في كتابه «شعر النثر العربي في القرن العشرين» والصادر مؤخرًا عن دار أرابيسك بمناسبة انعقاد الملتقي الثاني لقصيدة النثر منذ أشهر يقول الشاعر والناقد المتميز شريف رزق في مقدمته: إن القرن العشرين هو قرن الأنواع الأدبية العربية بامتياز.. فيه تأسست القصة القصيرة والرواية والمسرحية النثرية والشعرية والشعر المرسل وشعر التفعيلة.. وفيه أيضا تأسس شعر النثر وقد أثار هذا النوع الشعري الأخير ولا يزال جدالا واسعا لاصطدامه بقناعات ظلت محل إجماع غير أنه في النهاية حسم معركته وتأسس شكلا شعريا وحرا برزت شعريته الجديدة وشرعت تكتسب مساحات واسعة في المشهد الشعري بحيث نستطيع أن نلحظ تسرب شعرية قصيدة النثر حاليا إلي نصوص عديدة من السرد القصصي. كما يضيف رزق أن هذا الشكل الشعري الأحدث هو الأكثر حضورا في مشهد الشعرية العربية الراهن وهو حلقة من حلقات عديدة شرعت في تأسيس شعر النثر العربي علي مدار القرن الماضي.. وهذه الحلقات هي: حلقة الشعر المنثور وبدأت مع بدايات القرن الماضي واستمرت حتي أربعينياته.. وحلقة شعراء السيريالية المصريين وبدأت في أواخر الثلاثينيات وامتدت حتي الأربعينيات، أما حلقة شعراء مجلة شعر اللبنانية فقد ظهرت في أواخر الخمسينيات وامتدت إلي الستينيات ومنذ بداية التسعينيات بدأت مرحلة جديدة ساهم فيها بالإضافة إلي شعراء السبعينيات شعراء الثمانينيات والتسعينيات. الإصحاحات الشعرية ثم يضم الكتاب إضافة إلي المقدمة أربعة أبواب أخري يبدأ أولها والذي عنونه رزق ب «النثر الشعري.. بداية التدفق الباطني الحر لمصهور الشعر والنثر» بما قاله بودلير: من منا لم يحلم يوما بمعجزة النثر الشعري، نثر يكون موسيقيا بلا وزن ولا قافية، طبعا غير متصلب لكي يتوافق مع الحركات الغنائية للروح، ومع تموج الأحلام ورجفات الوعي. بعد هذا يتعرض رزق للمفهوم النظري للنثر الشعري قائلا: إن النثر الشعري مصطلح فرنسي يقصد به نوع من النثر قريب الشبه بالشعر ولا سيما الإصحاحات الشعرية في الكتاب المقدس. وهو شكل إبداعي حر وانسيابي يجمع بين تدفق النثر وخيالات الشعر وحالاته المحلقة وتصاويره ورؤاه وإيحاءاته.. وليس للنثر الشعري شكل بنائي لذلك هو روائي أو وصفي يتجه غالبا إلي التأمل أو المناجاة الغنائية أو السرد الانفعالي ويمتلئ بالاستطرادات والتفاصيل وتتفسح فيه وحدات التناغم والانسجام. ملامح النثر الشعري أما شعرية النثر الشعري فقد تأسست علي عدة مرتكزات تحددت بها ملامحه وأهمها التدفقات الوجدانية المجنحة وهيمنة الصوت الباطن المضمخ بأمواج الروح والمناجيات الغنائية المسترسلة والصور الكلية وشاعرية الرؤي والترميز ورهافة الحالة الوجدانية والتكرارات والشكل المقطعي والتناظر بين المقاطع والتوازيات والتكثيف والنزعة الصوفية. ويمهد رزق في الباب الثاني «الشعر المنثور.. تفعيل التأسيس للشعر خارج الوزن» فيقول: إنه من العسير علي الكثيرين أن يتصوروا الشعر حاليا متجردا من ثوابته الأساسية التاريخية ويظل شعرا. أما الانطلاقة الهادرة لشعر النثر فتتحدد في ثلاث مراحل ترتبط بحركة الشعر العالمي وتشكل تجليات ثلاثة للمشروع الأساسي الأكبر وهو «الشعر نثرا». أولي هذه المراحل تمتد من بدايات القرن الماضي وحتي أربعينياته وسيطر عليها النزوع الرومانسي بتدفقه البسيط.. وبدأت المرحلة الثانية من أواخر الثلاثينيات إلي أواخر الأربعينيات وسيطر عليها النزوع الحداثي الطليعي في تجليه السريالي علي وجه الخصوص. أما ثالثة هذه المراحل فبدأت من الستينيات ولا تزال قائمة ويسيطر عليها مختلف التوجهات الحداثية المهيمنة علي الشعر العالمي. محاكاة الشعر الأفرنجي ويستطرد رزق قائلا: إن عددا من نقادنا دأبوا علي الخلط بين الشعر المنثور والنثر الشعري فوضعوا مطران والريحاني وجبران ومي وحسين عفيف وهم من شعراء الشعر المنثور جنبا إلي جنب مع المنفلوطي والرافعي والزيات وهم من كتاب النثر الشعري. لكن أنيس الخوري المقدسي ميز بين هذين الفنين إذ رأي أن النثر الشعري هو أسلوب من أساليب النثر تغلب فيه الروح الشعرية من قوة العاطفة وبعد في الخيال وإيقاع في التركيب وتوفر علي المجاز.. أما الشعر المنثور فهو غير هذا النثر الخيالي وإنما هو محاولة جديدة قام بها البعض محاكاة للشعر الأفرنجي. تجارب ويفتتح رزق الباب الثالث «الانبعاثات الأولي لقصيدة النثر في مشهد الشعر العربي» بمقولة جورج حنين: لقد كافح القارئ هذه الأشكال الشعرية الجديدة التي تفقده صوابه، ولكنها تغلبت أخيرا فاستمع لها وانقاد إلي ما فيها من صدي تمثيله النفسي المستور. ثم يورد رزق عدة نماذج من تجارب مختلفة كتجربة جورج حنين وأحمد رشدي وكامل زهيري ويختتم هذا الباب بقوله إن هذه التجارب الشعرية شكلت جزرا مستقلة في خريطة الشعرية العربية واستطاعت أن تحافظ علي سمتها الخاص وأن تتحصن ضد التماهي في آليات الشعرية العربية التليدة. فوضي المصطلحات في الباب الرابع والأخير «المفاهيم النظرية للأنواع الشعرية في شعر النثر» يورد مقولة مالارمية: مسعيان اثنان يخصان عصرنا وعزيزان عليه: الشعر الحر وقصيدة النثر. ثم يقول رزق إن قضية المصطلح من أكثر المشكلات التي تواجه المتابع لحركة الشعر خارج الوزن، حيث تتنوع التجليات والاتجاهات الشعرية في هذا المشهد في الوقت الذي تحيط فوضي المصطلحات المختلفة التي لا تدل علي الوعي بتعدد تجليات هذا المشهد بقدر ما تدل علي قلق الوعي بطبيعة ما يمور به المشهد الشعري الجديد وعلي تشتت الرؤي وعلي عدم فهم طبيعة ما يحدث داخل هذا المشهد من حراك وأدي هذا إلي خلط أجناس. أما مصطلح قصيدة النثر فيشير إلي القصيدة النثرية غير المقطعة، قصيدة الإيقاع المتدفق الموصول في خطاب يتدفق غامرا مساحات البياض، غير أن الدكتور عبدالقادر القط رحمه الله رأي أن التسمية تحمل خطرا كبيرا لأنها تتيح لكل من تعتمل في نفسه بعض الخواطر الوجدانية أو بعض التأمل في النفس والحياة والمجتمع أن يصوغها في كتابات لا تبلغ الشعر ذا المستوي الرفيع ولا النثر الفني ذي الطابع الشعري. كما أن هناك من تجاوز رفض شعرية قصيدة النثر إلي اتهام شعرائها والطعن فيهم ومن هؤلاء نازك الملائكة التي رأت فيها خطرا علي الأدب العربي وعلي اللغة العربية وعلي الأمة العربية بل وخيانة للغة العربية وللعرب، لكن رزق يري أن هذه الآراء تنطلق من مفهوم الشعر القديم المتوارث لا من مفهوم الشعر الذي تطرحه قصيدة النثر أو من مجالها الشعري المختلف. متي؟ وهكذا سيظل حسبما أري هذا الجدال بشقيه ال «مع» وال «ضد» دائرًا حول قصيدة النثر بما أنها هي آخر عنقود سلالة الشعر العربي إلي أن يولد جنس أدبي جديد يتجه إليه انشغال النقاد والمبدعين بالدفاع عنه أو بالحرب ضده ووقتها تجد قصيدة النثر الوقت المناسب لكي تنام قريرة العين في سلام!