يواصل الكاتب الصحفي محمد عبد الهادي رئيس قسم الشئون الدبلوماسية بجريدة الأهرام مؤلفاته التي تثري المكتبة السياسية حيث صدر له مؤخرا كتاب "الدبلوماسية في زمن الهيمنة الأمريكية" الذي يتصدي بالتحليل الدقيق والعميق لواحدة من تجليات انفراد الولاياتالمتحدة بقيادة العالم مما أسفر عن ماَس عديدة وخلف صراعات مرشحة للاستمرار علي مدي العقود القادمة علي غرار ما يحدث الاَن في العراق وأفغانستان والسيناريو الإيراني المشابه الذي قارب علي الاكتمال. ويلتقط المؤلف ملمحا مهما من ملامح القوة العظمي الوحيدة في عالم أحادي القطبية تتخذ أمريكا فيه الكذب لتبرير أطماعها والوصول إلي غاياتها وأهدافها الاستراتيجية في منطقة الشرق الأوسط. كما يشير الكاتب إلي أكاذيب اليهود ويتعرض بالتحديد لأخطرها علي الإطلاق "أرض بلا شعب وشعب بلا أرض" التي من خلالها نجحت الصهيونية في الحصول علي مكاسب مهدت لها الطريق نحو انشاء دولة اسرائيل. ويتطرق الكاتب إلي ثاني أخطر كذبة عرفها تاريخ منطقة الشرق الأوسط وهي الزعم الأمريكي بحيازة العراق أسلحة دمار شامل مما مكن الأولي من احتلال العراق وقتل الاف العراقيين تحت دعوي ثبت فيما بعد أنها لا تمت للحقيقة بصلة لكن قبل ذلك قامت كل من واشنطنولندن بتزوير معلومات ووثائق من أجل إضفاء شرعية علي ما كانا يخططان للقيام به، ويشير الكاتب إلي تلك المفارقة العجيبة فقبل غزو العراق أطلق الرئيس الأمريكي جورج بوش مصطلح محور الشر علي العراق وإيران وكوريا الشمالية وبعد أن وضعت الحرب أوزارها انتشرت عبارة محور الكذب علي ثلاثي التحالف الرئيسيين بوش ورئيس الوزراء البريطاني توني بلير ورئيس وزراء أسبانيا انذاك أزنار. ويسوق كاتبنا مثالا آخر علي الأكاذيب الأمريكية السافرة التي اعدتها إدارة البيت الأبيض للتمهيد لغزو العراق كذلك التصريح الذي أدلي به جورج بوش للصحفيين للدلالة علي حتمية شن حرب "صليبية" كما ادعي علي العراق، حينها قال "أذكركم بأن الوكالة الدولية للطاقة الذرية أصدرت تقريرا تقول فيه إن العراق يمكنه تطوير سلاح نووي خلال ستة أشهر.. لا أدري أي دليل آخر نحتاج إليه". وبالطبع كان هذا مخالفا للحقيقة تماما فالوكالة كانت قد أصدرت تقريرا بالفعل عام 1998 أكدت فيه أنه لاتوجد أي دلائل علي الإطلاق تشير إلي أن العراق يمكنه تصنيع قنبلة ذرية خلال ستة أشهر أو حتي عام كامل ولكن يبدو أن ما جاء في هذا التقرير لم يرض الرئيس الأمريكي الذي قرر الإستناد في تصريحه إلي التقرير الذي صدر عن الوكالة عام 90 الذي قيل فيه ان العراق يمكنه تصنيع القنبلة الذرية ولكن كان ذلك قبل حرب تحرير الكويت. ولا ننسي إلحاح وزير الخارجية الأمريكي في ذلك الوقت كولن باول خلال جلسة مجلس الأمن التي عقدت في الخامس من فبراير عام 2003 علي أن العراق تمتلك أسلحة دمار شامل بل وعرضه لمعلومات زعم أنها تثبت ذلك بخلاف شريط فيديو يعرض ما زعم أنها وحدات ومختبرات متنقلة وقد وصف باول لاحقا ما حدث يومها في مجلس الأمن بأنها وصمة عار في تاريخه. وكما يذكر الأستاذ محمد عبد الهادي مصطلح صناعة الكذب فإنه لا يغفل أيضا عن ذكر دور أجهزة كشف الكذب التي تمثلت في بعض الشخصيات داخل مجلس الشيوخ التي طالبت بإجراء تحقيقات موسعة حول الأخطاء التي وقع فيها جهاز المخابرات المركزية (سي اي إيه) إلي جانب الدور الذي لعبته بعض الصحف بما نشرته من مقالات لكبار الكتاب الأمريكيين مثل بوب كروجمان الذي وصف الرئيس الأمريكي بأنه شخص لايكف عن الكذب إلي جانب عشرات المقالات الأخري التي اكتسبت جرأة غير مسبوقة بعد أن بدأت الأكاذيب في السقوط تباعا. وأخيرا وبعد ثبوت عدم حيازة العراق لأسلحة دمار شامل وجه هانز بليكس كبير المفتشين عن أسلحة الدمار العراقية المزعومة فور انتهاء الحرب سؤالا إلي كل من الإدارة الأمريكية والحكومة البريطانية مفاده "أين أسلحة الدمار العراقية ؟" بل وحذر من لجوء الأمريكيين والبريطانيين إلي تزوير وثائق تثبت صحة معلوماتهم. ولا يخلو الكتاب الذي بين أيدينا من الأكاذيب التي روجت من العرب أنفسهم وبالتحديد تلك الصادرة عن وزير الإعلام العراقي محمد سعيد الصحاف حول المقاومة الشرسة التي علي حد قوله كانت تكبد "العلوج" كل يوم خسائر فادحة وفي النهاية اتضح أن كل ما قاله لم يكن إلا من نسج خياله بعد أن دخلت قوات التحالف بغداد كالسكين في الزبد. وفي النهاية تحمل الكذابون أو إن شئنا الدقة غالبيتهم تبعات أعمالهم بالاستقالات أو الاعترافات المتوالية حول الوقوع ضحية لأكاذيب آخرين. الفساد وينتقل كاتبنا من الأخص وهو الكذب إلي الأعم وهو الفساد الذي أصبح ظاهرة عالمية وإن كانت جلية في القارة السمراء بسبب انعكاساتها السلبية علي العديد من دول الإفريقية التي تعاني سواء من أزمات اقتصادية تسببت في انتشار المجاعات والأوبئة أو من حروب أهلية أو صراعات داخلية سوف تقود بطبيعة الحال إلي حالة من التشرذم سوف تؤخر عجلة التنمية بالبلاد. ولا يسعنا في سياق الحديث عن الفساد في افريقيا إلا أن قول حاميها حراميها بعد أن اعتبر بعض رؤساء دول وحكومات القارة ثروات بلدانهم إرث عائليا فبدلا من أن توضع عائدات الدخل القومي في خزينة الدولة يضعها هؤلاء الرؤساء الفاسدون في حساباتهم الشخصية ببنوك أجنبية كما حدث مع رئيس غينيا الاستوائية السابق الجنرال تيودورو أوبيانج الذي فضحه تقرير لوزارة الخارجية الأمريكية في يناير 2003 كشف تردي أوضاع بلاده الاقتصادية علي الرغم من أن غينيا من الدول المنتجة للنفط واتضح فيما بعد أن الرئيس الغيني كان يقوم بتحويل عائدات البلد إلي حسابه الشخصي ببنك ريجز بواشنطن. وجميعنا يتذكر ديكتاتور نيجيريا السابق ساني أباتشا (1993- 1998) الذي توفي في ظروف غامضة بعد أن نهب من عائدات البلاد مايزيد علي ملياري دولار أودعها في بنوك بريطانيا وسويسرا وللأسف لم تنجح حكومة نيجيريا إلا في استعادة 149 مليون دولار فقط ولعل حظوظ نيجيريا أفضل من بعض الدول الأفريقية الأخري التي لا تستطيع استعادة الأموال المنهوبة من قبل رؤسائها مثلما حدث مع امبراطورية أفريقيا الوسطي الذي قام امبراطورها بوكاسا الذي أزيح عن السلطة عام 1977 بتحويل ملايين الدولارات الخاصة بالبلاد إلي بنوك أجنبية قامت بتجميد هذه الأموال حتي وفاته لتوزيعها علي الورثة الشرعيين الأمر الذي يدفعنا للتساؤل حول ما إذا كانت بعض البنوك الغربية تسعي جاهدة إلي استمرار الفساد في القارة مما يعود بالنفع عليها. ومن الطريف أن لا تقتصر السرقات علي الداخل فقط بل الخارج أيضا فخلال زيارة رئيس الوزراء الاسرائيلي السابق بنيامين نتانياهو والوفد المرافق له لجمهورية جورجيا تم سرقة بعض القطع الفضية الثمينة من المقر المخصص لاستضافتهم وبدلا من التسبب في حدوث أزمة دبلوماسية اكتفي الرئيس الجورجي ادوارد شيفارندزه بارسال فاتورة بقيمة المسروقات إلي نتانياهو. ومن أكثر قصص الفساد واللصوصية إثارة في النزاع العربي الإسرائيلي قصة تورط بطريرك الروم الأرثوذكس في القدس أيرينيوس الأول في فضيحة بيع أراض وعقارات مملوكة للكنيسة لجهات وشخصيات يهودية، مما تسبب في عزل الرجل من منصبه لكن لا الفلسطينيين ولا رجال الكنيسة نجحوا في اسقاط الصفقة التي بلغت قيمتها 135 مليون دولار. ولاشك أن ظروف بعض البلدان تجعلها مطمعا لأطراف خارجية ناهيك عن أطراف داخلية أخري لا يفوتها نصيبها من الكعكة فيما أطلق عليه كاتبنا نصب متعدد الجنسيات مثل ما حدث مع الكونغو الديمقراطية (زائير سابقا) التي شاركت دول وشركات متعددة الجنسيات في نهب ثروات الكونغو استغلالا للظروف التي تمر بها وقد كشف الأمر تقرير للأمم المتحدة صدر عام 2002 وطالب بتوقيع عقوبات علي 29 شركة معظمها غربية كما اتهم التقرير أيضا 85 شركة أخري بانتهاك قواعد السلوك التي وضعتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية. وعلي الصعيد العربي تمتد أنباء سرقة مسئولين عرب لثروات بلدانهم أو تلقيهم رشاوي في سبيل تيسير أمر ما من المحيط إلي الخليج وأغلب المتهمين من فئة الوزراء وكبار الموظفين لكن نادرا ما يتهم رؤساء الحكومات العربية في قضايا من هذا النوع باستثناء اتهام رئيس الوزراء السوري المهندس محمود الزغبي باتهامات مثل هذه عام 2001 وانتهت القصة بانتحاره. ومن العرف السائد أن الخائن يدفع ثمن خيانته لكن أن يخرج الخائن ليطالب بثمن خيانته فهذا هو الغريب بحق لكن هذا هو ما فعله قائد ما كان يسمي بجيش لبنان الجنوبي أنطوان لحد الذي سهل مع شركائه احتلال اسرائيل لجنوب لبنان وبعد انسحاب اسرائيل من الجنوب اللبناني عام 2000 تحت ضربات المقاومة الوطنية اللبنانية بقيادة حزب الله تبعثرت قوات لحد وفرت إلي اسرائيل وعومل أفرادها المعاملة التي يستحقها الخائن وطالبوا اسرائيل بأثمان عمالتهم أما كبيرهم لحد فقد أقام في فندق خمس نجوم بتل أبيب وسرق أموالا خصصتها اسرائيل لقواته. كما يعد النموذج العراقي نموذجا فريدا فقد تعرض هذا البلد لأكبر وأطول عملية نهب شبه منظم فاللصوص مسئولون ومعارضة وغزاة وأصدقاء وحلفاء ومواطنون وجنود بخلاف دول وحكومات وموظفون في هيئات دولية، والمسروقات أرض ونفط وأموال ومنقولات وتاريخ وأشهرها ما تم تحت مظلة الأممالمتحدة تحت مسمي برنامج النفط مقابل الغذاء الذي يوصف بأنه أكبر عملية نهب دولية منظمة تحت ستار الشرعية الدولية. الإهانات ومن الكذب والفساد إلي الإهانة التي أصبحت جزءا من الخطاب السياسي والممارسات السياسية في العلاقات الدولية، وشاعت في السنوات الأخيرة علي نطاق واسع بسبب تطورات مخيفة في النظام الدولي رفعت مستوي الاستفزاز إلي درجة جعلت المفردات الكلاسيكية للتعبير عنه مفردات ضعيفة غير مقبولة، ومن ثم تجاوزت الإهانة حدود النقد اللاذع إلي استخدام مفردات رديئة مثل السب والشتم العلني في مؤتمرات صحفية ومحافل دولية. وفي هذا السياق تعرضت مصر دولة وشعبا إلي إهانات بالغة من الجانبين الاسرائيلي والأمريكي برغم معاهدة السلام الأمريكية ومن أمثلة ذلك تصريح موشيه يعالون مدير المخابرات الإسرائيلية في الثلاثين من مايو 1977 بأن مصر "دولة في حاجة إلي طبيب نفسي" ردا علي مواقف مصر من حكومته بقيادة نتانياهو أنذاك، وزاد يعالون علي ذلك بإهانة مسئولين مصريين بقوله "القادة المصريون مصابون بانفصام الشخصية فهم لم يحددوا أي نهج يسيرون عليه نهج السادات السلمي أم نهج عبد الناصر المعادي لاسرائيل". كما لم تسلم أوروبا من إهانات اسرائيل ففي عام 2001 بث التليفزيون البلجيكي فيلما وثائقيا عن مذابح صابرا وشاتيلا كشف من خلاله الوجه القبيح للديمقراطية الإسرائيلية وردت اسرائيل علي ذلك بإهانة الوفد الأوروبي برئاسة رئيس الوزراء البلجيكي جي مير هو فستارت خلال زيارته تل أبيب وشهد الاجتماع بين الطرفين توجيه سباب للوفد والأوروبيين. ولا تمر الإهانة مرور الكرام إذا مست إحدي الدول الكبري كفرنسا ففي يونيو من عام 2004 دعا رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون يهود فرنسا إلي الهجرة إلي اسرائيل تحت دعوي عدم وجود مناخ آمن ببلدهم الأمر الذي اعتبرته باريس إهانة شديدة وخطأ دبلوماسيا لا يغتفر مما دفع الرئيس الفرنسي جاك شيراك إلي التصريح بأن شارون "شخص غير مرغوب فيه في فرنسا". ومع تجرع الولاياتالمتحدة مرارة هجمات الحادي عشر من سبتمبر عام 2001 انطلقت موجة عدائية ضد العرب والمسلمين في العالم أجمع تخللتها إهانات لشخصيات وشعوب عربية واسلامية أبرزها تصريحات نائب وكيل وزارة الدفاع الأمريكية الجنرال ويليام بوكين في اكتوبر 2003 عندما قال أمام تجمع كنسي "المسلمون يعبدون وثنا وليس إلها حقيقيا..."، والغريب هو الصمت المطبق من قبل إدارة الرئيس بوش إزاء هذه التصريحات ولكن مع المخاوف من ردود الأفعال صدر الاعتذار الذي لم يأت علي هوي الكثيرين حيث جاء "ليس علي التصريحات ولكن لمن أثارت هذه التصريحات مشاعرهم". وبدأت مرحلة الألفاظ البذيئة بعد شهر من احتلال العراق بعد أن تفجرت مشاعر الغضب مرة أخري لا سيما بعدما تكشف كذب ما روجته الإدارة الأمريكية من مزاعم حول حيازة العراق أسلحة دمار شامل، فقد أهان عمدة لندن كين ليفنجستون في مايو 2003 الرئيس الأمريكي بسبب سياساته وعبر صراحة عن رغبته الإطاحة ببوش كما كان يرغب الأخير في الإطاحة بصدام و وصف الرئيس الأمريكي بأنه "جبان وفاسد". وشهدت قمة عدم الانحياز التي عقدت في كوالا لمبور قبل شهر من بدء العدوان الأمريكي علي العراق ألفاظا بذيئة أخري فوصف الرئيس الزيمابوي روبرت موجابي بوش بأنه "طاغية" وبلير بأنه "الاستعماري الجديد" والدول الحليفة لهما في العدوان "بكلاب صيد متوحشة تتشمم بحثا عن المزيد من الدماء في العالم الثالث".