كلما قرأت مآسي البشر التي تتناولها في بريد السبت انهمرت من عيني الدموع وابتهلت الي الله ان يخفف أزمات المكروبين, ومع أنني أعاني الكثير من المتاعب في حياتي فقد كنت دائما أؤجل الكتابة اليك حتي فاض بي الكيل وتقطعت بي السبل فوجدتني أمسك بالقلم وأكتب اليك بقصتي. فلن يقدر ما أعانيه سواك لأنك الأقرب الي معاناة آلاف المقهورين أمثالي بعد أن بحت للكثيرين بمأساتي فلم يستوعبوا ان هناك بشرا مثل زوجتي, لاهم أحياء ولا هم أموات. فهي ياسيدي هيلين كيلر بنسختها المصرية.. تلك السيدة التي ابتلاها الله بالصم والبكم وكف البصر فكانت اعجوبة زمانها, وأدرجت قصتها في مناهج التربية والتعليم, ودرسناها ونحن أطفال, فأبكتنا كثيرا بقصتها المؤلمة وأدهشتنا بعزيمتها التي لا تلين. أما زوجتي فلم يندهش لأمرها أحد, ولم يتعاطف معها مسئول حتي انها لم تتلق أي علاج علي نفقة الدولة, ودعني أروي لك قصتها منذ البداية, فلقد ولدت صماء بكماء, ومع ذلك أكملت تعليمها حتي حصلت علي شهادة تأهيل المعاقين في مهنة التفصيل, وقد لاحظتها كثيرا, ولم أجد فرقا بينها وبين أي فتاة عادية, فجذبتني اليها برقتها وعذوبتها ووجدتني اسير حبها, فقررت أن أرتبط بها وعشت أياما وليالي أبحث الأمر مع نفسي, واستجمعت قواي وفاتحت أسرتي في الزواج منها فثاروا جميعا ضدي واتهموني بالجنون, إذ ما الذي يدفع شابا عاديا مثل كل الشباب الي ان يرتبط بفتاة لا تسمع ولا تتكلم ولا تعرف غير لغة الإشارة, ودخلت في صراعات عديدة معهم, لكنني انتصرت لحبي في النهاية وتزوجتها برغم أنف الجميع, وقلت لهم انني حر في اختياري, ولن أرتبط الا بمن ارتضاها قلبي زوجة لي, وتقدمت اليها فوافق اهلها بعد أن شرحوا لي ظروفها, وانتقلنا الي عش الزوجية, ولم أندم علي اختياري بل زاد حبي لها وتعلقي بها, ورزقني الله منها بثلاثة أبناء.. وأحسست انني ملكت الدنيا بأسرها, فزوجتي جميلة بل وأراها أجمل نساء الأرض, وترعي أبناءها وبيتها خير رعاية, ولا ينقصني معها أي شيء ويكفيني انها تشعر بما أريد وقبل أن أشير عليها به, وكانت نظرات العيون وحدها أبلغ تعبير عن كل ما نريده. ولكن ياسيدي حتي هذه النظرات حرمت منها زوجتي, ودخلت مرحلة جديدة من حياتها هي الأقسي علي الاطلاق, إذ بدأت تعاني بعض المتاعب في نظرها وشيئا فشيئا أصبحت كفيفة, فانفصلت تماما عن كل ما حولها. ولك أن تتخيل حياتها وهي لا تسمع ولا تتكلم ولا تري شيئا في الدنيا, وتزامنت هذه المفاجأة القاسية في حياتنا مع خروجي من الشركة التي كنت أعمل بها بعد خصخصتها, إذ انني وزملائي لم نعجب صاحبها الجديد, فاستغني عنا جميعا, ولم أجد حلا لي سوي المعاش المبكر. ولكن كيف نعيش ومبلغ المعاش الضئيل يذهب بكامله الي أطباء العيون أملا في علاج زوجتي؟ إنني مهما وصفت لك حالنا فلن أستطيع أن أشرح ما نعانيه, فزوجتي تتعامل الآن باللمس والشم, تماما كما كانت تفعل هيلين كيلر, لكني لم أعد أفهم ما تريده.. أما هي فلا تغادر مكانها, ولا تجد من يأخذ بيدها في هذا العالم الذي انعدمت فيه اللمسات الانسانية لدي المسئولين, فالمسئولون في وزارة الصحة تعاملوا معي ببرود شديد ولا مبالاة ورفضوا اجراء أي جراحات لها علي نفقة الدولة مع انني لو راسلت أي جهة اجنبية لاهتمت بحالة زوجتي الفريدة التي أعتقد انه لايوجد لها مثيل في العالم الآن.. واخيرا أقول لك لنا الله الذي لايحمد علي مكروه سواه ولن أيأس أبدا, فأملي كبير في أن يزيح سبحانه وتعالي عن زوجتي ما ألم بها من مصاعب وآلام. * إن العمي ليس بشيء, وإن الصمم ليس بشيء, فكلنا في حقيقة الأمر عمي وصم عن الجلائل الخالدة في هذا الكون العظيم.. هذه الكلمات الرائعة قالتها هيلين كيلر للأصحاء الذين يتمتعون بكل الحواس لكنهم يفقدون التواصل والاحساس بالآخرين, فبرغم الظروف الصعبة التي عاشتها والتي جعلتهاحالة فريدة في عالم المعاقين فإنها حفرت لنفسها مكانا مميزا في المجتمع تفوقت به علي كثيرين ممن يملكون كل حواسهم, لكنهم لايستطيعون تحقيق أي شيء في حياتهم. وأعتقد أن زوجتك بكل ما واجهته من متاعب وصعاب قادرة علي تحقيق المستحيل بالتأقلم مع ظروفها الجديدة, وتوفير سبل السعادة في نفسها, فالسعادة لا ترتبط بالحواس كالبصر والسمع والكلام, بقدر ارتباطها بما يدور داخل الانسان.. في قلبه وعقله.. ومن يستطيع ان يفعل ذلك قادر علي تجديد حياته باستمرار. فهكذا فعلت هيلين كيلر, وكانت ايامها كلها مختلفة, وتقول في ذلك عن نفسها ليست في حياتي ساعة تشبه الاخري حيث انني بحاسة اللمس أشعر بجميع التغيرات التي تطرأ علي الجو, والأيام تختلف عندي بمقدار اختلافها عن الذين ينظرون الي السماء, ولا يبالون بجمالها بل يرصدونها ليقفوا منها.. هل تمطر أم لا, وفي بعض الأيام تنسكب الشمس في مكتبي فأشعر بأن مسرات الحياة قد احتشدت في كل شعاع من أشعتها.. وهناك أيام ينزل فيها المطر, فأشعر كأن ظلا يتعلق بي, وتنتشر رائحة الأرض الرطبة في كل مكان.. وهناك أيام الصيف المخدرة حين يهب النسيم العليل فيغريني بالخروج الي مظلتي حيث أتمدد وأحلم بالزهر يغشاه النحل, وهناك ساعات العجلة والازدحام حين تحتشد الخطابات علي منضدتي, ثم ساعات لانهاية لها تختلف وتتفق مع المفكرين والشعراء, وكيف أنام مادامت الكتب حولي. أرأيت ياسيدي احساسا لدي الأصحاء بمقدار هذا الإحساس الراقي بالأشياء لدي من حرمت نعمات البصر والسمع والكلام؟ فهكذا أرجو أن تكون زوجتك, وهكذا أرجو ان تتفاعل معها فتشعرها بوجودها وبأهميتها في الحياة, وعلينا دائما ان ننظر الي عظمة الخالق عز وجل وقدرته العالية وحكمته البليغة التي وجدناها من قبل في هيلين كيلر, ونتمني ان تكون في زوجتك الصابرة, فبالمثابرة سوف تغير حياتها ولا تستسلم لليأس والظلام والسكون. وأرجو أن تتلمس لها العلاج وسأبحث معك ترتيب هذه المسألة, فقد يكتب لها الله ان تري الدنيا من جديد.. هل تعرف ياسيدي ان معلمة هيلين كيلر التي علمتها الكثير في حياتها وهي آن سيلفان فقدت البصر وهي في الرابعة عشرة من عمرها فلم تحزن ولم تجزع, وإنما التحقت بمعهد للمكفوفين وتعلمت كما تعلم غيرها من فاقدي البصر, وفي الوقت نفسه واصلت سعيها لدي الاطباء, فأجريت لها العديد من العمليات الجراحية فاستعادت بصرها, وكرست حياتها لمساعدة من هم بحاجة اليها, وقد يفسر لنا هذا مقدار الحنان والصبر اللذين تمتعت بهما آن في معاملتها مع هيلين كيلر حتي تمكنت من العبور بها من فوق حواجز الإعاقة. فإذا كانت آن قد فعلت ذلك, وإذا كانت هيلين قد حققت هذه المعجزة بالسمو فوق الامها.. فإنني أرجو ان تواصل سعيك مع زوجتك لكي تتغلب علي أحزانها وتنخرط في الحياة من جديد والله المستعان.