من الحقائق التي صارت معروفة الآن ان الازمة المالية العالمية أكدت الحاجة الي تأميم البنوك وفرض قيود علي الاقراض للخارج ووضع قواعد متعقلة للاقراض الداخلي، وهذا هو كما تقول مجلة "الايكونوميست" ما يدركه بعض صناع السياسة في الهند وهم يرون ان التزام الهند المسبق بهذه الأفكار هو الذي خفف الآثار المدمرة للأزمة المالية العالمية علي الاقتصاد الهندي، كما يرون ان بنوك الهند لاتزال في حالة جيدة وديونها الخارجية تحت السيطرة. وفي ذات الوقت فإن البورصة الهندية لم تنجو مما أصاب غيرها من البورصات حيث فقدت 60% من قيمتها خلال العام الحالي خاصة ان المستثمرين الاجانب الذين ضخوا فيها 4.17 مليار دولار خلال العام الماضي قد خرجوا منها وهو ما شدد الضغوط علي الروبية الهندية ففقدت 20% من قيمتها أمام الدولار منذ شهر يناير الماضي وهو الشهر الذي بلغت فيه البورصة ذروة ارتفاعها، ولا شك ان أزمة الائتمان العالمية عجلت من هبوط قيمةالروبية ويرجع ذلك في جزء منه الي ان الشركات الهندية عجزت عن الحصول علي رءوس الأموال من الاسواق الأجنبية وتحولت لتقترض من البنوك الهندية، كما انها كانت تبيع الروبية مقابل الحصول علي الدولار وأمام هذا الوضع اضطر بنك الاحتياط الهندي "البنك المركزي" الي ان يبيع يوميا ملياري دولار من الاحتياطي الهندي بالنقد الاجنبي ولذلك فإن الاحتياطي الذي كان حجمه في مايو الماضي 316 مليار دولار صار الآن 253 مليارا فقط أي انه نقص حتي الآن 63 مليار دولار، وقد أسفرت هذه التطورات جميعها متضافرة مع آثار عامين من السياسة النقدية الانكماشية عن ايجاد أزمة ائتمان هندية. وفي مواجهة هذه الأزمة يحاول بنك الاحتياط الهندي منذ منتصف سبتمبر الماضي تعزيز السيولة، وقد كانت امام البنك في هذا الشأن خيارات متعددة منها خفض الحد الادني لايداعات البنوك لدي البنك المركزي ومنها أيضا خفض سعر الفائدة التي وصلت حاليا إلي 6.5% رغم استمرار الارتفاع في أسعار الجملة التي بلغت في أغسطس الماضي 12.9% وهي أعلي نسبة في ال 16 عاما الأخيرة فإن البنك المركزي يحاول خفضها لكي تناسب الاوضاع الراهنة في الهند، ومن المؤكد ان تدافع المستثمرين للحصول علي السيولة قد جعل البنك المركزي الهندي يصاب بالقلق بشأن معدل النمو الذي يتجه الي الانخفاض. نحن نعرف ان الاقتصاد الهندي كان يتجه الي التباطؤ حتي قبل انفجار الأزمة العالمية ففي أغسطس الماضي زاد الانتاج الصناعي بنسبة 1.4% فقط عما كان عليه منذ عام في حين كان المتوقع ان تصل الزيادة الي 6% وإزاء ذلك خفض البنك المركزي الهندي توقعاته بالنسبة لمعدل النمو الاقتصادي من 9% ليصبح 7.5% وحتي هذا التوقع الاخير يعتبر متفائلا أكثر من اللازم حيث ان جهات التوقع المستقلة في معظمها تري ان معدل النمو الاقتصادي في الهند خلال العام القادم 2009 لن يزيد علي 5.5% ورغم ان هذا معدل مقلق الا ان الهند ستظل بذلك ثاني اقتصادات العالم الأسرع نموا بعد الصين. والمعتقد ان الامور يمكن ان تسوء، فرغم ان انخفاض قيمة الروبية يفيد المصدرين الا ان الصادرات الهندية من السلع والخدمات اصبحت تعاني، فالصادرات السلعية علي سبيل المثال هبطت في اكتوبر الماضي 12.1% عما كانت عليه قبل عام، ومع ذلك فإن مجلة "الايكونوميست" تنبهنا الي ان التصدير ليس مكونا اساسيا في النمو الهندي فاعتماد الهند علي الصادرات أقل من غيرها من الاسواق الناشئة ولا تمثل الصادرات سوي 22% من اجمالي الناتج المحلي الهندي، ولعل نظرة تاريخية الي معدلات النمو في الهند تفيدنا في هذا المجال، فمعدل النمو الذي حققته الهند من عام 1982 وعام 1992 كان 5.2% سنويا في المتوسط، ومع التوسع في عمليات الاصلاح المالي والاقتصادي ارتفع هذا المعدل الي 6% سنويا في المتوسط من عام 1992 وعام ،2002 وفي السنوات الخمس الاخيرة ارتفع معدل النمو قافزا ليصبح 8.8% سنويا ويري المتفائلون بمستقبل الهند ان قدرة الاقتصاد الهندي علي النمو لاتزال عالية رغم كل شيء وان ذلك يرجع الي ارتفاع معدلات الاستثمار، ويرجع ايضا وهذا هو السبب الاكثر أهمية الي ارتفاع معدلات الادخار، وعلي سبيل المثال فإن معدل الادخار الهندي قفز من 28% عام 2003-2004 ليصبح 35.5% في عام 2007 وهو مستوي مقارب لمستوي الادخار في الصين. ورغم ذلك فلا ينبغي ان يغفل الناس عن البقع السوداء في الثوب الهندي وفي مقدمة هذه البقع ارتفاع معدل التضخم الذي وصل الي 7% وكذلك العجز في الموازنة العامة والذي يتوقع خبراء جولدمان ساكس ان يصل الي 8.4% هذا العام أما البقعة الثالثة فهي الدعم الذي تقدمه الحكومة لمختلف الفئات الذي يناهز 3% من اجمالي الناتج المحلي وعلي سبيل المثال فإن دعم الحكومة للأسمدة والمخصبات هذا العام وحده يناهز 23 مليار دولار. إن الهند التي يبلغ حجم اقتصادها أو بالأحري قيمة اجمالي ناتجها المحلي هذا العام تريليون دولار يمكنها ان تضاعف هذه القيمة الي تريليوني دولار في غضون 8 سنوات ونصف السنة ويضيف، اذا ما استطاعت ان تعود الي معدل نموها المرتفع الذي بلغته في السنوات الخمس الاخيرة، ولكي يحدث ذلك سيكون علي الهند ان تواصل عمليات الاصلاح الاقتصادي من دون تأخير، وعموما فإن هناك 3 عوامل اضافية تؤكد التفاؤل بمستقبل الهند وأول هذه العوامل هو ان أي حكومة هندية قادمة لن يمكنها خفض الانفاق في ظل اقتصاد يعاني من التباطؤ وستجد نفسها متجهة الي زيادة الايرادات عن طريق تفعيل برنامج الخصخصة والسبب الثاني هو ان الطبقة الوسطي الهندية صارت تعتقد ان ارتفاع معدل النمو مصدر فخار وطني الي جانب آثاره الاقتصادية والاجتماعية الايجابية ولذلك سيزيد عدد السياسيين الذين يعطون لمعدل النمو المرتفع أولوية علي ما عداه أما السبب الثالث فهو سبب فكري حيث ثبت ان الهند كانت علي صواب في تحقيق انفتاح قطاعها المالي أمام العولمة علي نحو يتسم بالحذر ولكنها بالتأكيد لن تظل متمسكة بحذرها عندما نري العالم وقد تم تنظيم أسواقه المالية بعناية أكبر مما كان عليه الحال قبل الأزمة المالية العالمية الراهنة.