وتقرفص حول المعلم بضعة زبائن، واستبشر خيرا، لكن الريفيين فقراء وهم يخافون من الوقوع فى حبائل أبناء المدينة، يبتسم المعلم حزينا يائسا، وزوجته ترقبه صامتة، تراه يخفض الثمن مرةً ومرةً، ويقنع بما يصيب من رزق أكلوا ما قدمه لهم الريفيون من خبز وخيارات مملحة، وناموا حيث أمسى عليهم المساء، وإذا جاء الخفير فى الليل قام له:
- إننى رجل صناعته الشماسى، أضرب فى القرى وراء الرزق.
وقدم له سيجارة، يجلس إليه الخفير، يدخن السيجارة شاكرا، يتسامران قليلا، ثم يمضى لحاله، هكذا قرية بعد أخرى، رويدا رويدا يتسلل الخوف إلى عظام المعلم عوض الله، ودون كلمة ينتقل منه إلى زوجته فلة، ويزيد عمق صمت الأطفال وتحديقهم المتسائل فى الوالدين، فماذا بعد، اليوم يدفع اليوم، والرزق كفاف، ماذا بعد، تصبح رحابة الآفاق مخيفة يتلف حواليه، ويهتف من أعماق قلبه صامتًا:
- يا يسوع المسيح.. يا بن الله.
وكأنما تسمع فلة دعاء قلبه الذى لم تهمس به شفتاه تتمتم هى الأخرى:
- يا يسوع.. يا بن الله.
ثم يواصلون السير حتى يروا على البعد محلة الجياد، ويعجب هذا الشارع اللطيف المعلم عوض الله، يميل، يحطون، يسند ظهره إلى شجرة، يخرج أشياءه ينشرها ويبدأ يعكف على صنعته، حتى توشك الشمس أن تغيب ولا يميل عليه زبون واحد حتى أقبل على أفندى:
- صنعت الشماسى إذن يا معلم.
- نعم يا سيدى.
- القبط صناع لا يبارون.
ويبتسم المعلم عوض الله حذرا وتلملم فلجة ثوبها على نفسها، يقول عوض الله:
- فى الكار مسلمون كثيرون وكلهم حسن الصنعة.
ثم يردف:
- وهى أرزاق مقسومة.
يؤمن على أفندى:
- نعم.. نعم.. وأنتم تقيمون فى طنطا على ما يبدو.
ويعجز عوض الله عن كبح فيض قلبه، فهو متعب وجائع:
- كنا ولكنا تأخرنا فى دفع الإيجار كثيرًا.. وصاحبة البيت.
وقاطعه على أفندى دهشًا:
- ما اسمها.
- الست جبونة.
- قبحها الله.
وذعر عوض الله مما سببه من سوء فهم:
- إنها...
يقاطع على أفندى منفعلاً:
- لكن أن تلقى بكم فى الشارع هكذا.
ثم يهب واقفًا فى نوبة شهامة:
- تعال يا رجل أنت وعيالك إلى دارى ضيفًا مكرمًا حتى يصبح الله الصباح.
ويتبادل عوض الله وفلة نظرة يائسة، يتداخلان فى نفسيهما، يرفع عوض الله إلى على أفندى وجهًا متضرعًا:
- أعفنى بالله عليك، لا نحب أن نثقل عليكم.
لكن همة على أفندى مجتاحة لا يقف فى وجهها شىء.
- اجمع يا رجل أشياءك وقم، ما يحصل الإنسان من دنياه هذه إلا أن يكرم ضيفا، اجمع أشياءك وقم، قبح الله هذه الجبونة.
ثم يميل على فلة الجامدة الصموت:
- وأنت يا سيدتى قومى، إن الدنيا ما زالت بخير.
ثم يأخذ لوزة وعطية كل طفل فى يد ويمضى بهما، ويعجز المعلم عوض الله عن التصدى لإرادة على أفندى، وهو المتعب الجائع، يمشى خلفه حاملاً خرجه، وعلى أفندى فى جلبابه الأبيض السابح، يمشى الهوينى يحيى كل الناس ويضاحكهم ويسألهم، حتى ينتهى بموكبه الظافر إلى الدار، يدفع الباب داخلاً بالطفلين ووراءه ضيوفه، يزعق مناديًا:
- يا ولاد.. يا ولاد.
وتخرج إليه زوجته ووراءها البنات دهشات، يقول باشًّا:
- لقد أكرمنا الله بضيوف، إنهم ناس طيبون، ألقتهم صاحبة البيت المسماة جبونة إلى عرض الطريق دون رحمة.
تنظر زوجته إلى الضيوف صامتة ثم تهمس:
- أهلاً وسهلاً.
وتحل لحظة جمود والناس جميعا واقفون لا يدرون ما يفعلون، ويأخذ على أفندى المبادرة يكلم زوجته آمرًا مسيطرًا:
- تعرفين تلك الغرفة القصية، عليك بتنظيفها جيدًا، افرشى فيها حصيرا وصفى فيها حراما ومخدات، وضعى فيها مصباحا حسنا وقلة ماء ووعاء للبول من أجل الأطفال.. هل ينبغى أن أعدد كل شىء ليتم عمله.
قالت الزوجة صاغرة:
- سنفعل.
وواصل على أفندى حديثه الآمر:
- وضعى لهم عشاءهم فى الغرفة، إنهم قوم على حياء عظيم، ولو أكلوا معنا صرفهم عن الطعام الخجل منا.
وقالت الزوجة:
- حاضر.
وما إن أغلق باب الغرفة عليهم حتى أحس عوض الله أنه يسقط من جب تيبست أعضاؤه من الخوف وفلة شاحبة جاحظة العينين، إنها تجربة كابوسية، كيف أسلمه اليوم لليوم الذى بعده حتى هذه الساعة العجيبة، كيف جلب بحماقته الشتم على الست جبونة، لقد كانت طيبة وصدوقة ولم تؤذهم، تقول فلة فى صوت مرتعش:
- ليتنا نخرج من هنا.
ويهمس عوض الله:
- كيف؟
لوزة تتضرع:
- أنا جوعانة.
تكسر فلة لقمة فى صحن وتكب عليها ملوخية، تكاد تقىء أمعاءها من فرط دسامة الطبيخ وعوض الله يقول لها خائفًا:
- لا بد أن نأكل شيئًا أيضا.. لا بد أن نأكل.
■ ■ ■
... عبدالعزيز يعرف الأخ طلعت، رآه للمرة الأولى فى الفصل فى مدرسة طنطا الثانوية، وربما كان هذا هو الدرس الأول بالنسبة إلى طلعت فى هذه المدرسة، وكان المدرس شرسا عنيفا، ألقى على طلعت سؤالا، ووقف هذا ليجيب هائل الطول عريض الكتفين، يتأتى ولا يفتح الله عليه بشىء، وربما لأن طلعت على هذا القدر من الضخامة، استشاط المدرس غضبا، وصفعه صفعة هائلة على وجهه، ارتعب عبدالعزيز، ينظر لوجه طلعت وبسطة كف المدرس مرسومة حمراء على صدغه، يخيل لعبدالعزيز أن قوة الضربة بعجت وجه طلعت فجعلته مبططا بشكل شاذ وهو يقف هكذا متدلى الفك جاحظ العينين، لكن عبدالعزيز عرف فيما بعد أن طلعت خلقته هكذا، رأسه مبطط كأنه قرص قائم بين كتفيه، وعرف كذلك أنه مصاب باعوجاج فى الحاجز الأفقى ويتنفس من فمه دائما، وربما يغير هذا طعم ريقه أو يجفف حلقة، فتراه دائما يمصمص فمه بصوت مسموع ولحم أسنانه يدمى بلا انقطاع، ويجعل هذا ابتسامته مقززة، لكنه طيب وفيه شىء من البلاهة، يلف مستطلعا تعبيرات وجوه من حوله فى تهيب ومداهنة، تعرف عليه عبدالعزيز فى حلقات الإخوان المسلمين، وعرف أنه من محلة الجياد، فرح بهذا وسأله:
- هل تعرف على أفندى بالمجلس القروى؟
قال طلعت مبتسما:
- أعرفه.. اسأله عنى.. قل له إن كان يعرف طلعت مشرقى.
سأله عبدالعزيز:
- هل أنت من أسرة المشرقى؟
ابتسم تلك الابتسامة وهمهم بما يعنى الموافقة، وحينما قابل عبدالعزيز العم على أفندى بعد ذلك سأله عن طلعت مشرقى، دهش العم ولوى شفتيه مشمئزًا:
- رذيل منه أن يحاول الانتساب إلى أسرة مشرقى، وما سمى أبوه مشرقيا إلا زلفى إليها، وهو من عائلة أبوحبة الصغيرة الهزيلة، والأب مدرس قليل الشأن فى المدرسة الإلزامية.
دهش عبدالعزيز جدا لهذه الأحوال، لكنه قال فى نفسه إنه لا يعيب المرء انتسابه إلى أسرة صغيرة فقيرة، إنما المرء بما قدمت يداه، والأخ طلعت من أنشط الشبان الإخوان بالمدرسة، وقد ارتضاه الجميع مندوبا، وزكته الشعبة بعد أن حصل المندوب القديم على التوجيهية وذهب إلى الجامعة، وكان لطلعت أخ أزهرى سمين شاحب يأتى من القاهرة يحمل حافظة أوراق ضخمة ويبدو متعبا زائغ النظرات، ويقابله إخوان طنطا بالأحضان، وحينما يقف خطيبا يتوقد ويتدفق فى بيان يذهل الناس عن أنفسهم وطلعت يرقبه من بعيد مبتسما فرحا، هكذا كان، وكان عبدالعزيز لا يهمل أبدا أن يرى طلعت فى زياراته لمحلة الجياد، حتى بعد أن التحق كلاهما بالجامعة وفترت علاقة عبدالعزيز بالإخوان حتى انتهت تماما، كان يسأل عن طلعت فى محلة الجياد ويراه ذا نشاط كبير، وأن اسمه على كل لسان، يجوب البلدة ليل نهار منشغلا بأمور الإخوان.
وقد عرف عبدالعزيز فيما بعد أن طلعت الذى يجد لديه دائما وقتا للناس رغم مشاغله العديدة قابل على أفندى الذى كان عائدا ذات مساء من ليلة الحضر من إخوان الطريقة فى بيت الشيخ سيد الحصرى، حيّا طلعت العم على أفندى:
- السلام عليكم يا على أفندى ورحمة الله.
- عليكم السلام يا أستاذ طلعت ورحمة الله وبركاته وألف مساء الخير.
- أود لو تنادينى بالأخ فهذا أقرب للقلب.
- أنت أخونا وأستاذنا.
- أستغفر الله وأشكرك.. نود أن نراك مرة فى الشعبة.
- الشعبة فى قلوبنا جميعًا.. لكننا نؤثر الاجتماع حول دلائل الخيرات وبردة الأباصيرى.
- قرآن الله أولى وأنفع.
- كل كلمة طيبة فيها نفس من أنفاس الله يا أخ طلعت.
- حتى هلوسة الدراويش؟
- هؤلاء خدام أولياء الله وعترة رسوله.
- المؤمنون أولياء الله.. لا عبرة بنسب.. لا فضل لعربى على أعجمى إلا بالتقوى.
- إننى من أهل بيت غاية شرفهم تمريغ الجباه فى أعتاب عترة رسول الله.
هذه وثنية. ورد عليه على أفندى متغنيا متمايلا مع الإيقاع:
- أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدار
وما حب الديار شغفن قلبى ولكن حب من سكن الديارا
ورد طلعت بشكل تعليمى:
- يا على أفندى اقرأ قرآنًا.
وأبى عليه على أفندى هذا الأسلوب التعليمى:
- يا أستاذ طلعت إننى أملأ قلبى حبًا.
- وعاد طلعت مداهنًا:
- إننا نأمل فيك دائما يا على أفندى.
ورد على أفندى متسامحا طيبًا:
- وأنا والله أحمل لك إعزازًا يا أخ طلعت.
- أعزك الله.
- وبالمناسبة كنت أريد أن أحدثك عن رجل طيب صانع شماسى مسيحى كان يقيم فى طنطا وطردته من بيتها مالكة البيت المسيحية، طردته شر طردة، وشردته هو وأولاده، وأنا التقطتهم من الطريق وأخذتهم إلى دارى، وأحب أن تولى الشعبة أمره اهتماما.
- هذا عجب.
- كان أولاده الصغار شاحبين من الجوع.
- لا بد من الاهتمام بأمره.. علينا أن نبر بأهل الذمة.. ونستألف قلوبهم للإسلام.. سأمر عليك فى المجلس وسنرى ما يكون.
- سأتحفك بكوب طيب من الكركديه.
حسن.. فإننى لا أدخن ولا أشرب شايا ولا قهوة.
■ ■ ■
... صحا مشرقى بك عمدة محلة الجياد من نومه عند الظهر، عيناه متورمتان ومزاجه منحرف، قالت له فاطمة بن أبى عساكر الخادمة الجديدة: إن الحمام جاهز، لبس قبقابه ومشى يطرقع على بلاط الدور الثانى فى المنزل الكبير جلباب النوم الأبيض الخفيف يبدى عرى جسده ويخلى برودة الصالة تخفف أنفاس هذا الجسد الحارة، دفق الماء الساخن على نفسه مستمتعا، غسل نفسه بالصابون عدة مرات، وأعاد كب الماء الدافئ، وتفكر فى البنت فاطمة بنت أبى عساكر نهداها متكوران رائعان، كانت تخدم عند قاهريين ذوى يسار، وعليه فهى نظيفة من ذلك القشف الريفى، مغسولة من تلك الغبرة الترابية، داعب أعضاءه التناسلية فرحا، واستبشر بأنه سوف يملأ كفيه من تكور نهديها، وأنه سوف يدخلها فى فراشه، وأنهما سوف يبلبطان عريانين تحت اللحاف فى السرير النحاسى الكبير، أما زوجته، عليها اللعنة، فهى لصلاتها وتسابيحها قد نفته من حياتها إلى الدور العلوى منذ سنين، لا تصعد إليه أبدا وتترك أموره للخادمات، كل الأمور. ضحك ممرورًا وهو يجفف نفسه وذهب إلى الشرفة حيث الإفطار معد على طاولة صغيرة، جلس يغمس القشدة بالعسل على لقم كبيرة طرية، وينظر للبنت فاطمة وهى تملأ الكوب من القلة الموضوعة على سور الشرفة وتأتيه به وتنصرف وذراعاها طريان ناصعتان، زحم معدته أكلا وشرب حتى ارتوى، أتته البنت بكنكة القهوة، رفعت صينية الطعام ومشت، يتأمل تكور ردفها وعلامة سروالها تحت ثوبها الخفيف، ذلك ميسم المدينة الغريب على الجلافة الريفية، أتوا بها ليزوجوها أى حمار من محلة الحمير هذه، جدير بهذه الناعمة اللطيفة رشف آخر ما فى فنجانه من قهوة، قام وئيدًا يعرف أنها الآن ترتب غرفة نومه، يمضى فى الصالة إلى الغرفة، أنفاسه مسرعة وسعار الشهوة يخرجه عن صوابه، أغلق باب الغرفة وراءه، وأقبل على البنت وقفت مكانها ذاهلة، زنقها فى السرير بثقل جسده، ويداه تجوسان تحت ثوبها فى نعومة ظهرها أزاح الثوب إلى أعلى ومرغ وجهه فى أثدائها، أنزل سروالها وفتح فخذيها عنوة، وأخرج ذكره من سرواله، ولم يكن منتصبا بما يكفى، حكه فى فرجها يائسا دون جدوى، بقوة مفاجئة انفلتت البنت منه وولت هاربة، وقف مذهولا يلهث مليئًا بالاحتقار لنفسه، عدل ثوبه وتحرك خارجا، ستحكى البنت للحاجة دون شك، وسوف تقرعه الحاجة وتهينه، وسوف يقف أمامها ذليلا، نزل إلى دوار العمودية، وقف سعداوى الخادم لدخوله، فى الراديو صوت مصطفى إسماعيل يرتل «... فوكزه موسى فقضى عليه...» صاح العمدة ساخطًا.
- هراء.
وأغلق الراديو بعصبية وهو يتمتم منفعلاً:
- أى رجل هذا الذى تقضى عليه وكزة.
وجلس على كرسى كبير متكئا، سعداوى القهوجى يقف ذليلا خائفا، نظر إليه العمدة قليلا ثم قال بمرارة:
- تقف كالصنم.. يلعن أبوك.. اعمل قهوة.
انطلق الولد كالسهم والعمدة جمد فى مكانه قليلا، ثم قام إلى غرفة مكتبه، معتمة، رائحتها تراب، مشى فى ظلامها إلى الدولاب، أخرج زجاجة كونياك، ملأ غطاءها ثلاث مرات وأفرغه فى جوفه، أعاد الزجاجة إلى الدولاب، وعاد إلى كرسيه الكبير يجلس ساهما، يخلى بين الخمر وبين سككها فى جسده، جاءت فاطمة إليه تحمل منديلا مطبعًا:
- اتفضل يا سيدى.
رفع بصره إليها، فى عينيها حنان، امتلأ إشفاقا على نفسه صاح بها.
- روحى فى داهية.
وود لو أنها لا تمشى، لكنها انصرفت هادئة، وسعداوى جر طاولة صغيرة ووضع القهوة بجوار العمدة، ومشى بسرعة، بدأ العمدة يشرب قهوته، من بعيد، قال سعداوى محاذرًا:
الأستاذ طلعت أبوحبة وعلى أفندى كاتب المجلس القروى.
قال العمدة ببطء دون أن يرفع عينيه:
- يتفضلوا.
ملأ دخولهما جو الغرفة الراكد صخبا، أعطاهما العمدة من جلوس يدا رخوة، أحس بالتضاؤل أمام كيانيهما الفارعين وصخبهما الشديد، قال طلعت:
- الشعبة تتقدم كل يوم بفضل مساندة العمدة.
غمغم العمدة:
- متشكر.
ولوح على أفندى كأنه يقف على مسرح:
- أشهد الله، وأنا الغريب عن هذا البلد، أن أيادى العمدة عليها لا تنكر، هذا حديثنا فى المجلس أنا ونيازى أفندى لا نمل من ترديده.
كان العمدة يتسلل بعينه ناحية الباب لعل فاطمة بنت أبى عساكر تظهر مرة أخرى، اكتشف فجأة أن على أفندى فرغ من كلامه، وهز رأسه قائلاً:
- متشكر.
وتدخل طلعت بسرعة:
- يا على أفندى أنت لست غريبًا، أنت واحد منا.
وتدارك العمدة قال:
- طبعا.
واصل على أفندى إلقاءه المسرحى:
- هذا والله عشمى، وهذا ما جرأنى اليوم على أن أصحب الأستاذ طلعت إليكم، راجين عطفكم على رجل مسيحى صانع شماسى، ألقته صاحبة البيت التى من دينه فى عرض الطريق دون رحمة.
قال العمدة فى نفسه: «ها هى الحكاية تجيئنى على رجليها، وقد كان نقل إلىّ سعداوى نبأها منذ البدء»، ثم التفت إلى طلعت الذى تناول الخيط:
- ولقد اهتمت الشعبة بالرجل، فالمسلمون مأمورون بالحدب على أهل الذمة، وأن يستألفوا قلوبهم للإسلام، وعليه فقد قمنا بحركة شاملة تهدف إلى حض الناس على إصلاح شماسيهم عند الرجل أو شراء شماسى جديدة منه، وتولينا تحديد الأسعار فلا وكس ولا شطط، وإلى جانب هذا فثمة حركة شاملة لجمع التبرعات من النقود أو الحبوب أو الملابس وإحصائها وتصنيفها وتسليمها له، المهم أن القضية الآن هى شغلنا الشاغل، وهى مثار اهتمام البلدة جميعها.
وتوقف طلعت عن الكلام لاهثا، وعلى أفندى ينظر إليه معجبا، والعمدة ينظر شاردا، وحلت لحظة صمت، وقال العمدة فى نفسه: «قبطى صانع شماسى رجل من أهل الذمة يراد تأليف قلبه للإسلام.. الشعبة والمجلس القروى والبدة جميعها.. أى فأر سقط من السقف.. يلهون به حتى ينفث الدم من أنفه.. أو يلبسونه رداء الجوالة ويسوقونه عارى الركبتين.. هاتفًا الله أكبر».. قطع على أفندى الصمت:
- الشاهد يا حضرة العمدة أن الرجل يقيم عندى، وأنا لا أمل ضيافته ولو أقام فى بيتى دهرا، إنما أخشى عليه الحرج أن يكربه، وعليه فقد ارتأينا أنه لو اختص بسكن صغير لكان أفضل، وفكرنا أن دار فكيهة بنت طراوة ربما كانت أكثر الأشياء ملاءمةً.
وأكد طلعت:
- فهى صغيرة ولطيفة.. وهى إلى ذلك قريبة من المسجد والشعبة.
تساءل العمدة بسرعة بسخرية غير خافية:
- المسجد والشعبة؟
تدارك على أفندى:
- الأستاذ طلعت يعنى هذين كمكانين يهوى إليهما الناس.. والصانع يجب أن يكون حيث يكون الجمهور.
وقال طلعت:
- هذا ما أردت.
وهذه الدار ماتت عنها صاحبتها، وليس لها أقارب وارثون، حرر العمدة محضر جرد تركة، وأرسله للمحكمة الشرعية، فاعتبرت الدار ملكا للخزانة الأميرية، وعلى يد المحضر بيعت بيعا علنيا لم يدخله غير العمدة، فرست عليه كدور كثيرة أخرى بدراهم معدودات. قال العمدة:
- يا سعداوى.. قل لمختار الخفير أن يعطيهم مفتاح دار فكيهة بنت طراوة، وقل للشيخ حسن عامل التليفون أن يحرر باسم على أفندى عقد إيجار بثلاثين قرشا شهريا ومخالصة عن إيجار ثلاثة أشهر.
تشكر الاثنان للعمدة وخرجا وهو ينظر فى أعقابها بمقت شديد وهو يتمتم.
- الناس لا تطيق المخالفة.. ولو كان واحدًا فى أربعين ألفًا.. هذا رهيب.
ثم عراه الحزن وهو ينظر إلى فتحة الباب يتمنى لو تظهر فاطمة بنت أبى عساكر.
■ ■ ■
... المعلم عوض الله لا ينام الليل، ينتابه شىء كالإغماء، وتهجم عليه الكوابيس والأحلام المرعبة، يفتح عينيه مما يشبه الموت ثم يعود يغمضهما، ولا يكاد النور يبص من الشباك حتى يقوم، يسحب خرجه، يتلفت حواليه محاذرا وينكب فورا على عمله، وتنهض فلة تجلس فى مكان رقادها تلملم ملابسها السوداء تحبكها على أقدامها وعلى رأسها ترافق زوجها من تحت أجفانها بنظرات مشفقة، إنه يزداد هزالاً كل يوم، ويزداد وجهه امتقاعا وتتسع مقلتا عينيه، تراه فلة الآن، تعرف عظامه تحت جلبابه وفى أكمامه وتضوى كمدا والمعلم يخيط القماش فى أطراف سلوك الشماسى، ولا يرفع عينيه تجاه فلة، لكنه يعرف نظراتها له، تهدهده، يبكى قلبه عشرة طويلة من يوم أن رآها وهو جالس قدام دار أبيها شماس الكنيسة فى كفر سليمان يوسف مركز ميت غمر، كان بعد شابا، وكان أبوه قد أقعده المرض، قال له:
- لقد أصبحت يا بنى حسن البصيرة عارف اليد، وأنا تعبت، احمل الخرج وعلق الشماسى فى ذراعك كصانع حق واذهب لزبائنى بذلك تقر عينى.
وعدد له البلاد من بينها كفر سليمان يوسف، هناك جلس قدام باب الشماس ورآها، ومنذ ذلك اليوم كان يخرج حاملا خرجه من بيتهم بعزبة غالى فى ميت غمر، وهو لا يرى أمامه غيرها، يدور بالزبائن ويعود، وليس فى فكره غيرها، منذ سنين طويلة، لا يرفع عينيه لها ويعرف أنها تنظر له، ولا يحكى لها، ويعرف أنها تحمل معه هموم قلبه، وحينما ضاق عليهم الرزق فى ميت غمر ودعوا الناس وذهبوا إلى طنطا، ثم عاد الرزق يضيق وعادت الهجرة لكن ما هم فيه الآن شىء غريب لم يحسب له أبدا حسابا، وتذكر وجه أبيه فى فراش الموت، وتذكر وجه الست جبونة وصوتها الخفيض وملأه القهرة، همس:
- يا يسوع المسيح.. يا بن الله.. خلصنا.
ويطرق على أفندى باب الغرفة ويدخل صاخبًا:
- صباح الخير يا معلم، هكذا تنحنى على عملك قبل أن تصحو الطيور، تلك هى البركة، هكذا نقول عندنا، لقد صليت الفجر أنا والشيخ سيد الحصرى، وشربت القهوة، لو علمت أنك صاح لشربناها معا، لكن البن لم ينفد بعد و«قهاوى» كثيرة سوف نشربها معا.
ولم يكن عوض الله يدرى ماذا يقول إزاء تدفق على أفندى كان يردد: حاضر.. نعم.. آه.. طيب بشكل آلى دون أن يدرك ظهر المسألة من بطنها، لكن الطفلين تململا على الحصير وانفجرا فى البكاء، وبدأت فلة تعنى بهما وسأل على أفندى عما بهما وفلة قالت لا شىء، لكنه اقترب بعينه الخبيرة ووجد جسدى الطفلين مليئين بالدمامل، وفلة تحاول أن تخفى الأمر، قال لها بصوت عال كأنه على مسرح:
- لا تخافى أبدا، دعينى أجسهما بيدى، أنا معتاد على الأطفال جدا، دارنا فى البلد فيها من العيال أكثر مما فيها من الدجاج والبط والخراف والمعيز والعجول، لا يجد الإنسان فى فناء الدار موقعا لقدمه من تزاحم هذه الأجناس جميعها، أنا معتاد على الأطفال قبل أن أتزوج، وبعد ذلك لا تخافى، دعينى أرى، هاها.. عندى لذلك دواء ناجع.
وقام أحضر أنبوبة مرهم ودهن الدمامل جميعها والعيال ينزون بكاء لا ينقطع، فجأة يصمتون ويتلفتون، يتلفت عوض الله وفلة وعلى أفندى، ففى فناء البيت يسمع وقع خطوات قوية وحاسمة كأنها لفرقة من العسكر، يطرق الباب ويدخل الأخ طلعت ومعه رهط من شباب الإخوان المسلمين، جدعان فارعون غلاظ الأكتاف والرقاب على جباههم علامة الصلاة مسودة متربة، وفى أيديهم كراسات الإخوان، جلابيبهم نظيفة، وأقدامهم لامعة من المداسات، يتنادون بحضور وترابط وطاعة وينظرون إلى عوض الله وفلة بدهشة وفرح، يتكلم الأخ طلعت.
- دار فكيهة بنت طراوة الآن على أتم الاستعداد، بعد أن عمل الإخوان فى ذلك أياما طويلة، وجاءوا الآن لننقل الأخ عوض الله إليها.
ويقول على أفندى آسفًا:
- كان بودى أن يبقى عوض الله معنا أبدًا.
ولا يفهم عوض الله شيئا، ولا يجد جوابا، وينقضّ الشبان على الأشياء يحملونها، وبشكل تلقائى ودون تفكير أو فهم يجمع عوض الله عدة شغله يضعها فى الخرج. يقول على أفندى:
- هذه الحصير وهذا الفرش وكل ما فى هذه الغرفة من آلة إنما هى للأخ عوض الله خالصة.
ولا يدرى عوض ما ينبغى أن يقال، يتصدّى طلعت:
- نشكرك باسم الإخوان المسلمين يا على أفندى.
ويخرجون حاملين الأشياء وبينهم المعلم على كتفه خرجه وفلة تحمل الصرة على رأسها وفى يديها طفلان، على أفندى ينظر فى أعقاب الموكب وعطية يبكى:
- إلى أين يأخذون عم عوض يا بابا.
ويطمئنه على أفندى:
- إلى دار جديدة يا بنى.
المعلم عوض الله يحاول أن يسابق خطو الحراس الفارعين، يحاول أن يثبت ولاءه، فلة والطفلان، الوجوه الثلاثة الصفراء المريضة لا ترى من الدنيا الآن إلا هذا الذى يمشى أمامهم، الآن يكاد يسقط إعياء، الأخ طلعت على رأس مجموعة الإخوان الشبان يمشون يدكون الأرض يجهرون بالسلام فى حسم عسكرى آمر ويتلقون ردودا واضحة وقوية، وعلى أبواب الدور نساء يتراجعن بعد أن يدلقن الماء أمام الأبواب، ويتريثن حتى يمر الموكب وهنّ مشدوهات يرقبن فى عجب، ويحكم الرجال قبضاتهم على مقاود البهائم، ويرقبون الموكب فى إقرار مبتهج صموت، ثمة روح قوية عارمة راضية تنتظم القلوب، وإذ يقرئ الأخ طلعت الناس السلام فإنما هو يختبر هذه الروح، ويحصل فى الحال على إقرار واضح قوى يمضى فى طريقه بلا تردد.
- اتفضلوا.
دخل المعلم الدار، وعاد يقف فى الفناء صامتا، لا يدرى ماذا يفعل، وإلى جواره فلة وفى يديها طفلان، وضع الإخوان ما فى أيديهم من متاع، وتحلقوا فى نصف دائرة حول المعلم، قال طلعت مخاطبا عوض الله وفلة:
- تلك هى داركم الجديدة، نرجو أن يبارك الله لكم فيها الآن، سوف نمضى ونترككم فى حالكم، لكننا قبل أن نمضى نقدم إليكم باسم الإخوان المسلمين فى محلة الجياد هدية ألا وهى كتاب الله.. أرجو أن تتقبلوها بقبول حسن، وقدم طلعت مصحفا منشورا، بسط عوض الله كفيه وتناوله منشورا كما هو، أشار طلعت بإصبعه على موضع:
- نرجو أن تقرأ هذا أول ما تقرأ:
قال عوض الله:
- اقرأوه.. اقرأوه.
وتقدم أخ آخر ملهوج منفعل ووضع فى طاقة الحائط كتبًا:
- وهذه أيضا مذكرات الداعية الأول للإخوان وكتاب «من هنا نعلم» للأستاذ الغزالى.. وبضع استمارات محاسبة.
وسلموا منصرفين والمعلم واقف كما هو، والمصحف منشور على بسطة كفيه، ومن فرط الإعياء سقط على المصطبة خلفه جالسا، أغمض عينيه لثوان، والوجوه الثلاثة تراقبه فى صمت، همست فلة.
- لنخرج يا معلم.. لنخرج من هنا.
وقال لها.
- لقد فات الأوان يا فلة.. فات الأوان.
ثم فتح عينيه، ونظر فى الموضع الذى أشار إليه طلعت فى المصحف المنشور على رجليه، الكتابة غريبة عليه، يقرأ بعسر «وإذا قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذونى وأمى إلهين من دون الله، قال سبحانك، ما يكون لى أن أقول ما ليس لى بحق، إن كنت قلته فقد علمته، تعلم ما فى نفسى ولا أعلم ما فى نفسك إنك أنت علام الغيوب، ما قلت لهم إلا ما أمرتنى به..»، ولم يستطع المعلم أن يقرأ أكثر، ألقى برأسه على الحائط خلفه وانهمرت دموعه وهو يتمتم:
- يا يسوع المسيح.. يا بن الله.. تمجد اسمك.
كانت صياغة النص أكثر مما يطيق.. أكثر مما يطيق.
العدد المقبل الجزء الثانى


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.