المتابع للاجتماع الأخير لشعبة المحاسبة والمراجعة بنقابة التجاريين في الجلسة المنعقدة حول تحرير مهنة المحاسبة يلاحظ انه كان اجتماعا غير تقليدي، فثمة مخاوف من فكرة التحرير سيطرت علي المحاسبين بالرغم من تأكيد مسئولية وزارة التجارة والصناعة علي أن مصر لم تعلن أي التزامات دولية بشأن تحرير القطاعات الخدمية، إلا أن أمعواء من عدم الثقة كانت ملموسة في انطباعات المحاسبين المعارضين للفكرة وحولت هذا الاجتماع الي تجدد للجدل الواسع في مجتمع المحاسبين حول مخاوف من سيطرة الأجانب علي السوق. المؤيدون لفكرة التحرير لديهم حججهم المبنية علي أن إنفتاح قطاع المحاسبة قادم لا محالة وانه علي المحاسبين أن يحلوا مشكلاتهم ويطوروا من أدائهم قبل الانفتاح علي المنافسة الاجنبية. أما الرافضون فيرون ان مصر ليست ملزمة بهذا الانفتاح وان هناك العديد من المخاطر تكمن وراءه، ابرزها المخاوف المطروحة من توغل المحاسبين "الإسرائيليين" في المعلومات الاقتصادية المصرية في ظل اجراء الصراع المخابراتي والتجاري المصري الإسرائيلي والتي سلطت أحداث قضية التجسس في الطاقة النووية الأخيرة الضوء علي ذلك الصراع. وتعد قضية تحرير مهنة المحاسبة واحدة من أكبر القضايا المثيرة للجدل في قانون مزاولة مهنة المحاسبة والمراجعة الجديد والذي كان مطروحا في دورة سابقة في مجلس الشعب حيث انطوي المشروع الحكومي للقانون علي نص صريح عن السماح للأجانب بالعمل في مصر، إلا أن القانون بأكمله تم تأجيله، ولعل سبب إعادة طرح الموضوع للنقاش مجددا، كما يرجح بعض المحاسبين، راجع لمواجهة الضغوط التي تمارس من قبل الشراء الأجانب لمكاتب المحاسبة في مصر.. وعلي حد قول د. شريف قاسم أمين عام نقابة التجاريين بالقاهرة فإن الشركاء الأجانب لمكاتب المحاسبة في مصر يسعون "لتقنين" وضعهم، ويصف قاسم بأن وجود الأجانب في هذا القطاع يعد امرا واقعا، ولكن اصدار تشريع بتحرير المهنة سيحول هذا الأمر الواقع الي "الزام". مشيرا الي ان مصر حتي الآن غير ملزمة بتحرير مهنتها امام منظمة التجارة العالمية حيث يوضح ان هناك خلطا بين تحرير الخدمات والتي تلتزم مصر بتحرير بعضها كخدمات القطاع المالي والسياحة والمقاولات وبين تحرير المحاسبة التي تندرج في إطار "المهن" وليس الخدمات، لافتا الي أن في تجارب الدول الأخري كان رفض تحرير بعض الخدمات بسبب مخاطر ذلك علي ذلك النشاط وعلي مقدمي الخدمات المحليين وهو ما حدث في تجربة الولاياتالمتحدة بشأن عدم سماحها بتحرير خدمة التعليم حفاظا علي الهوية الأمريكية مثلا، كما يشير قاسم الي أن عدم تحرير مصر لمهنة المحاسبة لا يعني أن الدول الأخري العضوة بمنظمة التجارة العالمية ستعاملها بالمثل فمن حق المحاسبين المصريين العمل في أي بلد أجنبي عضو بالمنظمة طالما حرر هذا البلد هذه المهنة، وفي هذا الصدد يشير قاسم ايضا الي انه في حالة تحرير مصر لهذه المهنة فلن تستطيع ان تمنع المحاسبين الاسرائيليين من العمل في مصر وهو الامر الذي يتسم بالكثير من الحساسيات السياسية خاصة اذا تولي مراجعون اسرائيليون مراجعة صناعات وشركات استراتيجية لما لها من ابعاد تمس الأمن القومي. ويعتبر المحاسب القانوني عدنان الخولي ان هناك اقحاما لفكرة تحرير مهنة المحاسبة في اطار الحديث عن تحرير الخدمات لافتا الي انه لاحظ في ظل الجدل الدائر عن تحرير المهنة غياب أي بحث قانوني من النقابة أو غيرها لتحديد مدي خضوع مهنة المحاسبة لموضوع التحرير تنفيذا لاتفاقية الجات. تنظيم المهنة وبعيدا عن الجوانب التشريعية والسياسية الخاصة بتحرير المهنة فهناك مخاوف أخري تتعلق بالمنافسة حيث يعتبر محمد النفراوي عضو مجلس إدارة جمعية الضرائب المصرية أنه في حالة تحرير المهنة بوضعها الحالي فلن يكون هناك سوي "100 محاسب مصري" علي قدر المنافسة بينما ستكون المنافسة في غير صالح 1000 مكتب محاسبة من المكاتب متوسطة الحجم ويصف النفراوي وضع مهنة المحاسبة الحالي بأنها تعاني من غياب تشريع قوي ينظمها وتنظيم نقابي قوي يحمي المهنة ومزاوليها، علاوة علي ان تحرير المهنة لا يضمن مكسبا متبادلا للمحاسب المصري لان الدول الأجنبية كالولاياتالمتحدة تشترط علي المحاسب المصري الحصول علي شهادات أمريكية مرتفعة التكلفة للعمل علي أراضيها. والواقع أن هناك الكثير من المطالبات المثارة بشأن تنظيم المهنة تتردد في ارجاء نقابة التجاريين منذ فترة طويلة وتتعلق بتنقية جدول المحاسبين والمراجعين في وزارة المالية من غير الجادين وضرورة اقرار مسألة التدريب المستمر كأساس لاستمرار القيد بسجلات المهنة وضرورة اقرار الامتحان كوسيلة للترقي من مستوي المهنة لمستوي أعلي علاوة علي ضرورة متابعة ورعاية المحاسبين تحت التمرين بشكل انساني وعملي ومهني وهي كلها مطالب تهدف إلي جعل كفاءة الأداء شرطا أساسيا للعمل في المهنة وهو ما يطور السوق ويدعمه، ويعتبر البعض أن غياب العمل النقابي عن هذه المهنة كان أحد الأسباب الرئيسية في مشكلاتها حيث ألغيت نقابة المحاسبين منذ عام 1972 ولم يعدل هذا الوضع إلا بإنشاء شعبة المحاسبين والمراجعين بالنقابة عام 2001 والتي مازالت تقوم علي أعضاء معينين لمجلس الشعبة من قبل مجلس النقابة أما سلطة قيد المحاسب في سجل المحاسبين فهي بشكل أساسي في يد وزارة المالية. وفي محاولة أخيرة لتطوير المهنة استحدثت بعض أجهزة الدولة سجلات متخصصة للمحاسبين كهيئة سوق المال والبنك المركزي اشترطت فيها مستوي معينا من الخبرة لمراجعة اعمالها وهو ما لقي استهجانا من بعض المحاسبين معتبرين ان هذا تفتيت للمهنة وان من حقهم ان يؤسسوا لهم نقابة تمسك سجلاتهم مثل باقي المهن. مصلحة المكاتب الكبري فقط ويعتبر د. سمير مرقص أستاذ المحاسبة بالجامعة الأمريكية ان تفعيل المطالبات الاصلاحية السابقة في دول كالولاياتالمتحدة والاتحاد الأوروبي واستراليا ونيوزيلاندا هو الذي شجعها علي تحرير مهنتها وفتحها أمام المنافسة الأجنبية حيث تمنح تراخيص مزاولة المهنة لفترة محددة وتجدد للتأكد من كفاءة المزاول مع اشتراط مداومته علي التعليم المستمر من خلال التأجيل المستمر والخضوع لما يتراوح بين 120 إلي 150 ساعة تدريبية سنويا. ونظرا للاهتمام بمعايير الكفاءة، كما يضيف مرقص، واتجاه المكاتب الصغري في هذه الدول للاندماج المستمر لتضخيم كياناتها فنلاحظ ان هناك كيانات كبري أو ما يسمي "بالأربعة الكبار" تتوسع انشطتها في هذه الدول وفي الدول الأخري ولكن في المقابل هناك نسبة كبيرة من حجم الأعمال موكولة للمكاتب متوسطة الحجم علي عكس ما يحدث في مصر حيث تتسع الفجوة بين المكاتب الكبري والصغري، وهو ما سيجعل تحرير المهنة في مصر ذا منفعة احادية الجانب للمكاتب الأجنبية فقط علي حد وصفه.