بالقسمة على أربعة، مثل فصول سنة العشق والغرام والحلم والرحيل، ومثل حجرات القلب الذى ألهبه الحب وأدماه الوداع، هكذا قرر شاعرنا جمال محمد على الذى أصدر ديوانه المنظوم بالفصحى "أوجاع الرحيل" عن "دار العلوم للنشر والتوزيع"، فكتب تحت عناوين أربع هى "البداية، والرحيل، والشوق، وحلم العودة" إحدى وعشرين قصيدة بث فيها لوعة فراق عزة المرأة الوحيد التى أحبها، وأخرج من قلبه على الورق أوجاع رحيلها عنه، بعدما لم يطق هذا القلب صبرًا على تحمل الوجع وكتمانه بشجاعة فارس، بل قرر أن يبوح بها بحس شاعر، فالشاعر دائما لا يملك حيال الوجع والحزن والرحيل سوى البوح والكتابة والنحيب، ولا يجسر على الصمت والكتمان أبدًا. إنه مثل نرجسة عجوز فى القاهرة تحول إلى صوفى عاشق متبتل يرى نفسه وقد ارتدى معطف الشتاء الذى أتى برحيل الحبيبة/ عزة، إنه الحلم الملهم الذى أصبح طيرا مهاجرا حيث وجهة واحدة هى الرحيل، لكنه ليس كأي رحيل، فهو إلى قلبه المتيم المعذب بعشقه الأفلاطونى العذري، فسامحيه أيتها الحبيبة ولا تقولى إن عاشقى يهوى الرحيل، فستجدينه فى الجزء الثالث يغسل عتباتك بدموع اللوعة والأسف، سوف يستمحيكِ عذرًا سيدتى لأنه أحبك وعاد من جديد، عاد ولم يجنِ من عودته إلا اللوم والندم، ومرة أخرى سيعتذر فى قصيدة لك عنْوَنَهَا ب"أقدم فيك هذا الشعر عذرًا" وليسألكِ أحقا صرت تنسين عاشقك؟! شاعرك؟! فمتى يلقاكِ فى شعره المكتوب من أجلك أيتها ال"عزة"؟! ها هو شاعرك يختتم معلقته الحديثة بحلم العودة، ويخبرك- بل يخبر كل العالم الذى سماه باسمك يا عزة القلب الموجوع- أن وطنه هواكِ ولو بعد افتراق الطريق فلن تكون له حرية أبدا سوى فى حبك أنتِ. عبر قصائد هذا الديوان نرى شاعرًا تقترب شخصيته وتجربته كثيرا من صفات المقامر الذى يلعب ليخسر، ويدمن الخسارة ويعشق الهزيمة، فهذا: "أول ديوان أكتبه/ هل علموا ما سُطِر فيه؟ حب وعذاب ودموع/ آهٍ لو كنت أغنيه/ قد تاه القلب وتوهنى" من قصيدة النرجسة العجوز وفى أخرى بعنوان "الحلم" يقول: الحلم يا عزّاه ضاع/ الحلم ضاع/ كما تضيع النسمة الزرقاء من حضن الطبيعة/ وكما تغيب الشمس أو يهوى الفؤاد إلى الطبيعة وكما يزور الموت قريتنا ليحرم شيخها أملًا" ويستمر شاعرنا فى بذل مشاعره غير مبالٍ برحيل تحقق، فأمام عَزَّتِه لا قيمة لكل العالم، فيقول فى قصيدة "الرحيل": "وداعا يا منى نفسي/ فإنى أسافر بين أيامي وبينى/ على عينى فراقك يا فؤادي؟ وإن حزت ُ الشجاعة .. لم تعنِّي" يهاجر ويهجر، يفارق ويرحل، ينتحب ويبكى بين صراع رؤى العقل الثاقبة الحكيمة ودقات القلب التى ترنو وتخفق بحب عزة المستحيل و..يعود مجددا فى قصيدة "وعدت من جديد": "يا عَزّ قلبي مرهون بمن فيه إن عاش .. عاش وإن لم يحيَ .. أبكيه" ثم فى مقطع آخر من القصيدة ذاتها: "لمَ عدت يا عزّ بالماضي وتذكرتِ إياه؟ إنى اكتفيت بغرة التيه/ يارب هذا طريقٌ ضل سالكه/ ماذا دهاني حتى صرت أمشيه" وفى "لوم.. وندم" يقول: " يا عَزتى ما عدت أدري من صدى دهري كلامه/ طفل أنا يبغي الحياة وفى الممات له استقامة" إنها نفس عقلية المغامر المقامر بكل شيء ليخسره بمتعة العشاق الماسوشية التى لا تعرف من الحب إلا فراقا ولا تعاين العشق إلا ألما ورحيلا، ربما تبدو لغة الديوان سهلة وبسيطة لكنها عميقة بعمق الألم وأوجاع الرحيل، رشيقة مثل غزالة الفكرة التى تلهو فى غابة الشعر مترامية الأطراف وعبر بحور العروض فيها، والتى تنوعت وتباينت عبر القصائد، تلك الغزالة التى ربما تعجبها رشاقتها فتتورط فى حماقة الرقص أمام وحوش الرحيل والفراق فينقضون عليها ويفترسون براءتها ويحيلونها لوجبة شهية بين ضروس العذاب والدموع والحزن والفراق، فنراها تهوى بين براثن الواقع المرير الذى فقد إنسانيته فى قصيدة "وطنى هواكِ" التى يقول فيها شاعرنا: "عزاه.. هل آسي على ما فاتنا؟ إذ كنت قبلك تائها حيرانا لا في هواك .. ولا هواي خطيئة بل عفة.. نزهو بها إيمانا/ لا فى هواك.. ولا هواي مذلة/ بل عِزة عشنا بها نجوانا/ استصبري الأكباد في آلامها/ فغدًا تزول ويستريح خيالي/ وتكون فى صدر السعادة مهجتى/ ويكون فى صدر السعادة الثناء مقالى/ عزاه.. قد ذهب العذاب لتوه .. ومضى لحيث سبيله .. فتعالى" وهكذا فنحن أمام تجربة قد تبدو مستهلكة الموضوع والمعنى، قديمة الشكل والمضمون، إلا أن كل ما جاء فيها صادق وإنسانى وعذب، شأنه فى ذلك شأن كل ما هو صِنْوُ الإنسان ورفيقه، وقد لا يحتاج الكثير من الجهد ولا يحتمل العديد من التأويلات شأنه فى هذا شأن كل ما هو مباشر وصريح.