ما إن تمر أيام من العام الجديد حتي ينفجر في القلب إحساس - هاديء أو صارخ - بالرغبة في إعادة ترتيب أوراق العمر. وقد يندهش الإنسان - أحيانا - من قدرته غير المحدودة علي الغفران لنفسه بينما لا يكف عن محاكمة الآخرين وإدانتهم، وقد يندهش الإنسان أيضا في أحيان أخري من قدرته علي لوم نفسه، وتبرئة كل الآخرين.. وكل من الموقفين له ضلالاته وخطاياه. ولم أجد أروع من قول فيلسوف الباليه المعاصر موريس بيجار عندما نتذكر تاريخ حياتنا، فنحن نعيش حلم يقظة جديدا نتخيل الماضي فنضخم آلامه إن كانت لحظة التذكر تعسة، ونتخيل نفس الماضي وكأنه قصر من حنان مفقود إن كانت لحظة التذكر تملك جمالها الخاص، وإذا عرفنا أن موريس بيجار هو الفرنسي الذي استوطن سويسرا، ثم خاض في رحلة التصوف كي يصل بين ذي النون المصري هذا المتصوف المصري العميق الحكمة، يمكننا أن نري في كلمته تلك إيجازا لكيفية رؤيتنا لما وراءنا من تاريخ. ولكن بيجار لم يقل كيف يمكن أن نعيد ترتيب أوراق المستقبل علي أساس أن لكل منا نبوءة ذاتية عن مستقبله، وعلي الإنسان أن يتبع البوصلة التي تشير من قلبه إلي اتجاهات عمره القادم، بشرط بسيط للغاية وهو أن يتقن كل ما يفعل، وحين نبدع في اتقان ما في أيدينا، سنفاجأ بأن هناك أملا جديدا يطل علينا من أعماقنا. فكرت في النبوءة الذاتية لكل إنسان يحيا في غزة تحت القصف العشوائي، ويقابل خشونة الحديد المسنون الذي يقال إن اسرائيل تخبئه لأهل حماس، ورغم عميق اختلافي مع حماس، ورغم رفضي القاطع للخروج من دائرة الاتفاق السياسي الذي افتعلته قيادة حماس، إلا أني مازلت أطمع في أن تنتبه الولاياتالمتحدة إلي ضرورة خروج مروان البرغوثي من محبسه كي يرشح نفسه رئيسا قادما لفلسطين، فهو الوحيد الذي يمكن أن تجمع عليه الناس في كل من غزة والضفة، فهو لم يتلوث بأي علاقة مع العدو، فضلا عن ترفعه عن المكاسب الصغيرة التي حصل عليها البعض من علاقته بإيران أو علاقته بالأمريكيين، وأكاد أجزم أن التطرف صار طريقا يتسع لسكان الشرق الأوسط، وأكاد أجزم أن الإرهاب بالمفهوم الأمريكي يكسب أنصارا وأتباعا في الخريطة العربية نتيجة حالة الترهل الوجداني التي ينظر بها الأمريكيون إلي الفلسطينيين المقتولين وكأنهم ضحايا حوادث المرور، وليسوا مقتولين بإصرار وترصد من قبل أبناء الدلوعة إسرائيل. إعادة ترتيب أوراق عمر الفرد في منطقة الشرق الأوسط ستمتلئ بمزيد من الكراهية للولايات المتحدة، لأن البشر في هذه البقعة من العالم ينظرون إلي إسرائيل بعيون من يميزون جيدا أنه لا صداقة فعلية مع أمريكا دون أن تشذب الولاياتالمتحدة من أنياب إسرائيل. وإعادة ترتيب أوراق العمر بالنسبة للإسرائيليين تفرض عليهم رؤية أن بلادهم المدججة بالسلاح تعيش الآن الانحسار عن الأحلام القديمة فهم يعيشون في عصر ضعف القوة الشديد، وأي ملاحظ يمكنه أن يري ذلك في عيون أقطاب إسرائيل جميعا.