كثيرون هم مطربو هذا الزمان.. والقليلون هم أصحاب وصاحبات الأساليب المميزة. والمتأمل في بانوراما الغناء الآن.. يدرك علي الفور انتشار الغبار والكآبة والسوقية والتدني، ويلاحظ أيضا غياب المثل، وافتقاد القدوة، والابتعاد عن عالم القيم في الفن ولا أظن أنه سيجيء اليوم الذي تصبح فيه "فلانة" "وعلانة" من ملكات العري والخلاعة في "كليبات" الفضائيات، سيدات للغناء في مصر والوطن العربي. القائمة طويلة جدا وتضم أسماء لا حصر لها، وهذه عينة من "طينة" و"الطينة" من العجينة والعجينة تستحق الحرق!! فرق كبير بين الغناء الرخيص تحت دعاوي التحديث والتطوير، والدعوة إلي طرب أصيل وموسيقي عصرية تحترم أذواق الناس.. والذوق هو رائد السلوك الإنساني المتحضر.. والشعوب كما يقول الفيلسوف سقراط التي تحسن الاستماع إلي الموسيقي هي شعوب متحضرة تعرف معني الصدق والمودة والرحمة. وربما يسأل البعض.. أليس هذا كلاما متأخرا جدا وفات أوانه؟..قد يكون التساؤل في محله.. ولكني وجدت أن الموضوع زاد وافض وفار التنور حين نصطدم كل يوم بأسماء جديدة، وأصبحت مهنة الغناء أسهل وأسرع مهنة يتم تداولها هذه الأيام وتفتح لمزاولها باب الكسب والشهرة غير المشروعة والبركة في الفضائيات العشرين التي تزدحم بها السماوات العربية والتي تبث سمومها.. طيلة الأربعة والعشرين ساعة يوميا أي هناك حوالي 14 ألفا. 40 ساعة ارسال شهريا لهذه القنوات وماذا تفعل لتغطية هذه الساعات من البث والارسال.. كل ما في الأمر أنها تقبل كليبات مدعيات الفن كهدية وتبدأ في بث هذه الكليبات والتي تحتوي علي أفعال فاضحة تحت مسمي أغاني..وربما نستثني من هذه القنوات أربع أو خمس تلتزم بالفن الجميل شكلا وموضوعا.. أما بقية القنوات الفضائية فإنها تعمل علي افساد الذوق وزيادة كمية السواد والغبار.. في منافسة تجارية تهدر فيها كل القيم الاجتماعية النبيلة. إن غالبية مطربات هذا الزمان لا علاقة لهن بالطرب أو الغناء إذ يقدم معظمهن "غناء" تعفه النفس ويرفضه الذوق.. وكلمات بذيئة سوقية وحركة تخاطب الغريزة بديلا عن القلب والوجدان والسباق محموم والمنافسة شرسة ليس لمساحة العري التي تظهرها "المطربة" ولكن لأقل مساحة مغطاة من جسمهاا!! ولا ننكر أن التوزيع الموسيقي للأغاني والكمبيوتر ساعدا أيضا في تسويق هذه الأصوات وإثارة اهتمام البعض وجذب انتباههم.. كل هذه العوامل والأسباب ساهمت في تشجيع الموجودات علي الاستمرارية وفتحت الباب لأخريات وازدحمت الساحة "بالواغش" و"الهاموش".. وتحول الغناء المصري إلي مادة حية للهزؤ والسخرية والتندر علي مستوي الوطن العربي وانتشروا كالفيروس وأصبحوا للأسف نجوما في الفضائيات والمجلات.. ونحن نشارك في ذبح الفن والطرب الأصيل ولا أحد يتألم أو يبكي. فنان كبير مثل حلمي بكر لا يعجبه إلا كل ما هو أصيل وجميل يرفض هذه الموجة الفاسدة للفن ويقول إن هؤلاء المطربات أي مطربات الفضائيات المشبوهة يغنين بأجسادهن ويطالب أجهزة الإعلام بالتصدي لهن، ولا يعفي الدولة من مسئوليتها عن المنطقة الحرة الاعلامية.. كما يجب أن تتصدي الرقابة لأي أفعال مخلة وتمنع أي اسفاف وابتذال في الكلمات وما تحويه من معان جنسية صارخة. وقال بكر إن عضوات نقابة المهن الموسيقية من المطربات لا تستطيع تعرية أجسادهن ولأنهن كذلك فليس لهن تواجد في الفضائيات إياها. ويؤكد حسن شرارة وكيل أول نقابة المهن الموسيقية أن النقابة لا يمكن أن تعطي تصريحا بالغناء لأي فنان أو فنانة إلا إذا توافرت فيه شروط الإجادة الفنية ومعرفته بالمقامات العربية والأصول الغنائية، كما لا يستطيع أي فنان أو فنانة أن يغني في الحفلات الخارجية إلا بتصريح من النقابة لكن النقابة لا تملك أي وصاية أو نفوذاً علي الفضائيات الغنائية مادامت لا تمس الدين والأخلاق والسياسة. والواقع غيرذلك تماما.. لدرجة أن أعضاء المجمع العربي للموسيقي اتهموا أغاني بعض المطربات بأنها مثل الارهاب يصعب القضاء عليهما.. إذا كان أعضاء هذا المجمع وهم من الاساتذة الأفاضل في الموسيقي والغناء يشبهون هذه الأغاني بالارهاب.. أليس هذه مصيبة كبيرة ابتلينا بها؟!!.. وفي هذه الحالة لا نملك إلا أن نقول: يا خفي الألطاف نجنا مما نخاف. يجب أن يتوقف زحف الركاكة والابتذال علي الفضائيات والإذاعات، وأن يسعي كل مخلص ومحب للفن الراقي الأصيل إلي الحيلولة دون انقطاعنا عن الماضي.. وعلي الجميع مواجهة الضغوط والتربيطات والمساومات لأن النتيجة مخجلة ومحزنة، وهو ما نراه الآن من هزال وابتذال وشذوذ غنائي علي الهواء تباركه وتزكيه الفضائيات ليل نهار دون وازع من ضمير.. ومن خلال أصوات (هي أنكر الأصوات) وكلمات تثير الاشمئزاز وحركات إباحية يعاقب عليها القانون. بعد ذلك هل نسكت ونترحم علي الماضي وزمن الفن الجميل؟.. لا أعتقد، ولايجب أن نصمت ونغمض أعيننا.. الماضي لا يموت والفن الأصيل سيقاوم وسيظل.. والعملة الرديئة سيجيء اليوم التي تتواري فيه وتختفي. هناك علي الطرف الآخر الأبيض النقي مطربات مثل ماجدة الرومي وأصالة وعفاف راضي ولطيفة وأنغام ونجوي كرم وغادة رجب وديانا كارزن وغيرهن مجيدات يملكن القدرة علي التميز ولا ينغمس ونفي تقديم الفن السطحي المتدني إنما يقدمن فنا راقيا وتتضاءل أمامهن صاحبات الفن الهزيل المبتذل. حرضتني علي كتابة ذلك مطربة فلسطينية اسمها عبير صنصور كنت استمع إليها مع حشد كبير من الجمهور بدار الأوبرا، وشعرت أن فن الغناء لا يزال بخير. أحسست أنني أمام مطربة تعرف أدواتها جيدا وتملك حضورا طاغيا علي المسرح، وتتمتع بصوت عذب شجي غنت للوطن وللحرية بكلمات تحمل هموم مجتمع حقيقي وبشر حقيقيين غنت للحب والجمال فأبدعت واينعت لشعراء من فلسطين ومصر.. وتأثرالجميع بغنائها وأدائها المتزن والمتحرك في غير ابتذال.استمتعت بأداء فنانة تلتمع عيناها ببريق الغد الواعد المشرق وتتميز بقدرتها الفائقة علي التوصيل في سهولة ويسر وايقاع سريع وشجن يخلو من تأوهات الواوا وما وراء الواوا.