الشعر أول الفنون وأعلي الأشكال الأدبية كعبا وأسماها قدرا وأبعدها في نفوس المتلقين أثرا. وهو يختلف عن النثر بمقومات فاصلة وأسس فارقة, وفصل ما بين الشعر والنثر قوالب الوزن وقيود القوافي. فإذا لم يكن للقول موسيقي وأوزان لم يعد شعرا بل نثر وإن كان( الإيقاع المقسم والقافية ليسا هما كل ما يميز طبيعة الشعر, فهناك ما هو أعمق هناك الروح الشعرية التي قد توجد أحيانا في بعض فنون النثر أيضا فتكاد تحيله شعرا. وقد ظهرت في الآونة الأخيرة موجة تتخذ الشعر روحا وإبداعا وابتكارا في التصوير وإبداعا في التعبير متنكبة سبيل الوزن والقافية, مسمية ما تكتبه قصيدا وشعرا رغم خلوه من المقومات التقليدية من نغم وقواف, لكنها رامت أن تعوض ذلك النقص في تصاوير وابتكارات فنية عالية الجودة. وبرغم تحفظنا الشديد نبدي كبير إعجاب بما يكتبه الشاعر/ أحمد مصطفي سعيد. فالشاعر الساهر الحالم القلق أحمد مصطفي سعيد شاعر حداثي يكتب الشعر, ويسبح في عالم الخيال ليقتنص صورا جديدة مبتكرة مبدعة, لا يرضي أن يكون إنتاجه مبتسرا وإنما يظل يدأب في تكوين الصور وتلوينها, وجمع خيوط أنسجتها من شتي الفضاءات حتي تتجمع له قطعة مخملية رائعة الحبك, ثرية بالمعاني والتصويرات التي تدهش وتحير المتلقي, وهو في استعاراته وتشبيهاته لا يأتي بأشياء تقليدية لكنه يعمل العقل في الخلق والابتكار علي حد تعبير( جورج ليكوف):( الاستعارة ليست مجرد مسألة لغة, وإنما مسألة فكر وعقل) ولابد أن هذا الشاعر قد عرك الحياة وجربها وقاسي من مرارة الحرمان وذاق عذبها وعذابها, ذلك أن الشعر ليس كما يظن البعض مجرد مشاعر, فالمشاعر تأتي وحدها في سن مبكرة وإنما الأشعار تجارب قبل كل شئ, وكما يقول( رينيه ماريا ريلك) لكي نكتب بيتا واحدا من الشعر الجيد يجب أن نكون قد شاهدنا عدة مدن وأشخاص وأشياء يجب أن نعرف كيف تطير العصافير, وكيف تتفتح وتتحرك براعم الزهور صباحا, يجب أن نؤتي القدرة علي استيعاب التفكير في دروب كائنة في مناطق مجهولة, أن نلتفت إلي الوراء نحو أيام الطفولة. وأن نجتر لقاءات وتجولات شديدة العمق والخطورة. وقد استرعي انتباهنا واستوقفنا من ديوانه( نقضت غزلها) الصور التي رسمها للقلب في قصائد هذا الديوان, فالقلب يشكل وحدة شعرية ذات أهمية بالغة لدي ذلك الشاعر, فهو يوليه حاسته الفنية في عدد غير قليل من قصائد ديوانه. ولا شك أن القلب هو الينبوع الثري الذي يقف خلف كل شاعر, يمده بالمشاعر والأحاسيس, فيخطها الشاعر بالبنان أو يلقيها باللسان في بيان وصور محكومة العقل, فالشاعر قلب أولا, وعقل ثانيا, ثم قلم ولسان ثالثا. تقف أمام قصيدة( وجد وكبرياء) فتري القلب إنسانا ذا عاطفة جياشة, ينتحب انتحابا, وتنهمر منه دموع غزيرة كثيرة, فيناديه الشاعر في كبرياء ومضاء( جفف دموعك ياقلبي ولا تنتحب, احتسب وجدا في حشانا بعد لم يكتمل). ويبين لنا سبب بكاء ذلك القلب, وعلة انتحابه وتماديه في نشيج لاينقطع( احتمل جرح الفراق الجرح غدا سيندمل) فالقلب إذن جرح جرحا عميقا بسبب فراق وبعاد وهجران. وهو يجعل من هذا الفؤاد شخصا متوترا قلقا فيناديه بهذه الآهة التياهة( آه ياقلبي الوديع لا تخش الحنين, لاتدمع سأجمع من ليالي الأمس نجوي تقاسمناها). وفي ختام هذه القصيدة النثرية يناديه أن يكفكف هذه الدموع المغزارة, وأن يطوي صفحة الحزن جانبا, وأن يكتحل بالتسلي عن هذا الذي فارقه بعد أن وعده بأنه سوف يزيل كل أثر له من حياته( سأسوي بذيل ثيابي أحلاما علي الشطآن رسمناها جفف دموعك ياقلبي واكتحل). وإن كانت هذه الصورة للقلب تذكرنا بالمتنبي حينما ناجي فؤاده قائلا: حببتك قلبي قبل حبك من ناي وقد كان غدارا فكن أنت وافيا واعلم أن البين يشكيك بعده فلست فؤادي إن رأيتك شاكيا فإن دموع العين غدر بربها إذا كن إثر الغادرين جواريا أقل اشتياقا أيها القلب إنني رأيتك تجزي الود من ليس جازيا وفي قصيدة( الموت حياة) التي يقول في إهدائها:( إلي روح أبي من علمني كيف أسخر في وجه الحياة) نجد في ختام هذه القصيدة الدفء الذي يغمر القلب ويغطي الفؤاد ويشمله في كلام نلمح فيه روح التعزية وظلال التسلي عن الأحزان حين يقول:( صبرا وتذكر تغيب شمس الأحبة ولكن دفأها في القلوب باق) إن شموس الأحباب تظل آثارها في الأفئدة لا تغيب إذا غاب الأحباب عن هذا الوجود الرحيب. وفي قصيدة( لاتسفك دم الهوي) نلمح صورة مبتكرة للقلب لم تعهد من قبل, صورة متهم بريء حكم عليه صاحبه بالإعدام شنقا حين أحب وأخطأ في عشقه لمن لا تستحق العشق, ولمن لا تستأهل المودة ولمن هي غير جديرة بالمحبة والغرام وقد جرد الشاعر من نفسه شخصا آخر جعله قاضيا يحكم علي هذا القلب بذلك الحكم القاسي( استرح لا تعلق بقلبك البريء المشنقة, ما أخطأ في عشقه بل من خانتك هي المخطئة). قلب وضع علي خشبة الموت وأعدت له المشانق كي يعدم حين أخطأ في الحب, والشاعر يدافع دفاع المحامي الذي يمتلك الدليل علي براءة هذا القلب العليل الغفل البريء, فهناك الكثير والكثير من القلوب التي علقت وشنقت وقتلت ظلما وحيفا وعدوانا بسبب أهداب عيون خداعة من غادرة خانت الود وهان عليها الحب. (لو شاهدت وكرها قدها واوقفك الهدبان لأبصرت أفئدة محنطة معلقة) أما في قصيدة( شات) فتري ذكرا للفؤاد وحسب دون تصوير( فأنت قريب من فؤادي حين دعوتك). وفي قصيدة( للوجد شهادة ميلاد) تري القلب دارا للحب ومنزلا للعشق أغلق الشاعر بابه, وأوصد مدخله حتي لا يدخل منه أحد قبل هذه الحبيبة التي جاءته علي حين غفلة من الزمان( وأغلقت باب قلبي كارها). بل ويجعل من هذا الفؤاد خصيما لا يحتمله, ولا يسعه معه إلا البعاد والشقاق( وعشنا أنا والفؤاد في شقاق). وفي لحظة حاسمة من زمان العشق ترسم هذه المعشوقة برمشها, وتخط بهدب عينيها شهادة ميلاد جديدة علي جدران هذا المنزل القلب بعد أن فتحته ودخلت فيه شهادة ميلاد للوجد والحب والعشق, لتزيل الخصام القائم بين الشاعر والفؤاد( وبرمشها خطت للوجد بحياء علي جدران قلبي شهادة ميلاد المداد دمي والاسم عاشق والمعشوقة جلاء) وتدفق الدم من القلب إلي الجسد يحمل معه هذا الحب الجديد. وفي قصيدة( الجنة الجرداء) تبصر القلب إنسانا في عنفوان الصبا وفتوة الشباب يقلي ويكره ويخاصم( أيها الكهل التقي أقلاني قلبك الصبي) في حين أن صاحبه قد اكتهل وكان يشيخ وهي صورة مخالفة لصورة قلب العقاد حين قال: وما انتفاعي وقد شاب الفؤاد سدي إن لم تشب أبدا كفي ولا قدمي. ومغايرة لصورة قلب إبراهيم ناجي في قوله: أريك مشيب الفؤاد الشهيد والشيب ما كلل المفرقا وفي قصيدة( دعيني أرحل) تشاهد القلب متحفا ساحرا بمقتنياته التي ادخرها فيه صاحبه تجلي أمام العيون فينبهر الناظرون بما يرون من قوارير للعشق رقيقة صيغت من صلصال الغرام لكنها تهشمت من صفعة غدر لفاتنة لعوب منته ثم حطمت أغلي ما في هذا المتحف بدلا من أن ترعي رقته وشفافية رؤاه( هشمت صفعة غدرك قوارير العشق في فؤادي). وفي قصيدة( إلي قديسة الهوي) يتجلي الفؤاد حمي له أسوارا منيعة, قصرا منيفا, خزائن أسرار لدي فتاة تأمل ألا يقتحم أحد أسوار هذا الفؤاد( أيها اللص الشريف لا تقترب من أسوار فؤادي, قصري المنيف وتفتح خزائن البوح عنوة فما زال فؤادي في الهوي عفيفا. ثم يظهر هذا الحمي المنيع برغم كل هذه الأسوار ضعيفا شفيفا لطيفا, لأنه لم يذق طعم الحب ولم تشرق عليه شمس الوجد حتي كاد يصير فؤادا كفيفا أعمي لا يبصر ولا يري( أتق الله ولا تشهر سيف اللحظ الرهيف في وجه فتاة قلبها شفيف ضعيف لم يبصر من المهد شمس الوجد كاد قلبها يمسي كفيفا). وتلك صورة بديعة إذ جعل القلب علي وشك الاصابة بالعمي كأنها مقتبسة من قوله تعالي فإنها لا تعمي الأبصار ولكن تعمي القلوب التي في الصدور. وهو يبز قلبه في صورة لص تائب من سرقة القلوب وما في خزائنها من حب وعشق وغرام يعلن ذلك أمام تلك المحبوبة وأن من شواهد توبته أنه شق ذلك القلب وأحرق بنار حبها كل أدوات السلب والنهب التي أعدها من قبل لاختلاب قلوب الحسناوات( حاشا لله مولاتي قلبي تاب وهذه دموعي أقضت مضاجع الأعتاب مذ شق قلبه من خلف الباب الرفيف مد يد الصفح فقد أحرق هواك في فؤادي الخطاف والقفاز والاقنعة سرح جياد تقلباتي وعن قصرك المنيف يا(...........) لن أرحل أيها القديس سأصفح عدني أن تكون ضيفا ويرحل طيفا ويأفل, كيف واللص صار قديسا علي يديك مولاتي لاتبالي بعيون البشر إفك الحساد). وفي قصيدة( بنلوب نقضت غزلها) نجد قلبا مفعما بالاشتهاء للقاء المحبوب مترعا بالصبابة لكنه يتزلزل ويتصدع من رجة عنيفة شديدة أحدثها ذلك الترحال والهجران والسفر والبعاد فيصير حطاما من الرجفة رجفة هذا الزلزال الرهيب العنيف البعاد والهجران( ارحل لا شئ لدي القلب الذي اشتهاك زلزله الترحال). وفي ختام هذه الرحلة القصيرة الممتعة التي قطعناها مع هذا الديوان ندرك بعمق أن الأدب الجيد وليد أحاسيس جياشة ومشاعر قوية, وتأمل وفكر ومعاناة, وابتكار وإبداع. محمد حامد عبدالباسط مصطفي شاعر وناقد