رئيس ضمان جودة التعليم: الجامعات التكنولوجية ركيزة جديدة فى تنمية المجتمع    إتاحة الاستعلام عن نتيجة امتحان المتقدمين لوظيفة عامل بالأوقاف لعام 2023    قطع المياه عن نجع حمادي.. وشركة المياه توجه رسالة هامة للمواطنين    الحكومة: نرصد ردود فعل المواطنين على رفع سعر الخبز.. ولامسنا تفهما من البعض    «حماس» تصدر بيانًا رسميًا ترد به على خطاب بايدن.. «ننظر بإيجابية»    محامي الشحات: هذه هي الخطوة المقبلة.. ولا صحة لإيقاف اللاعب عن المشاركة مع الأهلي    رونالدو يدخل في نوبة بكاء عقب خسارة كأس الملك| فيديو    أحمد فتوح: تمنيت فوز الاهلي بدوري أبطال أفريقيا من للثأر في السوبر الأفريقي"    هل يصمد نجم برشلونة أمام عروض الدوري السعودي ؟    حسام عبدالمجيد: فرجانى ساسى سبب اسم "ماتيب" وفيريرا الأب الروحى لى    هل الحكم على الشحات في قضية الشيبي ينهي مسيرته الكروية؟.. ناقد رياضي يوضح    محامي الشحات: الاستئناف على الحكم الأسبوع المقبل.. وما يحدث في المستقبل سنفعله أولًا    مصارعة - كيشو غاضبا: لم أحصل على مستحقات الأولمبياد الماضي.. من يرضى بذلك؟    اليوم.. بدء التقديم لرياض الأطفال والصف الأول الابتدائي على مستوى الجمهورية    32 لجنة بكفر الشيخ تستقبل 9 آلاف و948 طالبا وطالبة بالشهادة الثانوية الأزهرية    استمرار الموجة الحارة.. تعرف على درجة الحرارة المتوقعة اليوم السبت    اعرف ترتيب المواد.. جدول امتحانات الشهادة الثانوية الأزهرية    صحة قنا تحذر من تناول سمكة الأرنب السامة    أحمد عبد الوهاب وأحمد غزي يفوزان بجائزة أفضل ممثل مساعد وصاعد عن الحشاشين من إنرجي    دانا حلبي تكشف عن حقيقة زواجها من محمد رجب    الرئيس الأمريكي: إسرائيل تريد ضمان عدم قدرة حماس على تنفيذ أى هجوم آخر    "هالة" تطلب خلع زوجها المدرس: "الكراسة كشفت خيانته مع الجاره"    حدث بالفن| طلاق نيللي كريم وهشام عاشور وبكاء محمود الليثي وحقيقة انفصال وفاء الكيلاني    أبرزهم «إياد نصار وهدى الإتربي».. نجوم الفن يتوافدون على حفل كأس إنرجي للدراما    مراسل القاهرة الإخبارية من خان يونس: الشارع الفلسطينى يراهن على موقف الفصائل    عباس أبو الحسن يرد على رفضه سداد فواتير المستشفى لعلاج مصابة بحادث سيارته    "صحة الإسماعيلية" تختتم دورة تدريبية للتعريف بعلم اقتصاديات الدواء    ثواب عشر ذي الحجة.. صيام وزكاة وأعمال صالحة وأجر من الله    أسعار شرائح الكهرباء 2024.. وموعد وقف العمل بخطة تخفيف الأحمال في مصر    العثور على جثة سائق ببورسعيد    الأمين العام لحلف الناتو: بوتين يهدد فقط    سر تفقد وزير الرى ومحافظ السويس كوبرى السنوسي بعد إزالته    نقيب الإعلاميين: الإعلام المصري شكل فكر ووجدان إمتد تأثيره للبلاد العربية والإفريقية    كيف رفع سفاح التجمع تأثير "الآيس" في أجساد ضحاياه؟    "حجية السنة النبوية" ندوة تثقيفية بنادى النيابة الإدارية    ضبط متهمين اثنين بالتنقيب عن الآثار في سوهاج    «الصحة»: المبادرات الرئاسية قدمت خدماتها ل39 مليون سيدة وفتاة ضمن «100 مليون صحة»    وكيل الصحة بمطروح يتفقد ختام المعسكر الثقافى الرياضى لتلاميذ المدارس    وصايا مهمة من خطيب المسجد النبوي للحجاج والمعتمرين: لا تتبركوا بجدار أو باب ولا منبر ولا محراب    الكنيسة تحتفل بعيد دخول العائلة المقدسة أرض مصر    للحصول على معاش المتوفي.. المفتي: عدم توثيق الأرملة لزواجها الجديد أكل للأموال بالباطل    القاهرة الإخبارية: قوات الاحتلال تقتحم عددا من المدن في الضفة الغربية    «القاهرة الإخبارية»: أصابع الاتهام تشير إلى عرقلة نتنياهو صفقة تبادل المحتجزين    «ديك أو بط أو أرانب».. أحد علماء الأزهر: الأضحية من بهمية الأنعام ولا يمكن أن تكون طيور    الداخلية توجه قافلة مساعدات إنسانية وطبية للأكثر احتياجًا بسوهاج    ارتفاع الطلب على السفر الجوي بنسبة 11% في أبريل    «صحة الشرقية»: رفع درجة الاستعداد القصوى لاستقبال عيد الأضحى    وزير الصحة يستقبل السفير الكوبي لتعزيز سبل التعاون بين البلدين في المجال الصحي    مفتي الجمهورية ينعى والدة وزيرة الثقافة    الأونروا: منع تنفيذ برامج الوكالة الإغاثية يعنى الحكم بالإعدام على الفلسطينيين    الماء والبطاطا.. أبرز الأطعمة التي تساعد على صحة وتقوية النظر    «الهجرة» تعلن توفير صكوك الأضاحي للجاليات المصرية في الخارج    رئيس الوزراء الهنغاري: أوروبا دخلت مرحلة التحضير للحرب مع روسيا    «حق الله في المال» موضوع خطبة الجمعة اليوم    بمناسبة عيد الأضحى.. رئيس جامعة المنوفية يعلن صرف مكافأة 1500 جنيه للعاملين    السيسي من الصين: حريصون على توطين الصناعات والتكنولوجيا وتوفير فرص عمل جديدة    الحوثيون: مقتل 14 في ضربات أمريكية بريطانية على اليمن    أسعار الفراخ اليوم 31 مايو "تاريخية".. وارتفاع قياسي للبانيه    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الاستاذ
نشر في أكتوبر يوم 30 - 10 - 2011

لأن الأستاذ أنيس منصور رمز يشار له بالبنان، آثرت مجلة «أكتوبر»، وهى البنت البكر لأستاذ الأجيال، أن تفرد له عدداً خاصاً يليق بتلك الموسوعة الأدبية والقيمة الفكرية، لكونه فيلسوف البسطاء وأديب الأمراء، وفاكهة الصحافة المصرية التى لا تظهر فى الشتاء ولا وجود لها فى الصيف.
وبين صفحات العدد أسرار خاصة عن حياة الأديب الراحل وحكايته مع أهل قريته فى المنصورة، وقصة فصله من الصحافة على يد عبد الناصر، وأسرار زيارته للقدس مع الرئيس السادات، وكواليس صدور العدد الأول من مجلة أكتوبر ومقال الفقيد الراحل الذى تنبأ فيه بموته.. تفاصيل مثيرة فى هذا العدد التذكارى.
مقدمة :
لم يكن الفتى منصور جنينا عاديا فى بطن أمه، لم يكن قليل الحركة، أو مستقر الأوضاع، أو حتى مثل خلق الله هادئا تارة وثائرا تارة أخرى، بل كان كما قال عن نفسه «كنت فى أحشاء أمى جزءا من حياتى كنت متمردا على هذا الرحم الصغير، كنت أحس أن قيوده تقتلنى، فالكبد عن يمينى والطحال عن شمالى كنت انتظر تلك اللحظة التى أنزل فيها من هذا الرحم الضيق انتظرها على أحرّ من الجمر. لم أنزل باكيا أو مستغربا، بل نزلت متأملا متسائلا: أين أمى التى تحملت كل هذه الشقاوة وهذا التعب؟..
إننى خلقت من أجل أمى.. لنعيش معا، ونموت معا.. لنستريح فى محطة الدنيا.. ونعبر معا «كوبرى» الآخرة.
قصة النداهة التى أنقذت
الفتى منصور من الغرق
فى قرية نوب طريف التابعة لمركز السنبلاوين - وليس المنصورة كما تردد - ولد صلاح محمد منصور أو أنيس محمد منصور وهو الاسم الذى اشتهر به ليصبح «أنيس منصور».
عاش أنيس مع أبناء قريته، أحمد ومحمد وصلاح ومحمود يذهب معهم إلى كتاب الشيخ عبد المعبود صباحا، ويجرى فى الحقول وقت الظهيرة، وإذا جاءت فترة المساء يذهب إلى كتاب الشيخ ثانية لتسميع «الماضى» ومراجعة القرآن الذى حفظه عن ظهر قلب فى بداية اليوم.
فى أحد الأيام رأى الطفل أنيس أن قرية «نوب طريف» اتشحت بالسواد.. خرجت عن بكرة أبيها.. الكل يبكى وكأن القيامة قد قامت تساءل الطفل ماذا جرى؟ لماذا تبكى القرية؟ لماذا ترتدى السواد؟
قال له صديقه الصدوق سليمان على ندا الذى التقت به أكتوبر فى حوار خاص لا تحزن يا أنيس فإن مولانا الشيخ عبدالمعبود شيخ الكتاب توفاه الله.. مات.. ظل أنيس يبكى على شيخه كان يتمنى أن يختم القرآن على يديه، ولكن «ما دايم إلا وجه الله».
بعدها ذهب أنيس لكتاب الشيخ السيد أبو محمد ليختم القرآن على يديه.
الطفل أنيس منصور كان ولدا شقيا كما قال عن نفسه يجبر أمه على ضربه بسبب وبغير سبب. فمثلا ينزل ليستحم فى النيل، وهو لا يعرف العوم، فيحمله زملاؤه الصغار ملفوفا بملابسه بعدها يصاب بالحمى أو البرد، ولا ينقذه من يدها إلا المرض أو أحد الجيران.
الثعلب المكار
ذات مرة شاهد الثعلب وهو يصعد بظهره النخلة حتى يكون فى مأمن من أهل الأرض أو صاحب النخلة، على الفور يقوم الطفل أنيس بتقليد الثعلب.. يخلع جلبابه، ويحاول صعود النخلة بظهره.. يحاول مرات ومرات.. ولكنه يفشل أيضا مرات ومرات.. وفى المرة الأخيرة يقع أنيس على الأرض، بعد أن تتلطخ ثيابه بدماء رأسه.. إنها شقاوة الأطفال التى لا تدانيها شقاوة.
لم يكتف أنيس بتقليد الثعلب، بل كان يقلد والده أيضا.. كان يأخذ تعاويذه التى كان يوزعها على المرضى وأصحاب الحاجات يأخذها من جيب الجاكيت.. يفتحها يقرأ ما فيها.. ويذهب بها إلى المرضى ليقرأ عليهم الأوراد والآيات.. أراد الطفل أنيس أن يكون كبيرا.. أراد أن يكون له دور فى سن مبكرة كان يرفض أن يجلس فى مقاعد المتفرجين أو أن يكون عالة على أهله. ظل على هذه الحالة حتى فارق الدنيا وما عليها.
زيارة إلى القبر
كان أنيس منصور نابغة فى طفولته.. كان يريد معرفة كل شىء رأى الأحياء يزورون الموتى فانتظر حتى جن الليل وذهب إلى قبر جده ذهب ليشتكى أمه التى تضربه صباح مساء على حد وصفه ولكن لأن الأم هى الأم.. أخذت تبحث عنه فى كل مكان.. تجرى ناحية المقابر تنادى عليه بأعلى صوته الذئاب تعوى والثعابين تتلوى.. وشياطين الأنس تترقب وعفاريت الليل لا حصر لها.. فى النهاية تعثر عليه أمه بعد طول غياب تحضنه بين ذراعيها.. دفء ما بعده دفء إنها الأم التى أرادت أن يكون أنيسها محاميا أو طبيبا أو وزيرا وهو يريد شيئا آخر أرادت أن يكون له «شان وشنشان» أراد أن يكون أنيس منصور الفيلسوف والمفكر والمبدع والفنان.
ارتبط أنيس منصور بوالده ارتبط به لكونه أبا حنونا محبوبا يتفانى فى عمله، ويبحث عن الرزق الحلال يحفظ القرآن عن ظهر قلب ولا يعنيه من الدنيا إلا تربية أولاده الأحد عشر. تزوج أكثر من سيدة فأنجب هذا العدد الكبير كان همه أيضا أن يحفظ أنيس القرآن ويتفوق فى دراسته.. أن يكون هذا «الولد» النابغة سيد شباب أهل مصر. ولذلك كما يقول الأستاذ: عندما علم والدى أننى حفظت كتاب «دلائل الخيرات»، ذهب إلى إمام المسجد وقال أنيس ابنى حفظ «دلائل الخيرات»؟! فقال له الشيخ: وهذا من «دلائل الخيرات» أيضا، وعندما حفظت بردة البوصيرى قال لمأمور المركز فى أول لقاء بينهما إن ابنى قد حفظ «البردة» ويستطيع تسميعها الآن.. كان يفتخر بولده فى أى مكان يذهب إليه.
شاى بالنعناع
يقول الأستاذ أنيس عن والده كنت أعشقه وأنام أمام غرفته، كان يستيقظ الفجر، ونصلى معا.. يصلى إماما وأصلى خلفه يقرأ القرآن ويضع يده على رأس وقلبى ويدعو ربى أن ينصرنى على نفسى وعلى أعدائى وأن أكون رحيما بوالدى وأن أكون فى أعلى المناصب، وأن يجعل فى قلبى نورا وفى بصرى نورا.. كان يصنع لى الشاى بالنعناع، ويحكى له ما يعرفه من القصص.. يحكى لى عن شمر بن ذى الجوشن قاتل الحسين، وقتلة عمر وعثمان وعلى، كان يقول لى إن مصر محفوظة.. من أرادها بسوء قصم الله ظهره.
يقول الأستاذ أنيس: والدى كان كثير السفر والترحال لا يستريح فى البيت كثيرا.. كان قليل الكلام كثير العمل.. فى حاله خصام دائم مع جدتى وكانت له هيبة ومكانة بين أبناء القرية كان معروفا بالصدق والأمانة والثقافة والأدب كان يدخل القرية على جواد أبيض وشمسية بيضاء تقيه حر الشمس يحيط به الناس من كل جانب وكأنه ملك متوج ويمشى وراءه عدد من الفلاحين سيرا على الأقدام أو على ظهر الحمير، كان قويا سمعت أنه يحتضن الحصان بذراع واحدة ويمشى به لخطوات.. كان خيّرا يصنع الخير فى أهله، وفى غير أهله، كان قدوة للخفراء والأمراء على حد سواء.
حجاب أبى
رأيته ذات مرة يصوب فوهة البندقية التى كان يحملها على ظهره، ويمشى بها بين الحقول على هدف بعيد.. رأيت الدخان يخرج من الماسورة السوداء. لأول مرة كما يقول الطفل أنيس أسمع طلقا ناريا نظرت إلى والدى بخوف أخذنى من يدى وقال: لا تخف تعال معى لنستطلع الفريسة رأينا ذئبا يتلوى كان يأكل الخراف من حقول الفلاحين والفراخ من شوارع القرية.
ومرة أخرى وجدته يمسك شيئا طويلا، اعتقدته حبلا فى البداية ولكنه كان يتلوى أخذ يلف به فى الهواء ثم ألقاه على آخر ذراعه، فتبين أنه ثعبان قذفه أبى فى الهواء ليرتطم بجذع شجرة ليكون آخر يوم له فى الحياة. كان والدى «رجل بركة» قابله أحد أبناء القرية ذات مرة قائلا له: يا عم محمد الصداع سيفلق رأسى تمتم والدى بلسانه فى أذن الرجل وملس على رأسه بإصبعيه ثم أخرج ورقة من جيبه وأعطاها للرجل، وأخذ يقول له: باسم الله الشافى المعافى أن تشفى هذا الرجل، وببركة قوله تعالى «ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين» ويطمع الرجل أكثر وأكثر ويقول لوالدى يا عم محمد أنا عايز كمان شوية بركة.. «الواد» ابنى كاره البيت.. الظاهر عليه راكبه عفريت.. ساعدنا يا عم محمد الله يساعدك.. وما كان من والدى، -كما يقول الأستاذ أنيس منصور- إلا أن أعطاه حرزا ليقيه الشيطان الرجيم، وكتب عليه قول الحق سبحانه «فرجعناك إلى أمك كى تقر عينها ولا تحزن». وعاد الولد إلى حاله ببركة القرآن وبركات والدى.
وعن علاقته بأمه يقول «الأستاذ»: كنت ألازمها كظلى، أراها فى اليقظة والمنام، أراها أمامى فى الكتاب والمدرسة، كانت سريعة الحركة، تنتقل فى طول البلاد وعرضها تزور أهلها وعشيرتها، وتمد حبل الوداد الذى قطعه والدى لظروف عمله، كانت معشوقتى الأولى، وكنت معشوقها الأوّل.
أرز بالسمن
عندما كان يسمع الطفل أنيس أن أمه مريضة.. كان يمرض لمرضها، ويسعد لسعادتها، كانت تحاول إخفاء مرضها وكان يحاول معرفة الحقيقة، تسلل إلى حجرتها، ونام تحت قدميها.. سمع أنين الألم يخرج من طيات ملابسها.. جاءته رعدة وأصابه برد فى عظامه أراد أن يخفف عنها.. أتى بملابسه.. وضعها فى إناء كبير، وصب عليها الماء، أراد غسلها.. صعد إلى سطح المنزل لتجفيفها، رأته الأم المريضة احتضنته، قالت له حفظك الله يا بنى. نام على صدرها، أحس بدفء بين ذراعيها، دعت له بالبركة وطول العمر، فعل ما هو أكثر، دخل إلى غرفة الطعام ليصنع لها حفنة من الأرز المسلوق.. أحس أنها جائعة، أراد أن تكون فى أحسن حال، خلط الأرز بالماء وفوقهما السمن، تحول الأرز إلى عجين، فلا هى أكلت، ولا هو استراح..
موقف آخر أراد تخفيف العبء عن أمه.. ظل يبحث عن رضاها، جمع فناجين القهوة التى تحتاج إلى غسيل، صب عليها الماء، حاول تجفيفها.. ووضعها فى مكانها على الرف، فى لحظة سقط الرف وتكسرت الفناجين، وكانت مشكلة نال بسببها علقة ساخنة، فلا هى طلبت منه الغسيل، ولا نجح فى المهمة، ولا تركها مكانها.. وسبب العلقة أن الفناجين كانت ملك إحدى الجيران، ومطلوب ردها فى أسرع وقت.
سيدة قوية
يقول الأستاذ أنيس منصور: أردت أن أعرف مصيرى من أمى التى كانت تقرأ الفنجان.. كانت تستطلع الغيب، كانت سيدة قوية لاتعترف بالضعفاء يأتى إليها أخوالى ليقبلن يديها ورأسها كل صباح..
قالت لى أكثر من 20 مرة لن تكون مثل أبيك ولن تكون مثل عمك فى الأزهر، ولن تكون طبيبا أو عمدة أو مهندسا، ولكن ستكون وزيرا.. أتيت لها بفنجان قهوة.. حتى أعرف منها ماينتظرنى، انتظرت على الفنجان حتى يجف، وظهرت فى وسطه خطوط متداخلة، أمسكته بين أصابعها، نظرت فيه بعمق، انفرجت أساريرها، أشرق وجهها، وقالت: فنجانك حلو قوى ياابنى، كله سكك مفتوحة، وفى وسط الفنجان كلمة «الله» وبجواره كلمة «محمد».. الله نور، ومحمد جميل الوجه، وحوله إناس كثيرون، وتابعت قائلة: ياابنى أعداؤك من دمك، والله ناصرك وحاميك.. العلاقة بينى وبين أمى كانت عجيبة.. كان لابد لى أن أمرض حتى أكون قريبا منها، أو تمرض هى، حتى أنام تحت قدميها، وبعد ذلك فى حضنها.
كان الطفل أنيس منصور انطوائيًا، زرعت فيه أمه مبادئ العزلة، أراد أن يكون مستقلا فى تفكيره وعلاقاته، فمع كثرة أشقائه، لم يعرف منهم أحدًا، كانوا بالنسبة له مجرد ذكرى، وكان بالنسبة لهم مجرد طيف، لم يسأل عليه أحد، وهو لم يسأل عليهم أيضًا، وقف ذات يوم مع أحدهم، نادته أمه بصوت جهورى.. لاتقف فى الشارع، فالجلوس فى البيت أفضل لك وله.. يقول الطفل أنيس: لم أفكر فى أحد من أشقائى.. كل تفكيرى كان فى شقيقتى التى تمنيت أن أراها، كنت أحلم أن ننام معًا ونلعب معًا، ونعيش معًا.. ولكنها أمى التى كانت تخاف علىّ حتى من إخوتى. الناس عندها صنفان: الأقارب أسوأ الناس. أما الجيران فهم أقل سوءًا، والمدهش أنها كانت لاتفضل الجلوس
إلا مع الست أم عزيز كانت مسيحية تقرأ الفنجان وتفتح الكوتشينة.. وكان أولادها عزيز وألفت ومادلين أعز ما أملك.
لم ينعم الطفل أنيس منصور بحياته كبقية الأطفال، فوالده كان دائمًا خارج البيت، وأمه كانت دائمًا مريضة، كان يترك دروسه ويجلس بجوارها ليطعمها، ويعطيها العلاج، ويرتب لها حجرات الاستقبال والنوم والمعيشة..
الموت غرقًا
تفوق على أقرانه فكان الأول على الجمهورية فى الابتدائية والأول فى التوجيهية.. كان فى حزن دائم لم يقل له أحد مبروك.. حاول الانتحار مرتين.. مرة فى التوجيهية والثانية فى البكالوريا.. كل الناجحين يوزعون الشربات، ويقيمون الموائد، أما هو فإما أنه يبكى على أمه، وإما يبكى على نفسه دخل غرفتة لينام فلاحقته الكوابيس من كل جانب، أشباح، وعفاريت، وعقارب، وشياطين.. الكل يحاول الخلاص والقصاص منه هرب إلى فراشه غطى نفسه جيدا لينقذ نفسه من هذا العذاب، اعاد المحاولة مرات ومرات ولكنه فشل، ماذا يفعل؟. عذاب بالليل، وجحيم بالنهار.. أب غائب وأم مريضة فالحياة لا قيمة لها بعد فراق الاهل والأحباب هداه تفكيره أن يخرج من المنزل، أخذ يمشى فى شوارع القرية قادته خطاه إلى شاطئ النيل فى المنصورة يذهب إلى هناك يقف على الشاطئ ويفكر فى الانتحار، قرر أن يموت غرقا، همّ بإلقاء نفسه فى النيل، وما بين لحظة وأخرى نادت عليه امرأة لا يعرفها،قد تكون نداهة وقد تكون جنيّة وقد تكون امرأة حقيقية باتت لغزا يؤرق حياته حتى مماته.. قالت له: تفكر فى الانتحار ولكن إذا غرقت
أو مت فمن يرعى أمك؟ عندها كما روى نبيل عتمان كاتم أسرار الأستاذ أنيس منصور لأكتوبر- تراجع الفتى أنيس ليعود إلى أمه، ويحتضنها، ويقول لها أنت شقائى وسعادتى لترد عليه قائلة: وأنت حلم حياتى، وجنتى ونارى... أنت بالنسبة لى كل شىء فى الوجود.
عيشة الحرية
ولأن الطفل أنيس منصور كان يعشق الحرية فإنه كان مبهورا بعائلات الغجر التى كانت تنتقل من شرق البلاد لغربها كانت تجيد قراءة الكف والفنجان والكوتشينة، ويتذكر الأستاذ أنيس منصور أن نساء الغجر كن جميلات، كن يأسرن اللب، كانت الواحدة منهن طاقة متفجرة من الجمال والفتنة، كن يأسرن الألباب.
قراءة الكف
يقول الأستاذ أنيس كنت أعشق واحدة منهن، دفعنى حبها أن أمشى معها، أتعلم منها قراءة الكف والفنجان، وكانت أمى تخاف علىّ من هذه الصحبة، وكانت تشتكى لأبى من هذه التصرفات، كانت تدفعه لأن يفعل شيئا.. وكان طيبا ودودا، يسألنى لماذا تمشى مع الغجر، وكانت الإجابة إنها المعرفة ياوالدى.
اعترف الاستاذ أنيس أن صوته كان جميلا، كان يهوى الغناء والتلحين يهوى الجمال والطرب، وعندما سألت نبيل عتمان عن سر هذا الجمال فى صوته قال.. لقد سألت الأستاذ نفس السؤال فقال: الصوت موهبة.. ونعمة من الله، وصوتى هو صورة طبق الاصل من صوت والدى.. الذى كان يقرأ القرآن بصوت رخيم، وكنت اردد وراءه بنفس الاداء، كان يبكى، وكنت أبكى مثله، كنت أسمعه وهو يغنى لصالح جودت وسيد درويش وعبده الحامولى، كان يحضر حفلات منيرة المهدية، ويرتجل أغنيات وتواشيح دينية ويغنيها، يقول الأستاذ أنيس، وكان خالى يغنى أيضاً وكان صوته جميلاً وكذلك خالتى. أما أمى فقد سمعتها تغنى ذات مرة فى الحمام ، وكان صوتها جميلاً ولكنه كان حزيناً، ومهموماً، وإن كانت كلمات أغنيتها تحمل معانى الصبر والهموم والبخل والكرم، وقساوة الأيام والذل والحسد، وما شابه ذلك من معان.
الحب الأول
وتمر الأيام فبعد حصول التلميذ أنيس منصور على الترتيب الأول فى الابتدائية، انتقل إلى التوجيهية وفى طريقه إلى المدرسة مع زملائه رأى فتاة نحيفة سمراء طويلة، سوداء الشعر، تهز رأسها بصورة عصبية -على حد وصفه- لم يضعها فى ذهنه ولكن بعد يوم واثنين وثلاثة.. لا حظ أنها ترقبه سار فى طريقه إلى حال سبيله مالت عليه وقطعت عليه تفكيره، سألته عن الساعة، فقال:
لا أعلم، فقالت له السابعة.. من هذه الفتاة إنها أخت فريد.. أحد أصدقاء الدراسة، جاءت إلى منزلنا مع والدتها ،لزيارة أمى المريضة.. لم ألق بالاً، ولكنى مازلت متذكراً تلك الفتاة الناعمة والشعر الأسود إنه الحب الذى يأتى فجأة ويذهب فجأة أيضا.. وبعد سنوات يحصل الطالب أنيس منصور على المركز الأول فى الثانوية أو البكالوريا ثم يأتى مع أسرته الكريمة إلى مدينة امبابة ليلتحق بكلية الآداب قسم فلسفة جامعة فؤاد الأول ويحصل على المركز الأول أيضًا، يقوم بالتدريس فى الكلية.. يلتف حوله الشباب ليكون نجم الشباب فى الخمسينات ونجمهم أيضا بعد الثورة فى 2011 وتبدأ رحلة الدراسة والاطلاع والمعرفة مع الصحافة والشهرة، مع محمد التابعى، ومصطفى أمين، مع أخبار اليوم، ومجلة الجيل، مع آخر ساعة والأهرام مع نجوم الفن والسياسية والأدب مع إحسان عبد القدوس، ويوسف السباعى، ونجيب محفوظ، مع الرئيس عبد الناصر، والرئيس السادات والذى نجح باقتدار فى اكتشاف هذا الراحل العظيم ليجعله من المقربين إليه، ويمنحه لقب رجل المهمات الصعبة فى العراق والسودان وإسرائيل وليبيا، كانت له أيام فى صالون العقاد مع توفيق الحكيم والمازنى وطه حسين، عاش فى حياته عبدالوهاب، والسنباطى، وبليغ وأم كلثوم، ونجاة الصغيرة، وعبد الحليم حافظ وكان ابن نكتة مثل يوسف السباعى، وزينات علوى، وإسماعيل ياسين وكمال الملاخ.
زجاجات الخمر
وفى معرض حديثه عن الحكام العرب قال عن القذافى: كان رجلاً جاهلاً لا يعرف قيمة الناس أو الأدب أو الفكر وكانت الحاشية التى تحيط به أكثر منه جهلاً.. ويدلل على ذلك بأن ضابط الجمارك فى مطار طرابلس أفرغ زجاجات الأدوية الخاصة بالأستاذ أنيس، وقال له: سأحرر لك محضرًا.. لأنك تحمل زجاجات من الخمر، تعجب الأديب الكبير وقال إنها زجاجات لعلاج المعدة وتقلصات الأمعاء.. وهى دواء أتناوله عند الحاجة إلّا أن الضابط أصر على تحرير محضر، وقال: الخمر أيضًا دواء، وأبو نواس قال عنها «فداونى بالتى كانت هى الداء».. وعندما علم القذافى بالحكاية.. دعا «الأستاذ» إلى مقابلته، طلب منه أصل الحكاية اعتبر «الأستاذ» أن القذافى سيحقق فى القضية، ولكنه اكتشف أنه يريد أن يسمع ليضحك ومن هنا أدرك الأستاذ أنيس منصور حجم الحكام العرب مقارنة بالعملاق الكبير أنور السادات.
أما صدام حسين فله حكاية أيضًا مع الفقيد الراحل، وهو أنه عندما انتهى حكم الشاه بقيام ثورة الخومينى.. أوفد الرئيس السادات «الأستاذ» لصدام حسين بغرض تحصين الجبهة الشرقية ضد أطماع الخومينى وأتباعه وعدم الانسياق إلى حرب قد يكون غير مستعد لها، وفجأة وبلا سابق إنذار انساق صدام وراء استفزازات الخومينى، ودخل حربًا معه فقد فيها أكثر من 100 ألف شهيد دون أن يطلع الرئيس السادات عما يدور فى ذهنه، ولم ينقذه من براثن إيران إلّا الرئيس السادات ومن بعده الرئيس السابق حسنى مبارك.
رجل المهام الصعبة
ولأن الأستاذ أنيس هو رجل المهمات الصعبة فقد أوفده الرئيس السادات أيضاً إلى جعفر نميرى فى مهمة سرية طالبًا منه تحسين علاقاته مع دول الجوار والمنبع خاصة تشادو أثيوبيا وكينيا وتنزانيا لأنها بمثابة العمق الاستراتيجى للأمن القومى المصرى الذى يمتد من هضبة الحبشة جنوبًا حتى البحر المتوسط شمالًا، ومع هذا فقد كان جعفر نميرى يستقوى على هذه الدول مستغلًا تلك العلاقة الخاصة التى تربطه بالرئيس السادات، وكان يمد حركات المعارضه فى تلك البلاد بالأسلحة والذخيرة حتى ثار عليه قادة جيشه وفى النهاية لجأ إلى مصر ليتحول من زعيم سياسى ورئيس دولة إلى لاجىء لا حول له ولا قوة.
أما أخطر ما رصده الأستاذ أنيس منصور خلال لقاءاته السرية مع جعفر نميرى هو أن الرئيس السودانى كان يتعاون مع الإسرائيليين ضد الشعب الفلسطينى بتهجير يهود الفلاشا بالسودان وأثيوبيا، وكينيا إلى تل أبيب برحلات جوية مشبوهة، وجوازات سفر مزورة مما كان يتنافى مع مبادىء القومية العربية.
أسرار كثيرة ارتبطت بحياة الفتى منصور ابن السنبلاوين والمنصورة والدقهلية.. ابن القاهرة الساهرة، ومصر العامرة، ابن النيل والأهرام وأبوالهول.. عاشق الفكر والأدب.. رحم الله الفقيد رحمة واسعة وأدخله فسيح جناته.
كُتاب الشيخ سيد..
«سربون» أنيس منصور
وفى رحلة بحثنا عن شيخ الكتاب الذى حفِّظ الأستاذ القرآن قابلتنا شقيقته الحاجة كريمة محمد السيد سيدة كبيرة فى السن فتحت لنا الكتاب الذى وصفه الأستاذ فى إحدى لقاءاته التليفزيونية بأنه جامعة السربون وقالت: أنا عارفة أنيس كويس وكان أشطر واحد فى الكتاب، وأخى قال عنه كلاما كثيرا قبل موته، وأكد أنه حفظ القرآن فى أقل من سنتين ولكن أنيس كان ولد شقى وبيعمل مقالب فى «العيال» الصغيرة وبكت قائلة: الكتاب مغلق بعد وفاة شقيقى وأتمنى أن يعود كما كان ولكن العين بصيرة واليد قصيرة.
أما البيت الذى تربى فيه الأستاذ فمازال على حاله حتى الآن وهو يعد من البيوت القليلة التى مازالت بالطوب اللبن، وهو عبارة عن طابقين ومن الحقائق الثابتة أن محمد منصور والد أنيس منصور اشترى البيت بالطوب اللبن وأعاد بناءه بالطوب اللبن أيضا، وفى النهاية تركه وذهب إلى القاهرة.
حضرة العمدة يعترف :
الطفل أنيس.. حسن السير والسلوك
رغم عمره المديد الذى تجاوز ال 81 عاما أكد حضرة العمدة الحاج عبدالله السروالى عمدة قرية نوب طريف والذى يتمتع بصحة جيدة، وذاكرة حديدية أن الطفل أنيس منصور كان حسن السير والسلوك وكان منطويا على نفسه، وأجمل ما فيه أنه كان يواظب على الصلاة فى المسجد، ويحرص على الذهاب إلى كتاب القرية مع بقية الأطفال.
ويضيف حضرة العمدة قائلا إن أنيس كان صديق شقيقى الأكبر، وكانا يحفظان القرآن معا، وفى أوقات الفراغ كانا يذهبان إلى «الرياح» مجرى مائى كبير لصيد السمك، أما والده فكان ناظرا بدائرة راضى عز الدين باشا يكن.
قرية الأستاذ.. على العين والراس
فى الأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضى كانت قرية نوب طريف التابعة لمركز ومدينة السنبلاوين مسقط رأس أنيس منصور منسية كغيرها من القرى ولكن بعد اهتمام محافظة الدقهلية بقرى المشاهير تم تطوير الأبنية التعليمية فيها بإنشاء مدارس الابتدائى والإعدادى والثانوى بنين وبنات، كما يوجد بها 9 مساجد ووحدة صحية وسنترال وجمعية خيرية لتنمية المجتمع وتشتهر القرية بصناعة صناديق السيارات المفتوحة والنصف نقل.
إبراهيم الطنطاوى رئيس الوحدة المحلية التابعة لها القرية أكد لأكتوبر أن قرية أنيس منصور على العين والرلس كغيرها من القرى ولكن ستكون لها منزلة خاصة لكونها قرية الأستاذ أو فيلسوف البسطاء، وتعهد بأنه سيرفع تقريرا إلى السيد رئيس مجلس المدينة لإطلاق اسم الأستاذ على مراكز الإنتاج فى المحافظة.
حكاية الشيخ سليمان مع الأستاذ
فى الكُتاب والمدرسة والأهرام
إنه الشيخ سليمان على ندا.. صاحب البركات والنفحات، يحفظ القرآن عن ظهر قلب ورغم سنه الذى تجاوز ال 100 عام فمازال يتمتع بذاكرة قوية قال ل أكتوبر أنيس منصور حبيبى.. عشنا أحلى أيام العمر.. كانت أياماً جميلة خالية من الكذب والنفاق، كنت قريباً من «الأستاذ» لدرجة لا يتصورها عقل، وذلك بحكم عملى مع والده الذى كان يعمل بالليل والنهار حتى يستطيع توفير النفقات لأولاده الذين تجاوزوا الأحد عشر كوكباً .
كان والد الأستاذ يمتلك محل فراشة بجوار عمله ناظر زراعة عائلة يكن، وكنت أقوم بإدارة المحل، ورعاية الطفل أنيس، وتوصيله إلى الكتاب والمدرسة، كان عهدة فى رقبتى فى حالة غياب والده.
كنت أصطحبه يومياً إلى كتاب الشيخ عبدالمعبود وعندما مات كلّفنى والده بالذهاب به إلى كُتّاب الشيخ السيد أبومحمد، وإلى المدرسة الابتدائية، وأهم ما يميز الطفل أنيس أنه كان خجولاً جداً، وكان لا يرفع بصره من الأرض، وكان دائماً مهموماً، وكأنه ينظر إلى العالم الآخر.
وكشف الشيخ سليمان ندا أن خط الأستاذ أنيس كان جميلاً جداً وأنه كان ضمن أسرة مكونة من ثلاثة أشقاء أنيس وعبدالعزيز وإخلاص بالإضافة إلى 11 آخرين.
وقال إن والدة أنيس كانت من الزرقا فى دمياط وكانت ثرية جداً، ويكشف أنها كانت الآمر الناهى فى البيت، وكان والده دائم الترحال والسفر حتى يتمكن من توفير النفقات لأشقائه، وحتى يعيشوا عيشة كريمة.
ويؤكد الشيخ أن والد أنيس كان رجلاً أصيلاً ومحترماً، فعندما باعت عائلة يكن الأرض لعمدة القرية، وترك والده النظارة، وأصبحت أنا بلا عمل، أرسلنى الحاج محمد منصور إلى زوج ابنته الكبرى محمد على المهلمى لأعمل فى تجارة الخيش، بجوار سيدنا الحسين عام 1945.
ويتذكر الشيخ سليمان ندا موقفاً طريفاً أنه فى أوائل الخمسينات قررت زيارة الأستاذ أنيس فى الأهرام.. وعندما وصلت للبوابة منعنى الأمن من الدخول وحتى الاقتراب، وقالوا لى: «هوه حد يقدر يقابل الأستاذ؟».
يستطرد ندا قائلاً لم أرد عليهم.. وقلت لهم أبلغوه باسمى فقط إذا قبل فبها ونعمت، وإذا رفض فلن أحضر إلى هنا بعد اليوم.. وبالفعل اتصلوا بالأستاذ أنيس وأبلغوه باسمى فأمرهم بصعودى، وقابلنى مقابلة حسنة وكريمة، وتذكرنا معاً أيام الطفولة.
ويتابع ضاحكاً: منذ سنوات اشتكى أحد أبناء القرية، الذى يعمل فراشاً فى إحدى المدارس من ناظر المدرسة الذى طلب منه صراحة أن يعمل عنده فى الحقل، وعندما رفض الفراش، قرر الناظر مجازاته، وخصم له أياما كثيرة على أشهر متوالية، وذات صباح جاء هذا العامل يشتكى فطلبت منه الذهاب إلى الأستاذ أنيس منصور لينقله، وبالفعل ذهب العامل إلى «الأستاذ» فى الأهرام.. فضحك الأستاذ كثيراً وقال له: «اذهب الآن إلى المدرسة» ولا تتكلم، وبالفعل ذهب العامل فوجد الناظر يقول له من الآن: أنت الناظر وأنا العامل.
خلاصة الكلام كما يقول الشيخ ندا أن الأستاذ أنيس منصور لم ينس أهل قريته يوماً ما على عكس ما يقال ويشاع .
مكتبة «الأستاذ» صدقة جارية
فى تصريحات خاصة ل أكتوبر طالب اللواء محمد غيط راغب رئيس مركز ومدينة السنبلاوين من ورثة الأستاذ الكبير أن تكون مكتبته من نصيب أبناء محافظة الدقهلية لتكون بمثابة صدقة جارية على روح الفقيد الراحل.
وأضاف أن مدينة السنبلاوين غنية برموز الفكر والثقافة والأدب والفن، فالعلامة أحمد لطفى السيد، من قرية برمين، وسيدة الغناء العربى أم كلثوم من طما الزهايرة والفيلسوف أنيس منصور من نوب طريف.
وأشار إلى أن الأستاذ أنيس يعد بمثابة فيلسوف البسطاء الذى أمتعنا بكتابه الشائق حول العالم فى 200 يوم، وأكد أن مجلس المدينة عاقد العزم على وضع تمثال له فى أشهر ميادين المدينة أسوة بالفنانة أم كلثوم، فضلاً عن إطلاق اسمه على مكتبة السنبلاوين العامة.
من نوادر الأستاذ
من نوادر الأستاذ أنيس منصور الإبداعية عندما كنا نحضر اللقاء الفكرى فى معرض الكتاب، أنه كان يحاول الهرب بعد انتهاء اللقاء فيفاجأ بأن هناك لقاء آخر فى قاعة أخرى.. وكان يضحك ويقول- أوقع بى سمير سرحان- وكان يقصد د. سمير سرحان الذى كان يدير اللقاءات الفكرية فى معرض الكتاب وفى إحدى المرات كان الاستاذ أنيس رحمة الله فى غاية الأرهاق وهو يهم بالانصراف فإذا بأحد الشباب يفاجئه بسؤال- ما هى الحضارة يا أستاذ- وكان الأستاذ أنيس يومها يخشى الزحام المرورى فى طريق عودته للمنزل- فرد قائلا الحضارة هى احترام إشارة المرور.
ونوادر الأستاذ أنيس كثيرة جدا لو جمعناها لكانت أكبر موسوعة للنوادر والطرائف فى العالم.. فمنها اللاذع ومنها الغريب ومنها غير المتوقع وهكذا.. مثلا كان الحديث عن الحب والشعراء والمبالغة فى الوصف، وكان حديثا جادا جدا عندما سألته عن أحد أبيات الشعر فى قصيدة المواكب للشاعر جبران خليل جبران والذى قال فيه.
والحب أن قادت الأجساد مواكبة إلى فراش من الأغراض ينتحر.
وقبل أن أكمل البيت الثانى رد الأستاذى أنيس وكان يريد أن ينهى اللقاء بطرفه كعادته فقال ربما كان المحب عاجزا فهو لا يستطيع أن يذهب بمحبوبته إلى الفراش، أو ربما معندوش سرير يا أخى!! وضحكنا وضحك الأستاذ.
حسن زعفان


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.