استكمالا لحملتنا التي بدأنا فيها حول زراعة المناطق الحدودية وتنميتها وما تم رصده طوال حلقاتنا الماضية من فساد وإهدار جسيم في أساليب التعامل ونوعية المشروعات والمستثمرين الذين وجهوا لتلك البقع ذات البعد الأمني والاستراتيجي نستأنف اليوم الحديث عن بقعة جديدة ربما لم تحظ بشهرة واسعة؛ كتوشكي وشرق العوينات والساحل الشمالي.. بينما هي في الحقيقة تمثل انطلاقة لمشروع جاد كان يعتبر ببساطة حلم النوبيين بعد التهجير وهو "وادي كركر"، حتي أن أهميته الاستراتيجية والاجتماعية تفوق ما شرع النظام السابق في تنفيذه مثل توشكي.. كما أوضح لنا د. إبراهيم سليمان أستاذ الاقتصاد الزراعي وعضو المجالس القومية المتخصصة ومستشار أكاديمية ناصر العسكرية العليا، والذي قام بفتح هذا الملف معنا مؤكدا أن وادي كركر يعكس بشكل قاطع كيف أن حكومات مبارك المتعاقبة لم تكن جادة في تعمير منطقة النوبة ليس فقط في هذا الوادي بل في كل المنطقة؛ ولهذا فقد تم وأد العديد من مشروعات التنمية حول بحيرة السد، كما انه يعكس كيف أن الإهدار كان سمة التعامل في المشروعات التنموية جميعها، بما يجعل القضية الاكبر لهذا النظام ليست قتل المتظاهرين العزّل وإنما القتل البطيء لجيل بأكمله تم إهدار ثرواته وإهمال تنميتها وتحميله تبعات تضاعف تكاليف الإصلاح مئات الأضعاف عما كان ممكنا إذا تمت في حينه. واوضح ان وادي كركر إذا تم زيارته ورؤية المنازل المعدة لاستقبال المهجرين من أبناء مصر به فسنجد مباني مبهرة التشطيب بها صرف صحي وطرق جيدة؛ المنازل تتكون من 3 غرف و"حمّام" ومطبخ وفناء صغير التشطيب الخاص ب"الحمام" والمطبخ جيد، ولكن هناك فروقا واضحة من حيث التشطيب والمساحة بين المنازل التي شيدتها القوات المسلحة وتلك التي شيدتها بعض شركات المقاولات، وهو يقع في الضفة الغربية لبحيرة السد العالي علي بعد 20 كيلومترا من شاطئ البحيرة، وقد تم إنشاء طريق لربط منطقة المشروع بمطار أسوان طوله 9 كيلومترات ويصل حتي وسط مدينة أسوان، ومن ثم يربط المنطقة من أسوان بباقي مناطق مصر؛ مشيرا الي ان أغلب النوبيين رفضوا التسلّم، وبقيت كتلا خرسانية شاهدة علي رأس مال وطني مهدر؛ فقد اعتبروه منفي آخر لهم.. فلا توجد أراض زراعية أو أي مظاهر للتنمية في المنطقة؛ فالبيوت عبارة عن "شاليهات" في قلب الصحراء، والقليل منها الذي قبِل تسلّم منزله اعتبره بمثابة عصفور في اليد أفضل من عشرة علي الشجرة، وهو أفضل بعد 50 عاما من الاغتراب منذ التهجير، فحتي الآن ليس بالمكان فرصة للعمل أو الزراعة أو حتي الصيد، فمصيرهم يماثل مصير من هجروهم إلي منطقه كوم أمبو حيث لا تنمية ولا أرضا صالحة للزراعة، إنه بمثابة شتات آخر في قلب الصحراء ليس فيه أي مصدر للرزق فهل زار المسئولون وأعضاء المحليات في عهد مبارك وادي كركر، أم توقف زحفهم عند "بفيرلي هيلز" واكتفوا بالرد: "احمدوا الله، فالمنطقة بها مستشفي ومدرسة وناد وطرق ومبان؟! ونسوا أن مفهوم الوطن كما عرفه الله تعالي حتي يؤمنوا به أنه سبحان وتعالي "أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف".. فأين مصادر الرزق التي تحقق ذلك حتي يتأصل الانتماء بين أهالي الجنوب. رؤية مضللة وأضاف سليمان أن حاشية مبارك من أهل الثقة كانت لديه جاهزة الرد؛ حيث ادعوا أن تصور المشروع كان في الأصل خطأ؛ باعتبار أن المنطقة تبعد عن النيل حوالي 20 كيلومترا والأرض التي تحيط بالمنطقة أغلبها قشور صخرية لا تصلح للزراعة؛ لهذا أصبح المشروع حاليا آبارا قديمة مهجورة، والتي حفرت منذ 30 عاما ثم أهملت.. واستمروا في الترويج لهذه الرؤية المضللة بأن المنطقة غير واسعة لاستيعاب القري الثلاث التي أنشئت به مع وجود وحدة عسكرية بجوارها لحماية السد العالي فاتخذتها الإدارات المحلية لنظام مبارك ذريعة لعدم تنفيذ المشروع الإنمائي بالمنطقة باعتبار أن وجود وحدات عسكرية يتطلب تصريحا من وزارة الدفاع، ومن الأهمية بمكان زراعة الأشجار الخشبية حول حدود الحقول وحواف الترع لصد الرياح ولتثبيت التربة وهي مصدر للأخشاب أيضا، والتنمية المتكاملة تضمنت أنشطة تسويقية إضافية ترفع القيمة المضافة وتزيد فرص العمل من حيث التدريج والفرز للخضر والفاكهة والتصنيع الغذائي والتعليب والتعبئة والتخزين، كما أن نشاط الإنتاج الحيواني يعتبر نشاطا تكامليا أيضا ويتكامل معه التصنيع الغذائي للحم واللبن المنتج، كما أن السماد العضوي سوف يتكامل مع الإنتاج النباتي من حيث تحسين خواص التربة والتغذية علي الأعلاف الخضراء من البقول التي تدخل في دورة زراعية مع تركيب المحاصيل المقترح فتزيد المحتوي الآزوتي للتربة وتثبت غطاءها، ونشاط الصيد النيلي هو أيضا أحد الأنشطة التي اقترحها المشروع عن استقرار المجتمع السكاني النوبي في المنطقة، وهو يمكن علي الأقل في الترعة الرئيسية التي تغذي المشروع من بحيرة السد العالي، ناهيك عن مشروعات السياحة الممكن إقامتها في المنطقة نفسها مستقبلا. واشار الي ان الدراسة اوضحت أن هناك مصدرين للري: مياه النيل والمياه الجوفية، وتعتبر مياه النيل المصدر الرئيسي للري في المشروع عبر أنابيب من بحيرة السد العالي لمسافة 20 كيلومترا حتي بداية الأرض الزراعية بمعدل تدفق حوالي 10 أمتار في الثانية وتصب في حوض مفتوح علي مستوي 190 مترا، وتتطلب محطة ضخ رئيسية ومحطات فرعية، ومصادر الطاقة من كهرباء السد العالي ضمن شبكة كهرباء أسوان، واختيرت نظم الري بين ري تنقيط أو بالرش سواء كان رشا ثابتا أو متحركا وفق اتجاهات الرياح وقوتها وطبيعة التربة ونوع المحصول، فالري بالرش المحوري المركزي يطبق علي المناطق المزروعة بالخضر والأعلاف الخضراء ومحاصيل البذور الزيتية والحبوب الصيفية في مساحة 16 ألف فدان، بينما في الأرض المخصصة لزراعات أشجار الفاكهة (800 ألف فدان) تقسم لمنطقتين: الأولي (4 آلاف فدان) تروي بنظام الري بالرش الثابت، بينما الري بالتنقيط في نصف مساحة الفاكهة الأخري أي 4 آلاف فدان، وجملة الاحتياجات المائية السنوية لمشروع حوالي 166 مليون متر مكعب من المياه، وكان المأمول أن يواكب تنفيذ المشروع الانتهاء من المرحلة الأولي لمشروع قناة جونجلي في جنوب السودان عام 1982، والتي كان متوقعا أن يكون نصيب مصر فيها 1.7 مليار متر مكعب، وباندلاع الصراع في السودان بين الشمال والجنوب توقف المشروع، ويبدو أنه كان حجة لتوقف تنفيذه، ولكن من الممكن تنفيذ نصف المساحة أي 12 ألف فدان فقط؛ مما يوفر نصف كمية المياه المطلوبة، وإن كانت الاحتياجات الكلية غير كبيرة، ولأهمية الاستراتيجية والاجتماعية لمشروع تفوق ما شرع النظام السابق في تنفيذه كمشروع توشكي رغم علمه بأنه يعتمد إما علي المياه المتجمعة في مفيض توشكي عند زيادة منسوب فيضان النيل علي المعتاد وهو أمر غير متكرر كثيرا أو بتغير نظام الري في مصر لنظم حديثة وهو أمر ليس بالهين لما يحتاج إليه من استثمارات باهظة، أما المياه الجوفية فقد تم اختبار خصائصها وجدواها الفنية من خلال 5 آبار استطلاعية وتبين أن المياه علي عمق يتراوح ما بين 50 مترا من السطح في الجهة الشرقية يزيد تدريجيا ليبلغ 120 مترا في اتجاه الغرب، ولكنها ليست المصدر الرئيسي وإنما قد تكون مصدرا مكملا لمياه النيل.