فى كتابه الأهم -حتى يحين الكلام عنه مفصلا- «كانت لنا أيام فى صالون العقاد»، يحكى أنيس منصور كيف أن العقاد اكتشف أنه كان عضوا فى جماعة الإخوان المسلمين. فى يوم فاجأ العقاد بسؤال مباشر أربكه: «وكيف يلتقى الوجوديون والإخوان المسلمون؟». كان العقاد يعرف أن أنيس منصور أصدر كتابه الأول عن الوجودية، صدر الكتاب فى عام 1957، وكان عمر أنيس وقتها 27 عاما، وطبقا لتقرير نشرته مجلة «أكتوبر» فى وداع أنيس، فإنه كان يفخر بأنه أول كاتب عربى يكتب عن الوجودية، وهو كتاب صغير يمكن أن يندرج فى عداد الكتب التعليمية المبسطة، بلغة سهلة، وقد طُبعت منه أربع طبعات فى شهر واحد، ونفدت نسخه المائة ألف، وكان أنيس يفسر ذلك بأن الموضوع كان محل اهتمام الناس فى ذلك الوقت. طبعا يمكنك أن تتحفظ على حكاية توزيع الكتاب ل100 ألف نسخة فى شهر واحد، خصوصا أننا نتحدث عن عام 1957، وأعتقد أنه من الصعب أن يصل توزيع كتاب إلى هذا الرقم، لكنه أنيس الذى عندما يتحدث يصدقه كثيرون. وصف مؤسس الجماعة ب«الثائر» الذى تسلل ب«هدوء ومكر» إلى قلبه المرشد الأول كلفه فى المساجد والإشراف على مكتبة الجماعة فى إمبابة روايات متضاربة حول انضمامه ل«الإرهابية» وخروجه منها أعود إلى صالون العقاد، يقول أنيس: «إذن لقد عرف أننى من جماعة الإخوان المسلمين فى إمبابة، إذن لقد أصبحت هدفا لرصاصتين خرجتا فى وقت واحد، ومطلوب منى أن أرد بسرعة، كيف أوفق بين الشيخ حسن البنا والفلاسفة الوجوديين الملحدين والمؤمنين؟ وما الذى أجده فى الإخوان مكملا للوجودية؟ أو ما الذى أجده فى الوجودية متماشيا مع الإخوان المسلمين؟». وقبل أن يتحدث أنيس بأى شىء يخرجه من ورطته، تحدث العقاد، قال له: «لا بد أنك وجدت شيئا ما بين البنا والبدوى والعوض (كان يقصد عبدالرحمن بدوى ولويس عوض) ضع ثلاثتهم متجاورين، ثم قف بعيدا عنهم واحكم عليهم، هنا فقط سوف تجد أن نظرية لمبروز فى الشذوذ صحيحة مائة فى المائة». استجاب أنيس للعقاد، وبينما هو يحدثه وضعهم أمامه، وتجرأ على أن ينشغل عن كل ما يقول، وقارن بين الثلاثة، فلم يجد تشابها، ولكن بقوله هو: «إن ثلاثتهم ثوار مختلفون، اثنان سياسيان، والثالث ليس سياسيا، وهو عبدالرحمن بدوى». كان أنيس يرى أن حسن البنا ثائرا إذن، أما العقاد فكانت رؤيته للبنا واضحة، قال له: «القاعدة واحدة يا مولانا، من يأخذ منك حريتك فهو لص، سواء كان يضع على رأسه تاجا من الذهب، أو تاجا من الشوك، أو عمامة بيضاء أو سوداء، أو قفصا من السميط والبيض». لكن كيف انضم أنيس إلى الإخوان المسلمين؟ يحكى هو فى واحدة من رواياته ما جرى، يقول: «السبب فى ذلك أننى انتقلت من الحياة مع والدى فى الزمالك إلى السكن فى حى إمبابة، وفى إمبابة كنت أتردد على المقاهى ألعب الشطرنج، وهى لعبة تحتاج إلى تركيز يرهقنى، فلم ألعبها كثيرا، ولم أتفوق فيها، لأننى دائم السرحان، وكان كل الذين يلعبون طلبة فى الجماعة، وأعضاء فى الإخوان المسلمين، ووجدتهم قد اختارونى أمينا للمكتبة». يكمل أنيس حكايته بنفسه: «هذه هى البداية وهى النهاية أيضا، فقد كنا نلتقى فى المكتبة، ونقفل علينا الأبواب ونتناقش، وكانت المناقشات أعمق وأشمل وأعنف، وكانت أصواتنا تتعالى وتضايق المصلين، لأننا لا نصلى حاضرا معهم، ومرة لأننا نربكهم بأصواتنا العالية وهم يصلون، ثم أننا نسهر طويلا ونستهلك من الكهرباء دون أن ننتظم فى دفع الاشتراكات المقررة، لقد صبروا علينا كثيرا وطويلا، وأخيرا وجدت اسمى بين عشرين اسما على باب الجمعية مفصولين... والإمضاء المرشد العام حسن البنا». عن نفسى أصدق هذه القصة المنسوبة إلى أنيس منصور، لكن المفاجأة أنه لم يكتف بما قاله عن وجوده داخل الإخوان عند هذه المرحلة، بل سعى لأن ينسج أسطورة حول انتمائه إلى الجماعة، فتسربت الحكايات منه وعنه. أتوقف أولا عند واحد ممن تحدثوا عنه، قدمته الصحافة بعد موت أنيس على أنه كاتم أسرار الكاتب الكبير. أتحدث تحديدا عن نبيل عتمان، بدأت العلاقة بينهما فى عام 1966، طلبه أنيس ليكون مرافقا له، وعلى مدار 45 عاما ظل ملازما له كظله، عرف عنه الكثير، واحتفظ الكثير من أسراره، وكان طبيعيا أن يتحدث بعد موته... وأعتقد أنه هنا مصدر ثقة. روى نبيل عتمان قصص أنيس مع الإخوان فى حوارين أدلى بهما للصحف. فى الحوار الأول قال: «باعتراف الأستاذ أنيس أنه كان عضوا فى جماعة الإخوان، وأن الذى قدمه للجماعة هو الشيخ حسن البنا، والحقيقة أنه وجد كما قال الأستاذ أنيس فى الإخوان ألفة، وكانوا يتعاملون معه بالقرآن الذى يحفظه، ولديهم مكتبة كبيرة جعلوه أمينا عليها فى مركز إمبابة، وكان يطلب منه كما يطلب من غيره كحافظ للقرآن أن يؤم المصلين فى عدد من المساجد ويخطب فيهم يوم الجمعة، وكان فى بداية حياته يطيع الأوامر فيذهب إلى المسجد رغم أنه من الممكن أن يسير ساعتين أو أكثر للوصول إلى المكان المقصود، وعندما يصل يعرف خطيب المسجد بأنه عضو فى الجماعة، ويطلب منه بناء على أوامر الشيخ أن يخطب الجمعة عندها يتنحى إمام المسجد جانبا ويمهد الطريق للشباب الصغير على أساس أن طاعة الأوامر أمر واجب». وينقل عتمان ما قاله أنيس عن هذه الفترة: «كان هذا أمرًا مخجلا بالنسبة إلىّ، وهو أن يتنحى شيخ كبير لشاب صغير لا أدرى كيف فعلت ذلك، ولكنى أقدم العذر لهؤلاء الشباب الصغار الذين اعتادوا طاعة الجماعة». هل لدى نبيل عتمان شىء آخر فى حواره الأول الذى أجرته معه مجلة «أكتوبر»، يضيف هو: «كان انضمام أنيس منصور إلى جماعة الإخوان المسلمين فى الثلاثينيات والأربعينيات شيئا عاديا، والانسلاخ منها شيئا عاديا أيضا، وإذا كان الأستاذ أنيس كان عضوا فى جماعة الإخوان فى بداية حياته، فإنه لا شك خرج منها، لأنها ضد مبادئه وأفكاره وكان هذا منذ وقت طويل». فى حواره الثانى قال نبيل عتمان نفس الكلام تقريبا، لكن بصياغة مختلفة، لكن أعتقد أن إثباته هنا -لما سيأتى بعد ذلك- أمر مهم قال: «الأستاذ أنيس اعترف أنه كان عضوا عاملا فى جماعة الإخوان، وأن الذى استقبله هو المرشد الأول للجماعة حسن البنا، الذى استغل حفظ الأستاذ للقرآن وجعله أمين عام مكتبة الإخوان فى إمبابة، وطلب منه أن يؤم المصلين فى مساجد المنطقة، وكان الأستاذ أنيس يطيع أوامر المرشد فى بداية حياته، لدرجة أنه كان يذهب إلى أى مسجد يكلف بالخطابة فيه حتى لو كان بينه وبين مقر سكنه عشرات الكيلومترات، لكنه انفصل عن الجماعة وهو فى عز شبابه، لأنه رفض تعليمات المرشد التى تقوم على السمع والطاعة، وهى المبادئ التى تتنافى مع مبادئ الأستاذ أنيس». انتهت شهادة نبيل عتمان الذى تم تقديمه إلينا إعلاميا على أنه كاتم أسرار أنيس، يؤكد أن أنيس انفصل عن الجماعة، لأنها تخالف مبادئه وأفكاره، رغم أن أنيس نفسه أكد أنه خرج من الجماعة مطرودا، لأنه لم يسدد الاشتراك، ولأنه كان يثير حالة من الشغب والصخب فى المسجد بما يؤثر على المصلين. والأهم من ذلك أن أنيس منصور يشير إلى أن لعبة الشطرنج هى التى أدخلته إلى الجماعة، وأن شبابها هم من قادوه إليها، ولم يتحدث عن حسن البنا، لكن كاتم أسراره ونقلا عن أنيس فى جلسات خاصة يشير إلى أن البنا هو من اكتشفه، وهو من قدمه للجماعة، ولا يتوقف الأمر عند هذا، فقد استغله لحفظه للقرآن، وكان يطلب منه أن يخطب الجمعة. لا أستطيع أن أكذب كاتم أسرار نجيب بالطبع، فأنيس نفسه وفى حوارات متفرقة مع الزميل الراحل وليد كامل، جاء بالذكر على حسن البنا شخصيا. كان وليد على اتصال بى قبل وفاته بشهور، وكان يجهز كتابا يضم حواراته مع عدد من الكتاب والمثقفين، وأرسل لى بعضا منها، وكان من بينها ما كتبه عن أنيس منصور، ولأنى أثق فى وليد فإننى أصدق ما يقوله. ينقل وليد عن أنيس منصور أن حسن البنا تسلل بهدوء ومكر ودهاء إلى قلب الفتى الصغير أنيس منصور، لينجح فى ضمه إلى جماعة الإخوان المسلمين، ويكلفه بعدها بمسئولية مكتبة الجماعة فى حى إمبابة، ليصبح أمينا عليها بجانب مهام أخرى كلفه بها من أهمها أن يؤم المصلين فى مجموعة كبيرة من المساجد، وأن يلقى خطبة الجمعة على المصلين فى مسجد حدده له البنا. يقول أنيس: «كان البنا من الذكاء، بحيث إنه كان دائم التعامل معى بآيات القرآن الكريم، الذى كنت أحفظه منذ طفولتى، لكنه فى النهاية أدرك أننى غير قادر على هضم مبادئ السمع والطاعة وتنحية أفكارى وقناعاتى جانبا، وهم غير قادرين على احتمال وجود عقل يناقش ويجادل ويفهم حتى ولو كان عقل فتى صغيرًا، لذا كانت هجرة الجماعة والانفصال عنها هى آخر الطريق. أكد أنيس لوليد كامل أنه وبعد فترة ليست بطويلة قرر الانفصال عن الجماعة التى وجد أن أفكارها لا تلائم قناعاته وأفكاره التى يحاول التأسيس لها فى تلك الفترة المبكرة من عمره، خصوصا مع وجود مبدأ السمع والطاعة على كل شىء يأمر به المرشد، وهو الأمر الذى لم يتحمله أنيس، فانفصل عن الجماعة بهدوء. القصة كانت لها قفلة موحية بعض الشىء، فكما قال أنيس لوليد إن البنا لم يتعامل مع انفصاله على أنه انشقاق فى صفوف الجماعة أو خروج على أوامره، فقد كانت الجماعة فى بداياتها.