أصبح الكذب سياسة، والإهانة والإذلال والتوبيخ سلوكاً، والاعتذار والتعويض ومشاعر الندم فروضاً غائبة. والخطير ان هذه الآفات لم تعد خاصة بحفنة من الأفراد، وانما أصبحت لصيقة بالدول ، بل بأكبر دولة في العالم، واكبر حلفائها علي ظهر الكرة الأرضية، ناهيك بالطبع عن حليفتها الاستراتيجية وطفلتها المدللة إسرائيل . هذه الظاهرة المروعة التي أصبحت ترسم ملامح صورة بشعة وقبيحة - وللأسف بالغة الواقعية - للدبلوماسية في زمن الهيمنة الأمريكية يقدمها لنا الزميل الأستاذ محمد عبد الهادي خبير الشئون العربية والسياسة الخارجية المصرية ومساعد رئيس تحرير "الأهرام" ورئيس قسم الشئون الدبلوماسية، في أخر كتبه "الدبلوماسية في زمن الهيمنة الأمريكية" الصادر حديثاً عن دار "نهضة مصر للطبع والنشر". وبالطبع فان هذه الظاهرة ليست جديدة تماماً في السياسة الدولية لكن محمد عبد الهادي يرصد الجديد بهذا الصدد حين يلاحظ ان "استخدامات الكذب - مثلاً - في السياسة كانت هي المراوغة والتهرب من الاستحقاقات ، أما الآن فقد بات الكذب أداة أو مظلة وسياسة لشن عدوان واحتلال بلدان، مثلما في حالة العراق ". ويضيف ان "الكذب اصبح إذن أداة من أدوات السياسة الخارجية لدول كبري ، وارتبط به قلب الحقيقة ، ولعل اشهر الأكاذيب في التاريخ الحديث كذبة الصهيونية : "ارض بلا شعب لشعب بلا ارض" التي أسست لقيام دولة إسرائيل. وفي التاريخ المعاصر كذبة الولاياتالمتحدة "حيازة العراق أسلحة دمار شامل"التي أسست لشن عدوان غير شرعي علي العراق . فقد أصبحت ممارسة الكذب شائعة في السياسة والعلاقات الدولية بدرجة غير مسبوقة فيما بات الاعتذار فريضة غائبة . وفي بحثه العميق والمثير يرصد محمد عبد الهادي تاريخ الكذب لمؤسسة الرئاسة الأمريكية، فيكشف ان الرئيس جورج بوش ليس أول رئيس أمريكي يكذب ويفتضح أمره . ففي عام 1960 سقطت طائرة تجسس أمريكية في أراضي الاتحاد السوفيتي (السابق) وأعلنت الخارجية الأمريكية انها لم تكن محاولة متعمدة لانتهاك المجال الجوي السوفيتي، لكن عندما اظهر السوفيت الطيار الأسير اضطر الرئيس الجمهوري دوايت ايزنهاور الي الاعتراف بانها كانت طائرة تجسس. وفي عهد خلفه الديمقراطي جون كنيدي اضطر مساعد وزير الخارجية - بعد الكذب - بشأن أزمة خليج الخنازير - الي ان يعلن "حق الإدارة في ان تكذب عندما يتعلق الأمر بحرب نووية". وفي عهد الرئيس الديموقراطي ليندون جونسون ظهرت نكتة تقول "كيف تعرف ان جونسون يكذب؟" الإجابة : "عندما يحرك شفتيه بالكلام" ! في إشارة الي عدم نطقه صدقا ، فالرئيس جونسون هو صاحب "الكذبة" التي ترقي الي مستوي الجريمة في حق الشعب الامريكي، وذلك عندما اصدر تعليماته في عام 1967 بالإعلان ان حادث إغراق السفينة "ليبرتي" وقع عن طريق الخطأ، بينما كانت إسرائيل قد أغرقتها - لانها اعتقدت انها مصرية - وراح ضحية الحادث 34 ضابطا أمريكيا وأصيب 170 آخرون ، واستهدف هذا الإعلان التغطية علي الجريمة الإسرائيلية . أما الرئيس الجمهوري ريتشارد نيكسون فهو الرئيس الوحيد الذي دفع ثمن كذبه في فضيحة "ووتر جيت" واستقال من منصبه في أغسطس 1974 . كما أدانت قاضية أمريكية في ابريل 1999 الرئيس الديموقراطي السابق بيل كلنتون بالكذب والإدلاء بشهادة زور في قضيتي التحرش الجنسي اللتين اتهمته بهما باولا جونز ومونيكا لونيسكي ، واتهمه الجمهوريون بخيانته الأمانة، الا ان كلينتون رفض في ديسمبر 1999 دعوة المدعي العام المستقل كينيث ستار الاعتراف بالكذب . بيد انه عاد واعترف بانه حنث بيمينه أمام القضاء واعتذر لشعبه. لكن أكاذيب ادارة كلينتون لا ترقي لمستوي خطورة أكاذيب إدارة بوش ، التي زادت علي أكاذيبها بشأن العراق ادعاءات أخري علي أطراف عربية وإسلامية اخري . فوزير الدفاع دونالد رامسفيلد أعلن في نوفمبر 2001 أن إيران تنسق مع خبراء أمريكيين بشأن أفغانستان، ونفت ايران هذه المزاعم. كما أن السفير الأمريكي في بيروت فنسنت باتل اتهم الرئيس اللبناني إميل لحود بالكذب بزعم أن حديثه عن حصر أنشطة حزب الله في الدفاع عن الأراضي اللبنانية غير صحيح. أما الكذبة التي تثير الاشمئزاز فقد أطلقها رامسفيلد أيضاً في أعقاب تفجر فضيحة ممارسات الجنود الأمريكيين غير الأخلاقية وجرائمهم غير الإنسانية في سجن أبو غريب في بغداد في مايو 2004 حيث اتهم رامسفيلد وسائل الإعلام العربية بنشر "الأكاذيب" حول ممارسات قواته في العراق. لكن يبدو أن أكاذيب الرئيس بوش ضربت الرقم القياسي الذي يؤهله لدخوله موسوعة "جينيس". وأحدث نكتة تعبر عن هذه الحقيقة تقول إن رجلاً صالحاً توفي ودخل الجنة فرأي خلف "رضوان" حائطاً مكدساً بالساعات. فسأله: لماذا كل هذه الساعات؟ فرد عليه رضوان (واسمه القديس بطرس في الأدبيات الأمريكية) انها ساعة الكذب. لأن الإنسان بمجرد ان يكذب يتحرك عقرب الساعة. وأشار إلي إحدي الساعات التي لم تحرك عقاربها علي الإطلاق قائلاً: هذه ساعة الأم تريزا .. التي لم تكذب ولو مرة واحدة. ثم أشار إلي ساعة أخري تحرك عقربها درجتين، قائلاً هذه ساعة الرئيس إبراهام لنكولن الذي كذب مرتين فقط طيلة حياته. وعندما سأل الرجل الصالح عن ساعة الرئيس جورج بوش الأبن قال له رضوان: إنها لدي أحد القديسين يستخدمها كمروحة سقف .. بمعني أن عقاربها لا تتوقف عن الحركة بسبب كذبه الدائم! والمسألة ليست "أخلاقية"، وإنما هي مسألة سياسية تعبر عن أكثر فئات المجتمع الأمريكي تطرفاً وتخلفاً ورجعية وعنصرية. وهذه السياسة الثابتة التي تعتمد علي الكذب - باعتباره- احدي أدواتها الرئيسية - تعبر عن ذلك. لكنها تعبر أيضاً عن مأزق أكبر الديموقراطيات في العالم. فهي تبين - من ناحية- أن آليات الديموقراطية قد أصيبت بعطب أو فيروس مثل فيروس انفلونزا الطيور بحيث إن النتائج التي يسفر عنها عمل هذه الآليات لم تعد هي الأفضل. بدليل نجاح الكذابين والأفاقين في الحصول علي ثقة الناخبين. وربما يعبر هذا أيضاً عن الدور المتزايد للمال وأربابه الكبار أصحاب الشركات المتعددة الجنسيات. وهو دور يبدو أنه أصبح يمارس تأثيراً متزايداً في تضليل الناخبين وتجميل صورة مرشحين لا يستحقون الحصول علي ثقة الرأي العام. لكن المأزق الكبير هو أنه حتي بعد ضبط هذا السياسي أو ذاك متلبساً بالجرم المشهود، والكذب علي شعبه بل وعلي شعوب العالم بأسره مثلما هو الحال في قضية العراق وأكذوبة أسلحة الدمار الشامل، .. بعد ذلك يظل السياسي الكذاب في موقعه وكأن شيئاً لم يكن، في حين أن عشر معشار هذه الكذبة كان كفيلاً في الماضي بالإطاحة بحكومات وزعزعة عروش. بل إن رجال السياسة المحترمين كانوا في السابق يسارعون إلي التقدم باستقالتهم بمجرد ظهور شبهات، مجرد شبهات، تمس صدقيتهم من قريب أو بعيد. الآن أصبح أرباب السياسة من أصحاب الجلود السميكة والبلادة منقطعة النظير. بدليل أن بوش متشبث بمقعده، هو وكل أعوانه، رغم اعترافهم بالكذب !! والكتاب البديع لزميلنا الأستاذ محمد عبدالهادي يقدم بالوقائع، عريضة اتهام للنظام العالمي الاحادي القطبية الذي تهيمن عليه الإدارة الأمريكية. ومع هيمنتها السياسية تحاول أن تفرض علي العالم سياسة إمبراطورية قائمة علي الأكاذيب والافتراءات وقلب الحقائق وخلط الأوراق .. ناهيك عن البلطجة ودبلوماسية الزوارق الحربية. أنه كتاب - وثيقة .. يقدم من خلال رصده العميق لمفردات العلاقات الدولية في مطلع الألفية الثالثة صورة حية لحالة العالم بعيون ذكية .. ووطنية. [email protected]