من الاشاعات المضللة التي يطلقها رجال السياسة والنقاد بخصوص ازمة الائتمان الراهنة ان البنوك توقفت عن الاقراض.. وتقول مجلة "الايكونوميست" ان هذا اتهام ينفيه المصرفيون بشدة ويؤيدهم في هذا الرفض ما هو متاح من بيانات، صحيح ان اجمالي التدفقات الائتمانية قد هبط كثيرا ولكن المحللين في شركة الاستشارات اوليفر وايمان يرون ان ما حدث من انكماش في الائتمان المصرفي الامريكي علي سبيل المثال لا يزيد كثيرا عما سبق حدوثه في دورات الركود السالفة، ففي الركود ينخفض الطلب علي الائتمان بشكل طبيعي وتصبح شروط الاقراض اكثر تشددا، ويخشي بعض المراقبين في واقع الامر ان تكون البنوك لاتزال تقرض اكثر مما يجب خاصة ان توافر الائتمان السهل هو الذي اوصلنا الي الازمة الحالية. والحقيقة ان الانكماش الشديد في الائتمان قد حدث من جانب المقرضين غير المصرفيين اي من صناديق التحوط وبنوك الاستثمار وصناديق التجارة في العملة وغيرها من الكيانات المعنية بالاقراض التي تسمي احيانا باسم "نظام الظل المصرفي" وهذا النوع من المقرضين له اهمية خاصة في السوق الامريكية لان البنوك لا تقدم هناك سوي 20% فقط من اجمالي الائتمان منذ عام 1993 والباقي تقدمه مؤسسات نظام الظل المصرفي التي لها ايضا دور مهم ومتزايد في اسواق بريطانيا ودول منطقة اليورو. ونحن نعرف ان المقرضين من خارج الجهاز المصرفي هم المشترون الأساسيون لمنتجات التوريق كما نعرف أن عملية التوريق تعني صناعة ورقة مالية عادة ما تأخذ اسم السند بضمان أو لضمان ورقة مالية أخري. وتقول الأرقام ان هناك في مختلف انحاء العالم أصولا قيمتها 7.8 تريليون دولار يتم تمويلها عن طريق التوريق وفي أمريكا نجد ان أكثر من نصف بطاقات الائتمان وقروض الطلاب كانت مورقة في عام 2007 أما في أوروبا فإن البنوك الأوروبية تستخدم التوريق لتمويل التوسع في الاقراض خلال فترات الازدهار.. وعلي سبيل المثال تقول أرقام 2008 ان نسبة القروض إلي الودائع في بنوك بريطانيا ناهزت ال140% ونفس النسبة تقريبا في فرنسا ونحو 121% في اسبانيا مقابل نحو 105% في كل من ايطاليا والمانيا أما في منطقة اليور ككل فقد كانت النسبة تناهز ال131% في المتوسط. وتقول مجلة "الايكونوميست" ان حدوث أزمة أو انكماش في الائتمان المقدم من جانب مؤسسات جهاز الظل المصرفي يدفع المقترضين للجوء إلي البنوك لطلب الائتمان.. ويذكر بحث صدر عام 2005 أعده كل من ايفان جاتيف وفيليب ستراهان من بوسطن كوليدج إلي جانب تيل شورمان من بنك الاحتياط الفيدرالي بنيويورك ان هذا اللجوء الي النظام المصرفي التقليدي هو ما حدث عند افلاس صندوق التحوط لونج تيرم كابيتال مانيجمنت عام 1998. وقد تكرر هذا بصورة أو بأخري في الأزمة الراهنة حيث تدخلت البنوك بما لديها من سيولة لتعويض نقص الائتمان الناجم عن اضطراب أسواق التوريق ولاحظ قادة البنوك حدوث زيادة هائلة في الطلب علي الائتمان وتدفق بعض المدخرات لكي تودع في البنوك أيضا ولكن المشكلة ان كميات النقود التي كانت مطلوبة من البنوك كانت كبيرة.. وتقول أوليفر وايمان ان الفصول الثلاثة الأولي من عام 2008 شهدت انكماش الاقراض عن طريق اسواق رأس المال في امريكا بنحو 950 مليار دولار سنويا، والمفارقة هي أن صافي ما قدمته البنوك من قروض في 2007 لم يكن يزيد علي 850 مليار دولار ولم تكن هذه البنوك في وضع يمكنها من الاعتماد علي التوريق في زيادة كمية الائتمان التي تقدمها وكان عليها والحال كذلك ان تعتمد علي الودائع ولكن انخفاض معدلات الادخار في الدول الغنية ضرب هذه الركيزة أيضا اما في الاسواق الناشئة فتوجد نقود كثيرة "تحت المرتبة" وتستطيع البنوك ان تجتذبها بطرق كثيرة ومع ذلك فإن هذه العملية قد تستغرق سنوات وبالتالي لم يكن هناك مفر من محاولة انعاش عملية التوريق ولذلك حدثت الازمة. والآن يقول المتفائلون اننا تخطينا ما هو أسوأ في هذه الأزمة ولكن المسألة ليست بسيطة كما يتخيلون فالأمر ينطوي علي تفاصيل فنية معقدة تجعل انعاش التوريق رغم التدخل الحكومي عملية محفوفة بالمخاطر ويكفي ان تعرف ان البنوك الامريكية لديها اصول منهارة ممولة عن طريق التوريق تناهز قيمتها ال 4.3 تريليون دولار ورغم تدخل الحكومة الامريكية وبنك الاحتياط الفيدرالي لاعادة التوازن الي السوق فإن هذه الاصول "المسمومة" لاتزال مشكلتها بلا حل، ولذلك فإن مستقبل الجهود المبذولة لانعاش او احياء التوريق سيظل محاطا بالغموض وان كان هناك شيئان فقط مؤكدان أولهما ان سوق التوريق لابد ان ينكمش حجمه بدرجة ملموسة وان البنوك ستكون مضطرة الي ضبط نسبة ما تقدمه من قروض الي ما تجمعه من ودائع بحيث تعود الي مستواها الطبيعي، ثانيهما ان مدي استمرار البنوك في حالة توازن سوف يعتمد علي مدي النجاح في تحقيق هاتين المهمتين. وفي كل الاحوال فإن درجة ونوعية الدعم الحكومي الطويل الاجل للبنوك وأسواق المال سيظل لهما دور جوهري في منع تكرار الازمة بهذه الحدة في المستقبل وسيكون احد الخيارات المطروحة دون شك هو تقديم ضمانات حكومية لمشتري الاصول المورقة تشبه تلك الضمانات المقدمة لاصحاب الودائع الصغيرة نسبيا في مختلف البنوك.